يصنف كثير من المغاربة أغاني مجموعة الغيوان ضمن "الغناء الملتزم"، أو "الغناء الاحتجاجي"، ويحلو لآخرين تسميتها بالأغاني السياسية، وهي المجموعة الشعبية الأشهر خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، قبل أن يخبو إشعاعها بسبب زحف موجة الأغاني الجديدة.
ومثل "الغيوان" برزت مجموعات غنائية أخرى تمتح من منبع الأغاني نفسه، ذات النفحة الاحتجاجية والاجتماعية في المغرب، مثل المشاهب وجيل جيلالة ولرصاد وغيرها من المجموعات، كما ظهر مطربون "منفردون" أيضاً نهجوا المسار ذاته "الأغنية الملتزمة"، من قبيل سعيد المغربي، وسعيدة فكري وحميد بودويل وآخرين.
ظروف الانتشار
لم يكن أحد في البداية يتوقع النجاح والانتشار الباهر لفرقة غنائية مكونة من خمسة شبان ينحدرون من أحد أفقر الأحياء الشعبية بمدينة الدار البيضاء وهم، بوجميع أحكور (توفي عام 1974)، والعربي باطما (توفي 1997)، وعبدالرحمن قيروش الملقب بـ"باكو" (توفي 2012)، وعلال يعلى، ثم عمر السيد.
وكان مرد عدم توقع كل هذا النجاح للمجموعة الغنائية "ناس الغيوان" التي تشكلت في الستينيات قبل أن تعلن عن نفسها رسمياً في بداية السبعينيات من القرن العشرين، كونها انطلقت بأداء أغنية عادية للأطفال بعنوان "قطتي صغيرة واسمها نميرة"، فكانت التوقعات تسير نحو أفول هذه الفرقة قبل ظهورها، غير أن العكس هو الذي حصل.
تحالفت عوامل وظروف عديدة داخلية وخارجية لتفرز ظاهرة "ناس الغيوان" التي امتدت عقوداً من الزمن، خصوصاً في سنوات السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، والتي كتبت بشأنها كتب ومؤلفات وألقيت بخصوصها محاضرات وندوات.
بخصوص العوامل الداخلية يقول عبدالله كيلوش، باحث أنجز أطروحة "ماستر" حول "الظاهرة الغيوانية"، إنها تتلخص في السياق السياسي للبلاد خلال سنوات السبعينيات والثمانينيات، التي عرفت بكونها "سنوات الرصاص" بالنظر إلى التضييق على الحريات وقمع المعارضين من طرف النظام حينها.
وأردف الباحث، السياق الاجتماعي الذي مهد الأرضية الفنية والموسيقية لفرقة ناس الغيوان، متمثلاً في الاحتقان الذي كان سائداً وسط الطبقات الفقيرة والمهمشة، وأجواء السخط من الأحوال المعيشية جراء ضعف النمو الاقتصادي في تلك الحقبة من الزمن.
وأما العوامل الخارجية، فيورد الباحث ذاته أنها تتمثل في هيمنة التيارات الاشتراكية واليسارية في تلك الفترة الزمنية، والمطالبة بالانعتاق من أغلال الظلم والديكتاتوريات، وهو ما أسهم في تشكيل الخلفية الفنية التي انطلق منها ناس الغيوان، على رغم أنها اعتمدت بالأساس على "الفطرة الاجتماعية والسياسية" التي غلفت أغلب أغانيها".
مهمومة
وفي خضم هيمنة أغاني الحب والغرام التي سادت المنطقة العربية، أطلق الشبان الخمسة أغاني بكلمات بسيطة غير أنها كانت قوية إلى حد أنها هزت المجتمع المغربي وتغلغلت في وجدانه وعقله، بل وترسخت في الذهنية الشعبية، وصارت بعض الأغاني مرجعاً شعبياً ومضرباً للأمثال أيضاً.
ويبدو أن وفاة عمالقة الطرب العربي تباعاً في أواسط السبعينيات من القرن الماضي (فريد الأطرش في 1974 وكوكب الشرق أم كلثوم في 1975، وعبدالحليم حافظ في 1977)، أفسحت المجال أمام هذا النمط الغنائي الجديد الذي عرفه المغاربة خلال تلك الحقبة، والذي سمي بـ "الغناء الملتزم"، بمعنى الالتزام بالتطرق إلى هموم الشعب وقضاياه ذات الأولوية.
وانجذب الجمهور المغربي لمواويل عمر السيد وهو ينقر على البندير (آلة موسيقية إيقاعية مستعملة في المغرب العربي)، وصيحات الراحل العربي باطما وهو يضرب الطبل المزدوج، بإيقاعات شعبية تؤديها آلات موسيقية من أصول تراثية مثل "البانجو" و"الهجهوج"، فكانت الأغاني "الاحتجاجية" لهذه الفرقة تلهب بالفعل مشاعر الملايين من الجماهير المغربية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولا ينسى المغاربة منذ ذلك الحين إلى اليوم أغاني الغيوان الشهيرة، مثل أغنية تقول "مهمومة مهمومة يا خيي مهمومة" التي تحكي عن هموم المواطن المغربي، وأغنية "غير خذوني" التي تعبر عن صرخة "السجناء السياسيين" في "سنوات الرصاص"، وأغنية "سبحان الله صيفنا ولا شتوا"، التي تجسد حالاً من الضياع الهوياتي وتغير أحوال البلاد والعباد.
وتلقفت الجماهير المغربية أغاني الغيوان بشكل غير مسبوق، خصوصاً تلك التي تحمل نفحات احتجاجية أو سياسية، على رغم كونها لم تظهر رسمياً في التلفزيون الحكومي سوى في عام 1986، بعد مسار من "التضييق" على المجموعة في وسائل الإعلام الرسمية خلال عهد وزير الداخلية القوي وقتها الراحل إدريس البصري.
جيل جيلالة ولمشاهب
وبعد ظهور فرقة ناس الغيوان مباشرة تأسست فرقة "جيل جيلالة" في بداية السبعينيات من القرن الماضي، واسمها يحيل إلى المشترك الصوفي، غير أنها مثل شقيقتها الكبرى "الغيوان" حاولت أن تمتح من معين المجتمع المغربي وتغوص في قضاياه وهمومه لتنتج "أغاني ملتزمة" ظلت خالدة هي أيضاً.
ويشمل "ريبيرتوار" هذه الفرقة، التي ضمت بخلاف الغيوان صوتاً نسائياً متمثلاً في سكينة الصفدي التي توفيت العام الماضي، أغاني تحمل "الهم الإنساني" وتعالج ما يشغل بال المواطن المغربي، مستعينة في ذلك بانتماء أعضائها ومؤسسيها لشرائح اجتماعية فقيرة وأحياء شعبية مهمشة.
وتركت مجموعة "جيل جيلالة" بصمتها على مسار غنائي فريد في سنوات السبعينيات والثمانينيات، على غرار الغيوان، ولامست كلمات أغانيها شغاف قلوب المغاربة، وهي الأغاني التي يصفها بعضهم بالسياسية، وآخرون بـ"الثورية"، لكنها تظل أغاني تحمل نفساً احتجاجياً ونقدياً واضحاً.
وبزغ نجم مجموعة "لمشاهب" في بداية السبعينيات من القرن العشرين، ومثل "ناس الغيوان" و"جيل جيلالة" تأسست في مدينة الدار البيضاء التي كانت تحمل زخم الفن والسياسة والاحتجاج بحكم أنها أكبر "مدينة عمالية" في البلاد وقتها، وتتقاطع فيها جميع التيارات والأفكار والأيديولوجيات.
مجموعة "لمشاهب" بدورها جربت "الأغاني الملتزمة" ذات الخلفية النقدية والاحتجاجية، وكانت أغانيها جريئة في توصيف الواقع المغربي في تلك الفترة الزمنية من تاريخ المملكة، لكنها مقارنة مع "ناس الغيوان" أتت بموسيقى جديدة تمزج بين التراث والعصرنة.
وتعرضت المجموعة للتضييق من طرف السلطة عند عرض أغانيها أمام الجمهور المغربي بسبب قوة كلمات أغانيها حينئذ، بيد أنها على رغم ذلك استطاعت أن تلفت إليها الأنظار، سيما بعرض أغانيها في بلدان أخرى، والتقاء أعضائها بنجوم الفن الملتزم عربياً وقتها، مثل مارسيل خليفة والشيخ إمام وغيرهما.
عوامل الأفول
وكما بزغ نجم هذه المجموعات الغنائية المغربية المصنفة ضمن "الفن الملتزم"، ناس الغيوان وجيل جيلالة ولمشاهب وغيرها من المجموعات المتناسلة و"المقلدة" أيضاً، في سنوات السبعينيات والثمانينيات سرعان أيضاً ما خفت بريقها الفني دفعة واحدة أيضاً، ابتداءً من أواسط التسعينيات والألفية الثالثة.
وتغيرت ملامح تلك الفرق، وتغيب أعضاؤها المؤسسون، إما بسبب الانشقاق على المجموعة لاختلاف الآراء والمواقف، أو بسبب التواري إلى الخلف، أو الوفاة أو المرض، وعوضهم أعضاء آخرون لم يبلغوا شهرتهم وتأثيرهم الفني داخل تلك المجموعات الغنائية.
مجموعة "ناس الغيوان" مثلاً بعد الإنتاج الغزيز للأغاني وإحياء السهرات الفنية في أكثر من مدينة وبلد، لم يعد لها حضور كبير فنياً وإعلامياً لعوامل عدة، ذاتية وموضوعية، حتى إن آخر ألبوم أصدرته يعود إلى عام 2007، بعنوان "النحلة شامة"، وهي قصيدة زجلية قيل إن الملك الراحل الحسن الثاني هو من اقترح على الفرقة أداءها عام 1985.
الواقع نفسه ينسحب على مجموعتي "جيل جيلالة" و"لمشاهب"، حيث صارتا عبارة عن مجرد "أسماء وأطلال" من الماضي، وصار الحكي عن أمجاد وإنجازات هذه الفرق الملتزمة أكثر من حاضرها ومستقبلها لأسباب عدة، يوجزها عمر السيد، أحد مؤسسي الغيوان، بقوله إن المجموعة أدت ما عليها من مهمات في الوقت والزمن الذي انتشرت فيه، وبأن "لكل زمن فنه ورجاله أيضاً" على حد تعبيره.
ووفق السيد، فإن مجموعة "ناس الغيوان" أسست للفن الملتزم الذي يهتم بقضايا الناس وانشغالاتهم ويحكي بلسانهم عن آلامهم وآمالهم أيضاً، وبأنه كان من المفترض أن تحمل فرق غنائية أخرى هذا المشعل وهذا التراث ليستمر ويدوم، مع ضرورة التجديد ومسايرة متطلبات العصر.
ويعزى أفول عدد من الفرق الغنائية المصنفة بالملتزمة في المغرب إلى عوامل عدة، الأول زحف الأغاني الشبابية الجديدة المتسمة بالسرعة تماشياً مع "العصر الرقمي"، وثانياً كثرة الانشقاقات والاستقطابات والخلافات داخل هذه المجموعات، وثالثاً مرض أو كبر سن أو وفاة الرواد والمؤسسين للفرق، ورابعاً الاشتغال ضمن سياق الهواية بعيداً من الاحتراف.
سعيد وسعيدة
وغير بعيد من نمط المجموعات والفرق الغنائية "الملتزمة" قضايا المجتمع وهموم المواطن المغربي، بزغ نجم فنانين يشتغلون بالنمط الفردي، مثل سعيد المغربي الذي يعتبره بعضهم أحد أبرز الفنانين الملتزمين في الوطن العربي، إلى جانب مارسيل خليفة والشيخ إمام.
وصدحت قيثارة سعيد المغربي وحنجرته بكلمات ترنو إلى الحرية والانعتاق من الظلم، وهو الذي جرب هذا الواقع المرير في حقبة الثمانينيات عندما لجأ إلى فرنسا "هاربا" من "سنوات الرصاص"، قبل أن يعود إلى البلاد في 1994 بعد عفو ملكي، ليشتغل أستاذاً جامعياً بعيداً من هموم الموسيقى والفنون، بعد حصوله على شهادة الدكتوراه من جامع السوربون بفرنسا.
ويبرر سعيد المغربي ابتعاده من الموسيقى و"الفن الملتزم" بانشغالاته الأكاديمية والمهنية، إضافة إلى ما سماه "فتور الجمهور" حيال هذا النمط من الغناء والفن، بالنظر إلى تغير الطباع والذائقة، ثم بسبب غياب الدعم الرسمي لمثل هذه التجارب الفنية الراقية.
ويرى المغربي أيضاً أن هذا النمط الغنائي "الملتزم" لم يجد من الأجيال الموسيقية والغنائية الجديدة من يحمله على كتفه ويطوره ويجوده، ما عرضه للفتور والاندثار بمرور الزمن جراء السقوط في التكرار والنمطية.
وأما المغنية سعيدة فكري، فاتخذت لنفسها مساراً "ملتزماً" يهتم أكثر بالمواضيع الاجتماعية، خصوصاً أنها عانت في مرحلة الصغر ظروفاً قاسية، من قبيل اشتغالها خادمة في البيوت من أجل إعالة نفسها وأسرتها، قبل أن تهاجر إلى أميركا، حيث حققت ذاتها وانطلقت موسيقياً وغنائياً في مسيرة ما زالت مستمرة إلى اليوم.