في 1918، ضربت العالم الإنفلونزا الكبرى فأودت بحياة ما بين 25 و100 مليون شخص على مدى ثلاث سنوات. وأزهقت الجائحة أرواح أناس في مقتبل أعمارهم، وكان معظم الضحايا في سن بين الـ20 والـ40 سنة. وفي الولايات المتحدة، حيث توفي نحو 675 ألف شخص، قدر بعضهم أن الجائحة أدت إلى خفض متوسط العمر المتوقع بنحو 12 سنة. وعلى رغم الدمار الذي سببته الإنفلونزا الكبرى، سرعان ما تابع الناس أمور حياتهم وتلاشت الذكريات المؤلمة. وأخذ الأميركيون، تحديداً، يفكرون في هذه الحوادث بوصفها جزءاً من الماضي، بقايا من زمن المجمعات السكنية الفقيرة والطب القديم.
وطوال ما تبقى من القرن العشرين، تلافت الولايات المتحدة أسوأ ويلات الجوائح الأخرى، الإنفلونزا الآسيوية (1957 -1958)، وإنفلونزا هونغ كونغ (1968)، والإنفلونزا الروسية (1977). وكلها شدت رحالها عن البلاد من دون أن تتأذى هذه نسبياً. وعند تسجيل الإصابة الأولى بفيروس نقص المناعة البشرية ("الأيدز") في الولايات المتحدة، في 1981، رفض كثر الإقرار بهذا الداء بشدة باعتباره مجرد "طاعون يصيب المثليين جنسياً"، حتى عندما قتل زهاء 675 ألف شخص من الهويات الجنسية كافة في الولايات المتحدة. وشعر الأميركيون أنهم في مأمن من أسوأ أحوال تفشي متلازمة الالتهاب التنفسي الحاد ("السارس") بين 2002 و2004، وتجنبوها إلى حد كبير، ومن إنفلونزا الخنازير في 2009، ومتلازمة الشرق الأوسط التنفسية ("ميرس") في 2012.
بيد أن "كوفيد-19" أيقظ العالم بأسره من سباته. فبالكاد يمكن لأي امرئ الادعاء أن حياته لم تتعطل على نحو ما لأن الجائحة أغرقت المستشفيات بالمرضى، وأغلقت أبواب المدارس والمدن، وعزلت المناطق والبلاد بعضها عن بعض، وأوقفت عجلة الاقتصادات [أصيبت بالشلل]. وقتلت كثيرين، طبعاً. فحصدت، في الولايات المتحدة، إلى اليوم، ضعفي عدد وفيات الإنفلونزا الكبرى. وإلى سبتمبر (أيلول) 2022، كانت منظمة الصحة العالمية (WHO) أحصت 6.5 مليون وفاة بسبب "كوفيد-19". وقد يبلغ العدد الحقيقي ضعفي أو ثلاثة أضعاف هذا الرقم. وأدى حجم الجائحة المهول إلى الشعور بالاستسلام والتفكير الحالم. ومن دون شك، نالت الإنسانية وقت راحة طويلاً من هذا الرعب. وتوقيت الجائحة، الذي جاء بعد 100 عام تقريباً من جائحة 1918، حمل معه مقارنات بـ"الفيضان الذي يطرأ كل مئة عام". ويشير المصطلح الاكتواري هذا إلى احتمال وقوع كارثة، في نسبة واحد في المئة، في أي سنة من السنين، ولكن ثمة اعتقاداً خاطئاً بأن هذا المصطلح يعني أن النجاة من حادثة من هذا القبيل، تضمن 100 عام من الأمان. وبعد كل الوفيات والاضطرابات التي جلبها "كوفيد-19"، تختلج في نفوس الناس، طبعاً، رغبة في الاعتقاد أن الجائحة كانت حادثة لا تقع سوى مرة واحدة في القرن.
ولم يكن العيب الحقيقي، للأسف، في الجائحة نفسها، ويعود السبب إلى المئة عام الماضية من السكينة النسبية. وطوال الوقت، كان خطر انتشار الجوائح يزداد ويتعاظم، والأسباب كثيرة. ومن بينها النمو السكاني، والتحضر، وزيادة استهلاك اللحوم، وانتهاك الحياة البرية. وتفاقم هذه العوامل، مجتمعة، خطر انتقال فيروسات الحيوانات إلى البشر. وما إن تصيب الفيروسات المستجدة الناس، حتى تذكي عوامل أخرى احتمال انتشارها بسرعة إلى دائرة أوسع من دائرة منشئها. ومع تنامي السفر مسافات طويلة، في مقدور الكائنات الدقيقة المسببة للأمراض، الآن، عبور الكرة الأرضية في ساعات. ويرفع اتساع التجمعات الجماهيرية، بدءاً بالأولمبياد ومروراً بمهرجان أكتوبر (تشرين الأول) في ألمانيا (أكتوبر فيست)، ووصولاً إلى الحج في السعودية، فرص التفشي الفائق التي تصيب أعداداً مهولة من الناس في وقت واحد. ومنذ مئة عام، كان المزارع الذي يصاب بإنفلونزا الطيور، أثناء ذبح طيوره، يعيش على الأرجح حياة ريفية. ومن المحتمل، تالياً، أن ينقل العدوى إلى أفراد عائلته أو أبناء قريته فحسب. واليوم، قد يعمل ذلك المزارع في مسلخ صناعي، على مقربة من مدينة كبيرة، ويستقل بيسر طائرة، وينقل العدوى إلى مسافات بعيدة عبر العالم، قبل أن يشعر حتى بأضعف عرض.
وقاد تزايد أعداد الحيوانات والنمو السكاني، إلى التطور الصناعي والتوسع العمراني والعصرنة، إلى تفاقم خطر انتقال الأمراض إلى البشر وانتشارها، ولكن التطورات الحديثة أعطت العالم أدوات جديدة للوقاية من العدوى، وتتبعها واحتوائها، ما حال دون تغلب الكائنات الممرضة على الحواجز الطبيعية والقفز من نوع إلى آخر، ومن ثم التحول إلى فوضى عالمية.
وفي عبارة أخرى، لا مناص من قفزات تحول مسببات الأمراض من نوع حي إلى نظيره. وكذلك الأمر في شأن أحوال التفشي، ولكن الجوائح ليست كذلك. وعليه، فإن أعظم مهام الإنسانية الآن بذل كل ما في وسعها لقطع الصلة بين الجهتين، الأولى والأخيرة. وأصبحت مهمة العلم الحديث أسهل من أي وقت مضى، ولكنها تتطلب أيضاً عناصر بالغة الأهمية، إلا أنها معدومة في عصر "كوفيد-19"، ألا وهي السرعة، والتعاون، والثقة المتبادلة. ومن دون التغلب على أوجه القصور هذه، لن تنقطع السلسلة.
انتشار مسببات الأمراض
من الصعب إحصاء عدد الفيروسات المنتشرة بين الحيوانات، ولكنه، لا ريب، مذهل. وبحسب أحد التقديرات، ثمة أكثر من 300 ألف فيروس حيواني لم يشخص العلماء خصائصها بعد. وفي كل دقيقة تقريباً، وفي بقعة ما على وجه المعمورة، يجد فيروس حيواني طريقه إلى الإنسان، في حدث يسمى "انتقال حيواني المنشأ". وربما يصاب مزارع في ريف أميركا بنوع مستجد من إنفلونزا الخنازير، في مزرعة خنازير يملكها. وربما تنزل العدوى بصياد طرائد في جمهورية الكونغو الديمقراطية نوعاً من جدري القرود، أثناء إمساكه بقرد الشامبانزي. أو ربما يجد فيروس "كورونا" مستجد طريقه إلى زائر في سوق لبيع الحيوانات البرية في مدينة صينية ما.
وفي معظم الأحوال، تنتهي القصة عند هذا الحد، من غير أن ينتقل العامل الممرض من الشخص المتلقي إلى شخص آخر، غالباً لأن الفيروس كان يتوسل بالدم، في البداية، ولم يتحول أبداً إلى مرض سهل الانتشار تتداوله الكائنات الحية عبر الجهاز التنفسي. وفي أحوال أخرى، يؤدي انتشار العدوى إلى مجموعات صغيرة من حالات مرضية تكتب خاتمتها سريعاً. ولا ننسى أنه، في صيف 2021، بينما كان العالم منصرفاً إلى "كوفيد-19"، تلقت "منظمة الصحة العالمية" تنبيهات إلى أكثر من خمسة آلاف حالة تفش جديدة حول العالم، احتل قليل منها عناوين الصحف العالمية. ومع ذلك، يصادف في بعض الأحيان العالم الحظ السيئ، وينتشر متحور جديد في الهواء، في أثناء وقوع الأحوال الأولى القليلة، ولكن يبدو أن معدل الانتشار غير المباشر أخذ في الازدياد، على رغم أن مداه لا يزال غير واضح، نظراً إلى أن جزءاً من العرض قد يكون ظهوره نتيجة رصد أسرع وأفضل للعدوى. وفي كل عام، تفيد تقارير أن نحو واحد إلى ثلاثة فيروسات مستجدة تنطوي على إمكان إطلاق جائحة تنتقل من الحيوانات إلى البشر.
ولكن إلام تعزى الزيادة الطفيفة في انتشار الفاشيات؟ إنها في اختصار، الحداثة. فعدد سكان العالم تضاعف أكثر من ثلاث مرات بين 1950 ويومنا، مما دفع أعداداً إضافية من البشر (وحيواناتهم الأليفة) إلى الاحتكاك بالحياة البرية. ومع تضاعف سكان العالم، قطعت مساحات لا تحصى من الأفدنة في الغابات. ولم يكن الغرض الحصول على الأخشاب فحسب، بل رمى القطع إلى إفساح المجال أمام شق الطرقات وتشييد المدن والمصانع والمناجم الجديدة، وقبل هذه كلها، إلى إنشاء المزارع. والحق أننا، نحن البشر، أكثر الأنواع الحية الغازية اجتياحاً لبيئات أخرى غير بيئاتها: لقد حول البشر نصف المساحات الصالحة لاحتضان الأنواع الحية على كوكب الأرض إلى أراض مستخدمة في زراعة المحاصيل، وتربية المواشي والدواجن. وبدوره، زاد تغير المناخ طين هذه المشكلات بلة. وقاد إلى فقدان المزيد من الموائل، وحمل الحيوانات البرية على ترك مناطق المناخ الأكثر سخونة إلى المناطق الأكثر برودة، حيث تخالط، على الأرجح، حيوانات جديدة وأعداداً إضافية من الناس. وتسبب هذا التحول في شح المياه، وتلف المحاصيل، ودفع بالبشر إلى المدن الضخمة، ومخيمات المهاجرين حيث تنتشر مسببات الأمراض بسهولة. وكذلك صارت مواسم التكاثر أطول من ذي قبل، وتوسعت موائل القراد والبعوض والذباب الحاملة للأمراض.
ولا تمد الجوانب الأخرى من الحداثة يد المساعدة. فارتفع استهلاك لحوم الطرائد على الطرفين المتناقضين من السلم الاقتصادي، ولجأ الفقراء إلى الحياة البرية كمصدر بروتيني غير مكلف. وتوجه الأغنياء إلى أنواع حية غير تقليدية. ويجمع الصيادون، سنوياً، نحو ستة ملايين طن من لحوم الطرائد من حوض نهر الكونغو وحده. وفي الوقت نفسه، تزدهر تجارة الحيوانات الأليفة الغريبة. ويعتني مزيد من الناس بحيوانات كانت سابقاً تعيش في البرية فقط. أضف إلى ذلك أن تنامي تربية الدواجن في الفناء الخلفي للمنزل جلب الماشية المستأنسة إلى المناطق الحضرية.
ومنذ مئات السنين، تسببت في معظم الأوبئة الكبيرة، شأن الطاعون والكوليرا، بكتيريا أو أمراض مألوفة جداً، إلى حد أنها كانت تعتبر وضعاً اجتماعياً طبيعياً، ولكن معظم الجوائح تبدأ، الآن، مع انتشار الفيروسات. وربما كان ابتداء إنفلونزا عام 1918 في مزرعة خنازير أميركية. وجاء كلا الإنفلونزا الآسيوية (1957 -1958) وإنفلونزا هونغ كونغ (1968) من الطيور. وتنقلت إنفلونزا الخنازير، عام 2009، بين الأنواع الحية من الخنازير، التي كانت في مثابة أوعية اختلطت فيها سلالات إنفلونزا الخنازير والطيور والبشر. ومنذ ظهور المضادات الحيوية واللقاحات الحديثة، بدأت غالبية الأمراض المعدية المستجدة، من الأنواع كلها، على شكل عدوى فيروسية حيوانية قبل أن تنتقل إلى البشر. ومن المحتمل أن يكون "سارس- كوف- 1"، الفيروس الذي تسبب في اندلاع "السارس" بين 2002 و2004، و"سارس- كوف- 2" الفيروس الذي خلف جائحة "كوفيد-19"، قد انتقلا من الخفافيش، شأن فيروس "إيبولا" Ebola. وجاء الفيروس الذي كان السبب في "ميرس" من الإبل. ويعود فيروس نقص المناعة البشرية، في أصوله، إلى الشامبانزي. وربما تسلل الجدري إلينا من أحد القوارض.
تسرب الفيروسات من المختبرات
وعلى رغم أن التنقل الطبيعي للكائنات الممرضة بين الأنواع الحية هو المنشأ المرجح للجائحة التالية، فإنها، نظرياً، قد تتفشى بطريقة أخرى: من المختبر. فبعد معاهدة عام 1972 التي تحظر الأسلحة البيولوجية، بذل الاتحاد السوفياتي جهداً تكلف مليار دولار لتطوير هذا المورد. واشتملت إحدى المحاولات على الجمع بين الجدري والـ"إيبولا" في فيروس "كيميرا" chimera واحد [فيروس هجين من جين مأخوذ من فيروس الجدري وجين آخر من فيروس إيبولا، ولا يجدي اللقاح معه ولا يتوفر علاج له]. وأخفقت هذه التجربة، أسوة بتجارب أخرى تضمنت "الجمرة الخبيثة" (الأنتراكس) و"التولاريميا"، ولكن عمالاً سوفيات كثراً ماتوا خطأ في المختبرات السرية التي شهدت هذه التجارب.
غير أن الحوادث البريئة الأخرى، من دون قصد، تبقى أكثر احتمالاً. وغالباً ما تكون المختبرات مرتعاً لمجموعات كبيرة من القرود والجرذان والخفافيش، وفي مقدورها كلها أن تنقل العدوى إلى العمال في هذه البيئات. وتنتشر العوامل المعدية عبر أطباق المختبر أو غيرها من معدات. وهكذا، على ما يبدو، أوقع الجدري الضحية الأخيرة له: في 1978، وكان العالم على أعتاب استئصال المرض، توفيت جانيت باركر، التي كانت مصورة فوتوغرافية طبية في جامعة بريطانية، بعدوى الجدري بعد أن التقطته بطريقة ما في المختبر حيث كانت تعمل.
والنقاش حول احتمال تسرب "سارس- كوف- 2" من المختبر حاد. ويتفق الجميع تقريباً على أن البؤرة المبكرة لجائحة "كوفيد-19" كانت "سوق هوانان لبيع المأكولات البحرية بالجملة" في ووهان بالصين، حيث بيعت الآلاف من الحيوانات البرية الحية. أما الخلاف فيدور حول ما إذا كانت السوق موقع الانتشار الأصلي الذي أدى إلى ظهور الجائحة، أم إنها مكان أول حادثة تفش فائق. وعلى رغم عدم العثور على حيوان بري واحد مصاب بـ"سارس- كوف- 2" في تلك السوق، فإن المحققين الصينيين رصدوا مادة جينية وراثية من الفيروس في عينات جمعت من الأسطح في السوق، قبل أن يصار إلى تنظيف المنطقة بسرعة.
ويؤكد معظم مؤيدي نظرية "التسرب من المختبر" أن "سارس- كوف- 2" نشأ في "معهد ووهان لعلم الفيروسات"، حيث يعتقد أن الباحثين أجروا تجارب على فيروسات الخفافيش، تتناول ما يسمى "اكتساب الوظائف"، علماً بأنه نوع من البحوث يقوم بتعديل الفيروسات وراثياً لجعلها أكثر قابلية للانتقال، كجزء من جهود العلماء لفهم كيفية انتشارها، وكيف في المستطاع منعها أو علاجها [بهدف إعداد تدابير استباقية من الجائحة المتوقعة النتيجة في حال تطورها بشكل طبيعي]. وصبت بكين، بدورها، الزيت على نار هذه النظرية عندما أغلقت المختبر في أوائل 2020 أمام التفتيش الدولي، ولكن لا دليل على أن "معهد ووهان لعلم الفيروسات" يحتوي على فيروسات تشبه إلى حد بعيد "سارس- كوف- 2"، بينما تحقق أن الخفافيش في البرية مصابة بفيروسات على هذه الشاكلة. وإلى ذلك، يقع "معهد ووهان لعلم الفيروسات" على بعد أكثر من 10 أميال من "سوق هوانان لبيع المأكولات البحرية بالجملة".
ولكن مختبراً مختلفاً، "مركز ووهان للسيطرة على الأمراض والوقاية منها"، يبعد 300 ياردة فقط (274.32 متر)، أي بضع دقائق سيراً على القدمين، من "سوق هوانان لبيع المأكولات البحرية بالجملة". ويعتقد أن هذا المختبر كان منخرطاً في برنامج لجمع الفيروسات من الحيوانات البرية، من بينها الخفافيش. ولما فشا "السارس" بين 2002 و2004، وجاء من الخفافيش ربما، فليس من الغريب أو الشائن جمع عينات من هذه الحيوانات المصابة بفيروس "سارس- كوف- 2". وإذا أصيب موظف في المختبر بالفيروس هناك، فقد يدل ذلك على ضعف في مستوى التطبيقات العملية في المختبر، وليس على نية جرمية.
وقد لا يعرف العالم أبداً كيف بدأت جائحة "كوفيد-19". وبينما يتقلص أثر الفيروس، لا تبرح احتمالات تحديد منشئه تتضاءل. ويمكن للمرء أن يقول بثقة إن لا دليل موثوقاً به على أن "سارس- كوف- 2" معدل وراثياً. وحتى إذا أراد عالم مجنون أن يصنع هذا الفيروس، فإن كثيراً من السمات التي تجعله قابلاً للانتقال كانت غير معروفة في 2019، إذ يكشف الظهور السريع للمتحورات الجديدة أن الفيروس لا يحتاج إلى مساعدة من الهندسة الجينية. وإلى ذلك، لا قرار في هذا الشأن بعد. فمن وجه، يتوافق الاتجار الرائج بالحيوانات البرية في السوق ومجموعات العدوى القريبة مع النظرية القائلة إن "سارس- كوف- 2" قد نشأ في وسط حيوانات بيعت هناك. ومن وجه آخر، لا يسعنا استبعاد احتمال تسرب الفيروس من الخفافيش في مختبر قريب من السوق، أو من جامعي الخفافيش، أو جواز إصابة موظفين في المختبر بالعدوى وجلبوا الفيروس إلى السوق. ومن المهم معرفة مصدر "سارس- كوف- 2". ولكن، في نهاية المطاف، يحتل حل اللغز أولوية أدنى من الإقرار بأن تسرب الكائنات الممرضة من المختبر، أو من السوق، قرينة على مسارات ظهور جوائح.
الجائحة الكبرى التالية
ومن بين أحوال تفش كثيرة، وأوبئة وجوائح كبيرة من الأمراض المستجدة التي شهدتها المئة عام الماضية، تركت الإنفلونزا الكبرى و"كوفيد-19"، من دون الجوائح الأخرى، عواقب كارثية. فماذا عن الجائحة "الكبرى" المقبلة؟ لدى علماء الجوائح معلومات وافية عن أنواع الأمراض التي تختصر قائمة الفيروسات. وقد نجد أنفسنا أمام فيروس ينتقل بشكل طبيعي نتيجة اتصال الإنسان بالحيوانات، ومدة حضانته قصيرة، وينتشر بسرعة بواسطة المسار التنفسي، ويقود هذا إلى انتشار سريع. وتبرز هنا عائلتان من الفيروسات.
العائلة الأولى هي فيروسات "كورونا". وتنتشر غالباً عبر تنفس الهواء المشترك مع مصاب، وتكون مدد حضانتها قصيرة، يومين أو ثلاثة أيام أحياناً، وتطرأ عليها في معظم الأحوال تحورات غير مفهومة، وتنقسم بسهولة إلى متحورات وأنواع متفرعة. وأشهر فيروسات "كورونا"، بلا ريب، هو "سارس- كوف- 2". وتؤدي عناصر أسرة "كورونا" الأخرى إلى معدلات وفيات أعلى كثيراً. و"سارس- كوف- 1"، السلالة المسؤولة عن تفشي "السارس" (2002 -2004)، قتل ما بين 10 و60 في المئة من المصابين، بحسب الأعمار. ويقدر معدل وفيات "ميرس- كورونا"، المسبب لمتلازمة الشرق الأوسط التنفسية، بنسبة 35 في المئة من المصابين. وافترقا في أن ما افتقر إليه "سارس- كوف- 2"، وافتقرت إليه طبيعته الفتاكة، عوضه قدرة على العدوى. ومع ذلك، على قدر ما كان "كوفيد-19" مدمراً، كان ليكون تدميره أقوى لو طور "سارس- كوف- 1" و"ميرس- كوف" في عجلة الحظ الجينومية، متحورات قابلة للانتشار على شاكلة "سارس- كوف- 2". وهذا الحظ قد لا يدوم.
معظم الجوائح تبدأ، الآن مع انتشار الفيروسات
وتحتل فيروسات الإنفلونزا الشديدة العدوى مرتبة العدو الرقم واحد للشعب. وتصنف، استناداً إلى بروتينين على سطح الفيروس، "هيماغلوتينين" Hemagglutinin و"نورامينيداز" Neuraminidase، وهما يعطيان المتحورات أسماءها، مثل "أتش 1 أن 1"H1N1 (الذي تسبب بجائحة إنفلونزا 1918) و"أتش 2 أن 2" (الذي تسبب بالإنفلونزا الآسيوية 1957 و1958). ومع وجود 18 بروتيناً معروفاً من "الهيماغلوتينين" و11 بروتيناً معروفاً من "النورامينيداز"، تتكاثر التبديلات والتراكيب الجينية، ما يؤدي إلى عدد كبير من المتحورات. وهذا أحد أسباب صعوبة صنع لقاحات مضادة للإنفلونزا الموسمية تتطابق مع تركيبة "هيماغلوتينين" و"نورامينيداز" التي تنشب في كل عام.
وتجدر الإشارة إلى أنه في المئة عام الماضية، تمكنت هاتان المجموعتان فقط من الأمراض، فيروسات "كورونا" و"الإنفلونزا"، من إحداث قفزة من الحيوانات إلى البشر، وأثبتت أنها تتمتع بمزيج من القابلية على الانتقال من مضيف إلى آخر ومن الطبيعة الفتاكة، يفضي إلى جوائح كارثية. ومع حدوث مزيد من التبادلات الفيروسية بين الإنسان والحيوان، وبعض الطفرات الجينية، ليس بعيداً أن يصيب البشرية فيروس "كورونا" مستجد، أو فيروس إنفلونزا يملك قدرة على الانتشار، مثل "أتش 1 أن 1"، ويقتل مثل "ميرس". وجائحة على هذه الشاكلة من شأنها أن تتهدد بقاء جنسنا البشري ذاته.
فيروسات أخرى
وتأتي في المرتبة التالية من لائحة الأمراض غير المرغوبة تلك التي تنقلها الحشرات. ومصدر القلق الرئيس عدوى تتسبب بها فئة من الفيروسات تسمى "أربوفيروسز" arboviruses، وهي تنتقل إلى الإنسان بواسطة نواقل من مفصليات الأرجل، معظمها حشرات مثل البراغيث والقراد والناموس والبعوض. ومن أبرز الفيروسات في هذه الفئة "الحمى الصفراء" yellow fever، و"غرب النيل" West Nile، و"زيكا" Zika، و"الشيكونغونيا" Chikungunya، و"حمى الضنك" Dengue، و"التهاب الدماغ الياباني" Japanese encephalitis. وتنتشر جميعها في الأساس من طريق البعوض، ما يجعل هذه الحشرة الأخطر على قيد الحياة. وعلى رغم أن هذه الفيروسات لا تنتقل بشكل خاص من إنسان إلى آخر من طريق الاحتكاك العرضي، فإنها يمكن أن تنتشر عبر عمليات نقل الدم وزرع الأعضاء، فضلاً عن المجامعة الجنسية.
وتنذر "الأورثوبوكس"، وهي فئة من الفيروسات ينتمي إليها الجدري، بوقوع جائحة، ولكن السبب الذي يزيح فيروسات "الأورثوبوكس" من صدارة القائمة اليوم أن القاتل الأكبر في هذه المجموعة، "الجدري الرئيس" (فاريولا) Variola major، الذي يتسبب بالجدري، أعلن القضاء عليه تماماً في 1980، بعد حملة استمرت عقوداً. وعلى رغم عدم حدوث إصابة منذ ذلك الحين، فإن الفيروسات المعدية محصورة، وبموجب اتفاق "منظمة الصحة العالمية" عام 1979، في مختبرين "مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها" في أتلانتا الأميركية، و"معهد فيكتور" في سيبيريا، ما يثير احتمالاً مرعباً بوقوع حادثة في المختبر، أو وقوع تسرب متعمد، يؤدي إلى نشر هذه الكائنات الممرضة. وإذا وضعنا الجدري جانباً، لا شك في أن فيروسات "أورثوبوكس" الأخرى تستحق القلق، ومن بينها جدري القوارض، وجدري الخيول، وجدري الإبل، وجدري القرود. ربما يتحور أحدها بمرور الوقت ليصبح مميتاً شأن الجدري.
غالبية الجوائح تظهر الآن نتيجة انتشار فيروسي بين الأنواع الحية
وأحد الأسباب التي بعثت على قلق شديد من تفشي جدري القرود عام 2022، هو توطن المرض في القوارض والرئيسيات الأفريقية. وفي 1970 فقط رصدت أول إصابة لدى البشر. وطوال المدة المتبقية من سبعينيات القرن العشرين، سجل عدد قليل من الحالات سنوياً. وبعدها قضي على داء الجدري. وترك هذا، في المقابل، عواقب مؤسفة في ما يتعلق بجدري القرود. ووفر لقاح الجدري حماية ممتازة من جدري القرود. ومع زوال الجدري كانت نهاية التلقيح الإجباري ضد الجدري في مختلف أنحاء العالم. وفي العقود التي تلت ذلك، مع ترك كثير من الأشخاص المولودين بعد 1980 من دون حصانة من الجدري، ارتفع معدل الإصابة بجدري القرود ليبلغ نحو ثلاثة آلاف حالة سنوية في السنوات الأخيرة. وسجلت هذه الحالات كافة تقريباً لدى أشخاص غير محصنين، وكانت محصورة في أفريقيا، وظهرت داخل مجموعات صغيرة من الناس، وليس مستبعداً أن مردها إلى انتقال العدوى من القوارض إلى القردة، ثم إلى البشر.
وتغير هذا النمط في مايو (أيار) 2022، عندما بدأ تفشي المرض في أوروبا وانتقل من شخص إلى آخر، خصوصاً بين أوساط الرجال الذين يمارسون الجنس مع رجال مثلهم. ويدق المرض اليوم أبواب أكثر من 90 بلداً للمرة الأولى. ومن حسن الحظ، أن من بين العائلتين المعروفتين من جدري القرود، الوباء الحالي هو من النوع الأقل ضراوة. وإلى ذلك تتمتع لقاحات الجدري الموجودة أصلاً ولقاحات جدري القرود الجديدة، بفاعلية ممتازة، بل إن بعضها يجدي نفعاً عند أخذه في وقت متأخر، بعد أيام عدة من التعرض للعدوى. وعلى رغم أن عدد إصابات جدري القرود أخذ في التناقص، فلا يزال يتهدد العالم خطر رهيب، وإن كان ضئيلاً، هو احتمال أن ينقل المصابون بجدري القرود المرض، في اتجاه معاكس، إلى الحيوانات، والقوارض في المدن الكبيرة على الأخص. وإذا توطن جدري القرود في الجرذان أو الفئران، في نيويورك أو ساو باولو أو طوكيو، مع مرور الوقت، قد يصير هذا الفيروس الذي يتحور على نحو بطيء، أكثر خفة من الجدري، فينتشر تالياً عبر المسار التنفسي ويزهق أرواح كثيرين.
وربما تكون الجائحة التالية بكتيرية وليس فيروسية. والجائحة الأكثر بطشاً في التاريخ المدون "الموت الأسود"، كان السبب فيها بكتيريا "بريسينية طاعونية" Yersinia pestis التي تنقلها البراغيث. وقتل المرض، في 1346، ثلث سكان أوروبا. ومنذ ظهور المضادات الحيوية، في منتصف القرن العشرين، بقي الطاعون والأمراض البكتيرية الوبائية المحتملة، كالكوليرا والسل، تحت السيطرة، ولكن البكتيريا لا تزال تترصدنا. وسجلت الولايات المتحدة، في 2021، أكثر من 100 إصابة، وتبقى نافذة ظهورها وانتقالها مشرعة على الدوام.
وتعاظم هذا الخطر، مع تطوير البكتيريا إواليات تسمح لها بمقاومة المضادات الحيوية المستعملة، وطرح قليل من المضادات الحيوية الجديدة كل الجدة في الأسواق. ومعلوم أن البكتيريا، شأن الفيروسات، تستجيب للضغط التطوري الذي يمارسه المضيف بنظامه المناعي، وتختار الطبيعة البكتيريا ذات الطفرات التي تسمح لها بالتهرب من الدفاعات القائمة. والنتيجة أشكال من عدوى علاجها عسير، مثل السل المقاوم للأدوية المتعددة، و"المكورات العنقودية الذهبية المقاومة للميثيسيلين" المعروفة أيضاً باسم "أم آر أس أي" (MRSA)، و"المكورات العنقودية الذهبية المقاومة للفانكومايسين" أو "في آر أس أي" (VRSA)، بل من الجائز أن تفقد أدوية البنسلين، والمضادات الحيوية الأساسية الأخرى، قوتها على السيطرة على الأمراض المنقولة جنسياً كداء "الزهري" (السفلس) Syphilis، ما يعيد المجتمع إلى الحقبة الديكنزية [تذكرنا ببيئات ومواقف في كتابات تشارلز ديكنز كالفقر والظلم الاجتماعي وجوانب أخرى من إنجلترا الفيكتورية].
وأخيراً وليس آخراً، ثمة أمر جديد تماماً. فمع مئات الآلاف من الفيروسات التي لم تشق طريقها بعد إلى البشر، بل تتفشى الآن بين الحيوانات، يجدر بالعلماء التواضع في شأن التفاصيل الكثيرة التي لم ينبشوا حقيقتها بعد. وعليه بادرت "منظمة الصحة العالمية" إلى تحديد ما تسميه "العامل الممرض إكس" Pathogen X. وربما نشهد تفشياً جديداً لفيروس خفي منذ مدة طويلة، كما كانت الحال مع فيروس "زيكا"، الذي، على رغم رصده في 1947، فلم يظهر في صورة تهديد كبير حتى 2015. وقد نواجه مرضاً غير معروف تسببه عائلة من فيروسات حيوانية لم يتعرف إليها العلماء بعد، شأن الحال الأولى لفيروس نقص المناعة البشرية "الأيدز". أو نواجه تهديداً آخر تماماً.
من جد وجد
ووقف انتقال الكائنات الممرضة من نوع حي إلى نوع آخر هو نقطة البداية المنطقية للوقاية من الجائحة. ولما كانت القوى المحركة الرئيسة للقفزات الفيروسية ثمرة أطوار طويلة المدى من الصعب عكس مسارها، كالنمو السكاني، والهجرة، وتغير المناخ، وانتهاك موائل الكائنات الحية- يبدو أن ليس في اليد حيلة واسعة على العمل. وتسمح الابتكارات في رصد الأمراض الحيوانية ومراقبتها للعلماء باكتشاف الفيروسات الحيوانية قبل أن تنتقل إلى البشر. وفي مستطاع الناس، بواسطة التطبيقات الرقمية التي تستخدم الهواتف الذكية وخطوط الاتصالات المباشرة والطارئة الإبلاغ عن مرض غير عادي ظهر في الماشية أو الدواجن، وعن نفوق غير متوقع بين الحيوانات البرية، ما يمنح السلطات المعنية فرصة تحديد المرض، وإبادة الحيوانات المصابة، بحسب الحاجة، وفرض الحجر الصحي على القريبين من المرض. وتتصف هذه البرامج بالفاعلية، مقارنة بكلفتها، وتبقى عملية أكثر من أي وقت مضى، نظراً إلى توافر الهواتف المتصلة بالإنترنت في كل مكان، ولا ريب في أنها جديرة بتوظيف الاستثمارات فيها. وعلى الحكومات، في سبيل قطع الطريق على انتقال الكائنات الممرضة من الحيوانات إلى البشر، أن تتخذ إجراءات صارمة تحظر التجارة غير المشروعة بالأحياء البرية الغريبة وبيعها في الأسواق المزدحمة. والحق أن ضرر هذه لا يقتصر على نشر المرض، بل هي تسهم في تعريض الأنواع الحية للخطر. وأما تقليص أخطار حوادث المختبرات، فيستدعي من الحكومات وضع معايير دولية قوية وشفافة تشترط الالتزام بتدابير احترازية دقيقة، خصوصاً في المختبرات التي تخزن عينات حيوانية.
ومن وجه واقعي، وفيما يعني المستقبل المنظور، لا مناص من حدوث بعض الطفرات من الكائنات الممرضة إلى البشر. ولكن، للأسف، يبقى الشروع في معظم الجهود المبذولة في سبيل درء الأوبئة رهناً بتسجيل الفيروس ضحيته البشرية الأولى، ويضطلع الوقت بدور جوهري. فكلما كان اكتشاف الانتشار سريعاً، كان احتواؤه أسرع. ويتعسر وقف الانتقال حين تتكيف الفيروسات مع البشر، فتصبح العوامل الممرضة أكثر كفاءة على التكاثر، وعلى التملص من أجهزتنا المناعية، كما يتجلى في نحو 100 توليفة جينية وطفرة من "سارس- كوف- 2". ولحسن الحظ، صار الكشف عن أي تفش أسرع وتيرة بفضل التكنولوجيا الجديدة، والقوى العاملة الكبيرة في مجال الصحة العامة. فقبل 20 عاماً، كان بلوغ أخبار مرض متفش، في منطقة نائية، إلى إدارة الصحة الوطنية يستغرق ستة أشهر ربما، وهذا يساوي دهراً على مستوى الانتشار الوبائي. واليوم، في المستطاع رصد التفشي نفسه في غضون أسبوع أو أسبوعين منذ بدايته.
وبعض التطورات الأكثر إلهاماً مصدرها مناطق في آسيا تشكل بؤراً لانتقال الفيروسات وغيرها بين الأنواع الحية. وعادة ما يرتبط انتقال إنفلونزا الطيور، وفيروسات "كورونا"، من الحيوان إلى الإنسان في جنوب آسيا وجنوب شرقي آسيا، لا سيما في حوض نهر ميكونغ وحوله (تضم المنطقة مزيجاً من العوامل الفتاكة، فهي ممر للطيور المهاجرة، وتتوزع فيها مزارع كثيرة يتغذى فيها الدجاج والخنازير على مقربة بعضها من بعض، وتتميز كذلك بكثافة سكانية عالية). والإنفلونزا الآسيوية (1957 -1958)، إنفلونزا هونغ كونغ (1968)، و"السارس" (2002 -2004)، نشأت جميعها في جنوب الصين ومحيطها.
ولكن التكنولوجيا قادرة على الحد من هذه الأخطار. وفي 2016، مثلاً، دخلت وزارة الصحة الكمبودية في شراكة مع المنظمة غير الربحية "القضاء على الجوائح" Ending Pandemics (التي يرأسها أحد الزملاء، مارك سمولينسكي) بغية استحداث خط اتصال مباشر للأحوال الطارئة للإبلاغ عن تفشي المرض. ومن طريق الاتصال بالرقم 1-1-5، يمكن لسكان كمبوديا إعلام نظام صوتي آلي عن مشاهدة أي مرض أو موت في الدواجن أو الماشية، أو إصابتهم هم، أو بعض أفراد أسرهم بالمرض. وبلغ متوسط عدد المكالمات اليومية التي تلقاها النظام نحو 600 مكالمة في السنوات الأربع الأولى من تشغيله، وأفضت إلى ما بين 20 و30 متابعة من السلطات شهرياً. وفي إحدى المرات مثلاً، استجاب مسؤولو الصحة العامة لبلاغ من مزارع اتصل بالخط المباشر، بعد نفوق إحدى دجاجاته وإصابة ابنته بالمرض. وسرعان ما تفحصت السلطات الطائر النافق ووجدت أنه مصاب بفيروس "أتش 5 أن 1" H5N1، وهو صنف شديد العدوى من إنفلونزا الطيور، فذبحت قطيعه من الدجاج لأجل احتواء المرض، والحيلولة دون تفشيه، وإنقاذ المزارع، وربما حياة القرويين المحيطين.
وقف الانتشار
وفي حال عدم احتواء المرض من مصدره، يبقى الوقت متاحاً لمنع تفشيه عالمياً. وعلى ما هي الحال مع الجهود المبذولة لاكتشاف الفاشيات، عززت التكنولوجيا الجديدة قدرة مسؤولي الصحة العامة على التعرف إلى الأوبئة. وبفضل الكم الهائل من البيانات المجموعة عبر الإنترنت، يمكن للمحققين الصحيين تتبع الأمراض الناشئة على نحو أسرع من أي وقت مضى. وألبانيا وبنغلاديش وكمبوديا وباكستان وتنزانيا، مثلاً، تتعاون مع "القضاء على الجوائح" بغية إنشاء لوحات لعرض المعلومات تجمع الخلاصات من مجموعة متنوعة من المصادر: المقالات الإخبارية المحلية، ومنشورات الوسائط الاجتماعية، وأنظمة مراقبة الأمراض الرقمية، وبيانات مياه الصرف الصحي، ونصائح عبر خطوط الاتصال المباشرة لأحوال الطوارئ.
وواكبت التطورات في التكنولوجيا تحديثات في نظام الصحة العامة العالمي. وقبل بضعة عقود فقط، لم يكن في مستطاع "منظمة الصحة العالمية" الاستجابة لتفشي مرض ما إلا عندما تبلغ عنه حكومة البلد الذي حدث فيه. ومنذ 2005، عندما عدلت الدول الأعضاء في المنظمة قواعدها، صارت قادرة على الاستجابة للتفشي بغض النظر عن كيفية معرفتها به. وكجزء من هذا الإصلاح، أنشأت "منظمة الصحة العالمية" أداة متفوقة تكنولوجياً تستعين بها في الكشف عن العلامات المبكرة للجوائح المحتملة. تقوم هيئة "المعلومات الاستخباراتية عن الأوبئة" Epidemic Intelligence المنبثقة عن مبادرة "المصادر المفتوحة" بمسح 20 ألف مصدر رقمي على الدوام بحثاً عن علامات خطر، وتنظر في نواحي المسألة كافة، بدءاً من تقرير إخباري محلي عن إغلاق سوق ما إلى ارتفاع عمليات البحث عبر الإنترنت عن مقاييس حرارة الأطفال. ولا بد من توظيف الاستثمارات في التوعية بالوضع السائد. وبينما البلاد الغنية قادرة على تحمل أكلاف المعدات والإمدادات والموظفين اللازمين لرصد التهديدات المعدية ومراقبتها، على حين تعجز البلاد المنخفضة والمتوسطة الدخل، حيث تظهر هذه التهديدات غالباً، عن ذلك.
ويفرض التعاون نفسه عنصراً أساسياً في عمليات مراقبة الجوائح. وبحسب مؤشر واعد، تواظب البلاد على تبادل المعلومات في شأن الصحة العامة عبر الحدود، ما يسهم في ضمان عدم انتشار التفشي المحلي أو الوطني على مستوى العالم. وتواظب 28 دولة على الإبلاغ عن المعلومات ذات الصلة من طريق "إقامة الروابط بين المنظمات لمراقبة الأمراض الإقليمية" أو "كوردز" (CORDS)، وهي مجموعة أسستها في 2009 مبادرة "التهديد النووي" (NTI) ومؤسسة "روكفلر"، بدعم من هيئات تابعة لـ"الأمم المتحدة" والمنظمات الخاصة. وأهمية هذا التبادل المبكر للمعلومات كبيرة. فهي تفسح المجال أمام النهوض باستجابة منسقة، وتمنح مسؤولي الصحة العامة فرصة تحول دون أن يصبح انتشار الأمراض عالمياً. وهو يعزز روابط الثقة التي يجب ألا يرجأ بناؤها إلى حين ظهور الجائحة، وذلك أنه، في هذا الوقت، يتعسر تحقيق هذا الهدف.
فيروسات طليقة
عندما يفلت وباء ما من الحدود الوطنية أو الإقليمية ليزرع نفسه في مختلف أنحاء العالم، يصبح تعريفاً، جائحة، ويكون الأوان للوقاية منه قد فات. ولكن، مع ذلك، تستطيع الإجراءات في التوقيت المناسب أن تقلص من تأثير الجائحة. ويتعين على الحكومات إصدار وتنفيذ التوصيات التقليدية المتصلة بالصحة العامة: الحد من السفر، والعزل، وغسل اليدين، وارتداء الأقنعة الواقية، وتجنب التجمعات. وفك التسلسل الجينومي للفيروس، وهو أصبح أسرع وأقل كلفة من أي وقت مضى، ضروري من أجل الفحوص التشخيصية، ولا بد من توفيره على الصعيد العالمي. والأطباء في البلدان النامية يحتاجون إلى هذه الأداة الناجعة كذلك.
وفي آخر المطاف، تشق اللقاحات المسار الرئيس للخروج من الجائحة. وبعد اندلاع "كوفيد-19"، أتت عقود من الاستثمار في تكنولوجيا اللقاحات أكلها، ما سمح بإنتاج مليارات الجرعات من اللقاحات العالية الفاعلية في وقت قياسي، ولكن الإنسانية قادرة على تحقيق إنجازات أكبر، ذلك أن سرعة زيادة الإنتاج وتوزيع الجرعات لا تزال محدودة. وربما من الممكن تسريع نشر اللقاحات من طريق تطوير تجارب سريعة على اللقاح للوقوف على سلامة الاستخدام والفاعلية. والسرعة عامل حاسم، نظراً إلى أن الفيروس يختبر كيف يتهرب من لقاحات الجيل الأول. ومن المهم جداً وجود أبنية ومرافق أوسع انتشاراً وتتولى تصنيع اللقاحات. وكان أحد الأسباب الرئيسة للتأخير في مكافحة "كوفيد-19" لجوء الدول التي طورت اللقاحات، وصنعتها، إلى تكديس معظم الكميات لديها، كما يقول بعضهم. وبناءً عليه، فإن إنزال الهزيمة بالجوائح العالمية الناجمة عن أمراض يمكن اتقاؤها باللقاحات، يستدعي قدرة تصنيعية أكبر في دول جنوب العالم.
وإلى اليوم، لا يزال صنع اللقاحات يستغرق وقتاً طويلاً قبل التصدي للنوع الأكثر احتمالاً من الجوائح: النوع الذي يسببه فيروس تنفسي مستجد، مثل الإنفلونزا أو "كورونا". وكلاهما من الفيروسات التي تنشأ مادتها الوراثية عن "الحمض النووي الريبي" RNA viruses، التي تتحور بسهولة أكبر مقارنة بفيروسات "الحمض النووي الريبوزي منقوص الأوكسجين" DNA viruses. ومن هذا نشأت العشرات من المتحورات والمتحورات المتفرعة من النسخة الأصلية لـ"سارس- كوف- 2". وتوضح نزعة فيروسات "الحمض النووي الريبي" إلى الطفرات الجينية كيف أنها تتكيف مع بيئات جديدة، وتقفز إلى أنواع حية جديدة، وتجعل منها أهدافاً متحركة لتطوير اللقاح. ولا يعني ذلك أن اللقاحات المضادة لفيروسات "الحمض النووي الريبي" غير مجدية، بل إنها، للحق، ما زالت تؤدي دوراً رائعاً في حماية الناس من الأمراض الخطيرة والموت، ولكن الطبيعة المتغيرة لفيروسات "الحمض النووي الريبي" تتطلب تدخلاً يحافظ على فاعليته مع تطور الكائنات المسببة للأمراض.
ونصل إلى الأدوية المضادة للفيروسات. فعلى عكس الفطريات ومعظم البكتيريا التي تنمو على الأسطح، معلوم أن الفيروسات "طفيليات مجبرة"، بمعنى أنها غير قادرة على التكاثر وإكمال دورة حياتها من دون الآلات الموجودة داخل الخلايا التي تصيبها (المضيف). وتهاجم الأدوية المضادة للفيروسات نقطة الضعف هذه، وتضرب مراحل مختلفة من دورة حياة الفيروس أثناء تكاثره داخل الخلايا. وعلى حين أن فيروس "الحمض النووي الريبي" يتطور بسهولة نسبياً ويتهرب من اللقاحات، يبقى احتمال تطويره كل الطفرات الجينية المطلوبة في وقت واحد للنجاة من هجوم متعدد الجوانب من دواء مضاد للفيروسات ضئيلاً. ونظراً إلى أن فيروسات كثيرة تستخدم استراتيجيات التكاثر نفسها، في وسع الباحثين تطوير عقاقير تكافح في الغالب، فئات من الفيروسات لم تظهر بعد. ولن تلغي هذه الأدوية الحاجة إلى اللقاحات، علاوة على أن كلفة إنتاجها وتوزيعها أعلى. ويجب أن تشكل ركيزة واحدة من دعائم التأهب للجائحة في الأحوال كلها.
الصيد الأشد خطورة
وفيما يعني الجوائح الكارثية، تشكل الحداثة العلة والدواء في آن. وشأن تفشي الكائنات الممرضة من نوع إلى آخر، هذه الأدوات لمكافحة العواقب كلها، هي نتاج التقدم البشري. وبعض هذه الأدوات متاحة أصلاً، وبعض آخر بعيد المنال. وجميعها تبشر بقطع حلقة واحدة أو أكثر، في سلسلة حوادث تؤدي إلى طفرة جينية واحدة في فيروس الخفافيش الذي قلب العالم بأسره رأساً على عقب: من انتقال الكائنات الممرضة إلى التفشي، ومن التفشي إلى الوباء، ومن الوباء إلى الجائحة المعتدلة، ومن الجائحة المعتدلة إلى الجائحة الكارثية.
وفي إطار هذا المسعى، الأجدر بالعالم المتقدم أن يرضخ لتحمل هذا العبء، ليس من باب الإيثار فحسب، بل من أجل المصلحة الذاتية. وكشفت جائحة "كوفيد-19" جلياً، عن أن أغنى البلدان وأكثرها جاهزية عرضة لخطر الغزو بفيروسات تنشأ في زوايا بعيدة من العالم. وعليه، حري بالدول الغنية صرف الأموال في مختلف أنحاء العالم من أجل تعزيز أنظمة المراقبة وإنتاج اللقاحات.
ولكن، أمام ضعف الثقة يقف المال عاجزاً. وكشفت الجائحة عن انعدام الثقة بين البلاد، فتتستر بعض الحكومات على البيانات، فيما يخزن بعض آخر اللقاحات. وأماطت الجائحة اللثام عن غياب الثقة بين السكان ومسؤولي الصحة العامة في بلادهم، مع تصاعد التوترات جراء إلزام الكمامات وإغلاق المدارس وفرض التلقيح. والثقة هي الخط الفاصل بين الاتصال بخط مباشر للأحوال الطارئة والإعراض عن ذلك، وبين مشاركة المعلومات دولياً وإخفائها، وبين اتباع قواعد الحجر الصحي والاستهزاء بها، وبين مشاركة اللقاحات وتخزينها. ومن غير الثقة، تبوء أفضل سياسات الصحة العامة بالفشل. وفي المحصلة، في وسع العامل البشري هذا أن يحدد، قبل أي شيء آخر، ما إذا كان في وسع العالم أن يستفيد من نعمة الحداثة العلمية لدرء كارثة ربما تدق بابه يوماً ما.
*لاري بريليانت طبيب متخصص في علم الأوبئة، ورئيس تنفيذي في شركة "بانديفانس أدفايزوري" Pandefense Advisory [مؤسسة تساعد المنظمات في الاستجابة لـ"كوفيد-19"]، ومستشار أول في مؤسسة Skoll Foundation.
**مارك سمولينسكي متخصص في علم الأوبئة الطبية ورئيس منظمة "القضاء على الجوائح" Ending Pandemics غير الربحية.
*** ليزا دانزيغ، طبيبة أمراض معدية وخبيرة في اللقاحات ومستشارة في Pandefense Advisory.
****دبليو إيان ليبكين مدير "مركز العدوى والمناعة" في "جامعة كولومبيا"، والمدير المؤسس لـ"التحالف العالمي للوقاية من الجوائح"، ومستشار في Pandefense Advisory.
مترجم من فورين أفيرز، يناير (كانون الثاني) فبراير (شباط) 2023