يبدو لمن يتتبع الأزمات المتكررة في لبنان أن اليأس سيغلب أبناءه حتماً، لكن إرادة العيش تبقى هي الغالبة لدى المواطنين، وخصوصاً الشباب منهم، وبدلاً من الرضوخ للأمر الواقع والاستسلام فإنهم ينطلقون ليبدعوا ويطرحوا حلولاً لا يقتصر أثرها عليهم وحسب، بل تعود بالفائدة على الوطن وتسهم في نهوضه بشكل أو بآخر.
أمام ضيق فرص العمل واستحالة الهجرة، لم يدع الشاب اللبناني حمزة عيد اليأس يغلبه، بل دفعه إصراره نحو العمل على مشروع أكد من خلاله إيمانه بقدراته وبالوطن أيضاً، ففي مواجهة أزمة النفايات التي تعانيها مختلف المناطق اللبنانية، ومن ضمنها بلدته جون الشوفية، انطلق بحلم حرص على تحقيقه خطوة خطوة ووفق إمكاناته المحدودة، عبر تجميع المواد البلاستيكية من منازل البلدة وفرزها من أجل البيع، وصولاً إلى فرز النفايات العضوية والتخلص منها عبر استخدام أنواع معينة من الديدان.
خطوة أولى
كان حمزة عاطلاً من العمل منذ بداية الأزمة، وقد أوصدت أمامه الأبواب كافة، إلى أن قرر الهجرة بحثاً عن لقمة العيش، لكن الحظ لم يحالفه حينها أيضاً، فواجه أزمة جوازات السفر التي حرمته من تحقيق حلمه ببناء مستقبل أفضل له خارج البلاد، وفي الوقت نفسه جاءت فرصته لينطلق بمشروع يعود بالفائدة على وطنه، وبشكل خاص بلدته جون الشوفية أولاً ثم البلدات المجاورة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولأن أزمة النفايات كانت تشكل جزءاً من المعاناة اليومية له ولعائلته وأبناء بلدته، فكر حمزة بالانطلاق في مشروع فرز النفايات البلاستيكية، وفاجأه عندها التجاوب الكبير الذي شهده من قبل أبناء البلدة وردود فعلهم الإيجابية. ومع ارتفاع عدد العائلات المتجاوبة وبلوغه حدود 311 بيتاً في أقل من شهرين، واندفاع الكل نحو هذا المشروع الذي يسهم بمواجهة أزمة النفايات، بدأ الناس يسألون عن كيفية تصريف النفايات العضوية كما حصل مع النفايات الصلبة، وعندها قرر حمزة التوسع بمشروعه الذي كان قد غطى نسبة 50 في المئة من منازل البلدة.
بالنسبة إلى حمزة ورفاقه العاملين في المشروع، كان إيجاد حل للنفايات العضوية من الخطوات الجوهرية، لأنها تشكل جزءاً أساسياً من أزمة النفايات في البلد، وتسهم فيها إلى حد كبير.
بعد البحث في هذا المجال تبين أن ثمة دول كفرنسا وسويسرا وكندا وإندونيسيا وأستراليا ونجيريا وماليزيا، تستخدم الديدان، وتحديداً أربعة أنواع منها، للتخلص من النفايات العضوية، وكان هناك نوعان من هذه الديدان التي تلتهم النفايات في لبنان، ونوعان آخران حرص حمزة على تأمينهما من فرنسا حيث تتوافر بسعر 90 دولاراً لكل 200 منها، أي ما يوازي نحو أربعة آلاف شرنقة.
ولأن مشروعه هذا لم يحصل على أي تمويل من جهة رسمية، حرص حمزة على المضي فيه بخطوات صغيرة ووفق الإمكانات المادية المتاحة، وقد استقدم من الصين أيضاً بعض المستلزمات لتأمين البيئة الصالحة لنمو وتكاثر الديدان، بما أن الأمر يستدعي توفير ظروف إنارة وحرارة ورطوبة معينة.
حول تدوير النفايات بالديدان
تأكل الديدان ما يوازي خمسة أضعاف حجمها خلال ثماني إلى 12 ساعة كحد أقصى، وهي تلتهم النفايات بعد فرمها ووضعها في أوعية خاصة لتسكب الديدان فوقها بحسب وزنها، ففي حال استخدام طن منها يمكن أن تأكل خمسة أطنان من النفايات العضوية، إضافة إلى ذلك، يباع السماد الناتج من الديدان إلى المزارعين لما له من ميزات في الحد من انبعاثات غاز الميثان، ويتميز سماد الديدان بخلوه من الرائحة المزعجة الصادرة عادة من الأسمدة.
بمشروعه هذا استطاع حمزة حل نصف أزمة النفايات، على حد قوله، وعلى رغم أنها (حتى اللحظة) لا تفرز جميع نفايات البلدة، فإن الأوضاع تحسنت إلى حد كبير بالنسبة إلى أهالي بلدته، ولم يعد تكدس النفايات في الطرقات هماً بعد انطلاق المشروع منذ نحو أربعة أشهر، ومن أصل أربعة أطنان من النفايات يومياً يجري التخلص من طنين ونصف الطن بواسطة الديدان، ومن الممكن قريباً فرز جميع نفايات البلدة.
في الوقت نفسه، يعمل حمزة على التوسع في الدول المجاورة بالمنطقة وجمع النفايات منها للإسهام في مواجهة الأزمة على نطاق أوسع، ويتوقع أن يتمكن في الأشهر القليلة المقبلة من أن يصل إلى فرز من 10 إلى 15 طناً من النفايات العضوية يومياً، علماً بأنه في كل مرة تدخل المجموعة إلى بلدة جديدة تزيد الحاجة إلى تأمين العمال، فليس سهلاً توفير عمال في لبنان للقيام بهذا النوع من المهمات.
يقول حمزة "استطعنا مواجهة أزمة النفايات والعمل على حلها، كان هذا أيضاً مجالاً لتأمين فرص عمل، إضافة إلى أنه مجال لتحقيق الأرباح عبر بيع السماد إلى المزارعين بعد أن أصبح مطلوباً من قبل كثيرين، خصوصاً أنه خال من الكيماويات، ويعد من أفضل أنواع السماد المستخدمة في الزراعة، وهو عضوي وغير كيماوي، وسعره أقل من المستورد".
لكن تمويل المشروع للتوسع فيه ليس بالأمر السهل، فحتى الآن لم يكن من الممكن تأمين التمويل اللازم على رغم التواصل مع جهات عديدة، ومنها منظمات غير حكومية، والتوسع يتطلب تأمين من 30 إلى 40 ألف دولار أميركي لتوفير شاحنات وديدان وآلة كبرى لفرم النفايات العضوية وغيرها من المستلزمات، لذلك لا تزال المجموعة تحاول التقدم في المشروع خطوة خطوة إلى حين تأمين التمويل اللازم له.
يؤكد جورج مخول رئيس بلدية جون الشوفية، أن نسبة 60 في المئة من سكان البلدة بالفعل تستفيد من المشروع، وقد حصل التجاوب معه بشكل تدريجي، كما بدا واضحاً، خصوصاً أن حمزة يجمع النفايات من المنازل بعد فرزها.
"في مرحلة أولى، كانت المشكلة الأساسية لدى أهالي البلدة في النفايات العضوية، إلى أن أوجد الحل لها، وأصبح قادراً على التخلص منها ولو بطرق بدائية"، وانطلاقاً من ذلك يؤكد مخول أن "معدل النفايات في البلدة انخفض بنسبة 50 في المئة، مع الإشارة إلى أن النفايات الصلبة هي التي تزن بشكل خاص، ونحن كبلدية ندعم المشروع بالكامل لأنه لعب دوراً مهماً في مواجهة الأزمة، ونسعى بشتى الطرق إلى نشر الوعي بين السكان حول أهمية فرز النفايات، على أمل أن يأتي التمويل اللازم للمشروع ليصبح من الممكن التوسع فيه أكثر وتطوير الوسائل المعتمدة في تحقيقه".
شروط دقيقة لحفظ الديدان
عن أهمية المشروع ودوره في مواجهة أزمة النفايات، يشير المهندس عبده تنوري، من مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية، إلى أن "من الشروط الأساسية المطلوبة فرز النفايات العضوية من المصدر، وعدم خلطها مع البلاستيك لأن ثمة كيماويات يمكن أن تتخللها حينها، وهذه الديدان تعد بطيئة في أكل النفايات، وفي الوقت نفسه تحتاج إلى ظروف ملائمة من إنارة وحرارة ورطوبة، ولا بد لمن يقوم بهذا المشروع أن يكون من ذوي الخبرة في هذا المجال، وأن يحرص على استخدام مواد نظيفة".
ويضيف "قد يكون من الممكن تنفيذ المشروع على نطاق ضيق، لكن التوسع فيه إلى مناطق عدة أو في البلد ككل أمر صعب التنفيذ، خصوصاً أن مشروعاً من هذا النوع يتطلب تمويلاً ولا يمكن الاستمرار فيه بغير ذلك، فالمطلوب هنا العمل وفق معايير معينة حتى تؤدي الديدان دورها بالشكل الصحيح، ويمكن أن يكون هناك مشروع مماثل مكمل عبر إنشاء معامل كبرى يعتمد عليها بشكل أساس".
ما يبدو واضحاً من ردود الفعل الإيجابية حيال مشروع تدوير النفايات بالديدان، أن ثقافة فرز النفايات باتت أكثر انتشاراً بين المواطنين اللبنانيين، وكأن الناس يترقبون أي حل مستدام يمكن أن يسهم في مواجهة هذه الأزمة التي تبدو محاولات الدولة لمواجهتها خجولة وغير مجدية، وهذا ما يفسر اندفاع الجميع للمشاركة في تنفيذ المشروع، وفي كل الحالات فإن أية مبادرات مماثلة قد تشكل خطوات مهمة يمكن أن تسهم في معالجة الأزمة ولو في نطاق ضيق في البداية.