تخضع المصالحة التركية - السورية التي تسعى إليها روسيا منذ أشهر، وكان آخر خطواتها الاجتماع على مستوى وزراء الدفاع الروسي والتركي والسوري وقادة الاستخبارات بالدول الثلاث في موسكو يوم 28 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، لتجاذبات عدة مما أخذ يرسم علامات استفهام حول إمكان تباطؤ الخطوات المقررة على هذا الصعيد.
فما أعلنه الجانبان الروسي والتركي أنه سيعقب اجتماع وزراء الدفاع، اجتماع لوزراء خارجيتها، تأجل إلى مطلع الشهر المقبل بعدما كان منتظراً في النصف الثاني من يناير (كانون الثاني) الحالي، لانشغال الوزيرين الروسي سيرغي لافروف والتركي ومولود جاويش أوغلو في زيارات إلى الخارج، أهمها الزيارة التي قام بها الأخير إلى واشنطن لأيام عدة منذ 18 يناير. إلا أن بعض الأوساط السورية المعارضة لم تستبعد أن يكون التأجيل حصل جراء الاعتراض الأميركي على الانفتاح على نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وفي انتظار المحادثات التركية - الأميركية.
التجاذبات التي تخضع لها هذه المصالحة متعددة الاتجاهات. وكان الكرملين أطلق جهوده لإتمامها للحؤول دون تنفيذ أنقرة تهديداتها باحتلال جزء كبير من شمال شرقي سوريا بعمق 30 كيلومتراً، بحجة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي عمادها حزب "الاتحاد الديمقراطي الكردي" الذي يعتبره الجانب التركي إرهابياً ونسخة عن حزب العمال الكردستاني (PKK) في تركيا الذي تعتبره إرهابياً أيضاً.
ماذا حققت زيارة أوغلو لواشنطن؟
أبرز هذه التجاذبات الرفض الأميركي لاتفاق تركيا كحليف في "الناتو" مع النظام السوري، في وقت عارضت واشنطن بدورها تنفيذ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تهديداته باجتياح الشمال السوري لأنها ترعى الوجود الكردي في هذه المنطقة ولها قوات وقواعد منتشرة هناك، لا سيما مناطق آبار النفط، هذا فضلاً عن أن الإدارة الأميركية ودول الغرب عموماً تتعاطى بحساسية عالية حيال أية خطوة تقدم عليها روسيا في ظل المواجهة الأميركية - الروسية في أوكرانيا، وتنظر إلى التعاون التركي مع الكرملين في الميدان السوري من هذه الزاوية. وفي العلاقات بين واشنطن وأنقرة ملفات عالقة مهمة أبرزها صفقة بيع طائرات "إف-16" المعلقة من الجانب الأميركي، التي كانت نقطة رئيسة على أجندة المباحثات التي أجراها جاويش أوغلو خلال زيارته العاصمة الأميركية، إضافة إلى عرقلة تركيا انضمام السويد وفنلندا إلى حلف شمال الأطلسي بسبب احتضانهما بعض المجموعات الكردية التركية المعارضة.
المعارضات السورية والمصالحة في موسكو وواشنطن
التصريحات التي تناولت نتائج مباحثات جاويش أوغلو مع نظيره الأميركي أنتوني بلينكن اتسمت بالغموض وإبقاء الأمور معلقة، على رغم أن الأول أسبغ التفاؤل على مسألة حصول بلاده على طائرات "إف-16" بينما لفت بلينكن إلى "وجود خلافات بيننا". فنتائج الزيارة في موضوع المصالحة التركية - السورية لم تتضح، في انتظار ما ستكشف عنه الأيام المقبلة، وما إذا كانت أنقرة حصلت على ثمن ما من الجانب الأميركي في مقابل فرملتها المصالحة مع الأسد، كما يفترض بعض أوساط المعارضة السورية. وهل أن جاويش أوغلو قدم ضمانات بإيجاد ترتيبات تحفظ وضعية حلفاء واشنطن الأكراد، في حال جرى الاتفاق مع الأسد، خصوصاً أن الغاية الروسية المعلنة من وراء الإصرار على المصالحة هي تولي قوات النظام المناطق التي تسيطر عليها تركيا حالياً، لإبعاد القوات الكردية عن الحدود؟ وما وضعية القوات الأميركية الموجودة في المنطقة التي سيتولى الجيش السوري الانتشار فيها في حال نفذ الجيش التركي انسحاباً تشترطه دمشق ولو بالتدريج؟
جاويش أوغلو التقى في "البيت التركي" في نيويورك" ممثلين عن الجالية السورية المعارضة لنظام الأسد، التي تعتبر من اللوبيات المؤثرة مع الإدارة الأميركية ضد الحكم السوري. وتشير وسائل إعلامية مقربة من المعارضة إلى أن رموزها لعبوا دوراً في تشجيع إدارة الرئيس جو بايدن على إحداث تقارب مع أنقرة، وأن الأخيرة على علم بهذا الدور على رغم الخلافات بين الدولتين نظراً إلى التأثير التركي المهم في الميدان السوري. هذا في وقت تتحدث مصادر دبلوماسية عربية في موسكو عن أن بعض وجوه المعارضة تجري اتصالات مع القيادة الروسية من أجل مواكبة جهودها لمصالحة أنقرة ودمشق. وتنقل هذه المصادر عن مسؤولين روس أن المعارضين السوريين يناقشون مع مسؤولين روس مبدأ إيجاد دور للمعارضة في أية تركيبة سياسية للحكم إذا نجحت المصالحة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
جاويش أوغلو تحدث عن الاستعداد للتعاون مع أميركا بشأن سوريا مضيفاً: "لكن واشنطن لم تف ببعض وعودها السابقة"، قاصداً بذلك إبعاد "قسد" عن الحدود، لا سيما في منبج. أما الجانب الأميركي فتحدث عن "علاقة بناءة للغاية" مع أنقرة، وأشار إلى أن "تركيا عانت الهجمات الإرهابية على أراضيها أكثر من أي حليف آخر من الناتو". وامتدح المتحدث باسم الخارجية الأميركية نيد برايس الدور التركي في محاربة الإرهاب، بعدما كانت حجتها لمعارضة العملية العسكرية التركية في الشمال السوري أنها تعيق محاربة "داعش".
إيران وهواجسها حيال الانفتاح العربي
النوع الثاني من التجاذبات هو أن آلية المصالحة التركية - السورية التي ترعاها موسكو بدأت من دون تنسيق دمشق معها، على رغم أن المصادر الدبلوماسية الروسية كانت أبلغت "اندبندنت عربية" أن الاتصالات التمهيدية للقاء وزراء الدفاع الروسي والتركي والسوري، تمت في ظل إبلاغ موسكو بأهدافها وخطواتها. وهو ما عاد نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف وأكده في حديث أدلى به إلى تلفزيون "الشرق" في 22 يناير. فإيران لها نفوذ قوي على الأرض في بلاد الشام عبر وجود "حرس الثورة" الإيرانية والميليشيات الموالية لها وهم بعشرات الآلاف، وينتشرون في كل المناطق ما عدا شمال شرقي بلاد الشام. وسعت هذه الميليشيات إلى الاقتراب قدر الإمكان من المناطق الشمالية، تحوطاً، وبذريعة مؤازرة جيش النظام السوري في قتاله مع "الإرهاب" أو في حال حصول انسحابات ميليشيات كردية من بعض المناطق.
تجمع مصادر المعلومات على أن سبب زيارة وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان المفاجئة إلى دمشق في 14 يناير، ثم أنقرة في 16 يناير تمت بعدما نقلت قيادة "حزب الله" إلى القيادة السورية عتب طهران على الجانب السوري لأنه لم يطلعه على تسارع اللقاءات الروسية - التركية - السورية أواخر الشهر الماضي، ولا على خلفية زيارة وزير خارجية الإمارات العربية المتحدة الشيخ عبدالله بن زايد إلى دمشق مطلع يناير. وفي رأي العارفين بهواجس طهران أن أكثر ما يزعجها بعض مظاهر الانفتاح العربي على دمشق، خشية أن يحصل على حسابها. لكنها تبلغت من الجانب الروسي أنه يعمل مع بعض دول الخليج على تطوير الانفتاح العربي على دمشق، مما خفف من اعتراضها العلني على الأقل فأصبحت تتحدث بإيجابية عن أي تقارب عربي أو غير عربي مع سوريا على أنه "لصالح الاستقرار والسلام".
طهران لم تكتف بإيفاد الأسد الدبلوماسي أيمن سوسان إليها لإطلاعها على الحدثين، فانتقل عبداللهيان إلى بيروت، حيث أجرى لقاءات مع كبار المسؤولين فيها، ومع الأمين العام لـ "حزب الله" حسن نصر الله، وأعلن أن زيارته جاءت تلبية لدعوة رسمية، فيما نفى مصدر رسمي معني لـ "اندبندنت عربية" أن يكون أي من وزير الخارجية اللبناني عبدالله بوحبيب أو رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي وجه دعوة إليه. وأفادت مصادر متصلة بـ"حزب الله" أن وجهة عبداللهيان الأساسية كانت زيارة جاويش أوغلو قبل يوم من مغادرته إلى واشنطن، وأنه أراد المرور ببيروت لأن "الحزب" هو الذي تولى لوجستياً تنسيق مواعيده في العاصمة السورية مع الأسد ونظيره فيصل المقداد ومن أجل توجيه رسالة إلى خصوم طهران الدوليين والإقليميين بدورها الفاعل في لبنان، رداً على الحملات ضدها.
طهران لتوسيع صيغة "أستانا" وطاولة المصالحة
وزيارة العاصمة السورية جاءت في سياق تأكيد نفوذ طهران فيها تحت غطاء التحضير لزيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى سوريا وتركيا، على رغم أن موسكو نسقت معها في شأن المصالحة بين أردوغان والأسد. ومع أن بعض الأوساط فهم عتب طهران على دمشق بأنها منزعجة من المصالحة، فإن المصادر المطلعة على الاتصالات التي أجرتها موسكو مع الجانب الإيراني تؤكد العكس، بل هي تؤيدها، لكنها تريد أن تكون على طاولتها، وتطمح إلى دعوتها للاجتماعات الثلاثية بحيث تصبح رباعية، لأنها تعتبر أن لا حلول لأزمات سورية من دون مشاركتها. ومن هنا التركيز بعد محادثات الوزير الإيراني في دمشق وأنقرة على أن المصالحة تتم في إطار صيغة "أستانا" للتعاون الروسي - التركي - الإيراني في سوريا، التي نشأت في العاصمة الكازاخية في يناير 2017 . كما أن المستشار الأول للوزير الإيراني علي أصغر خاجي لمح إلى تطوير صيغة "أستانا" بضم سوريا إليها، بموازاة حديثه عن إمكان انضمام إيران إلى الثلاثي الروسي والتركي والسوري. ونسب عبداللهيان إلى بلاده أنها سعت إلى التقارب التركي - السوري بقوله بعد لقائه جاويش أوغلو في أنقرة: "إننا سعداء بالتغير الملحوظ في العلاقات بين دمشق وأنقرة، لأن الجهود التي بذلتها بلادنا في السنوات الماضية، في هذا الخصوص باتت تؤتي ثمارها".
كما أن طهران تهتم لمعرفة المدى الذي ستذهب إليه أنقرة في طرح بعض المسائل ومنها الحل السياسي ومسألة عودة النازحين السوريين إلى المناطق الشمالية وغيرها، لا سيما أن الميليشيات الموالية لها انتشرت في بعض هذه المناطق. والمحادثات الثلاثية التي جرت في موسكو تركت الباب مفتوحاً لتشكيل لجان فنية عسكرية وأمنية من أجل تحديد الأماكن التي يمكن أن يشملها الانسحاب التركي على مراحل وحلول قوات جيش النظام السوري مكانها. وفي رأي المتابعين للتحرك الإيراني أن طهران تريد أن تحدد دور قواتها إلى جانب الجيش السوري في حال حصل الانسحاب التركي.
المراقبون للجهود الروسية مع كل من سوريا وتركيا، يدعون إلى رصد مدى تأثير التجاذبات التي نشأت على إطلاق الكرملين دينامية المصالحة، في تأخيرها، لكن هؤلاء يستبعدون وقفها.