عندما قرأتم عنوان المقالة، ما أول وجه خطر ببالكم ويعد تجسيداً للمافيا بالنسبة إليكم؟ هل هو مارلون براندو، أم آل باتشينو، أم روبرت دينيرو، أم آندي غارسيا، أم أندريس بارا؟
هؤلاء النجوم اللامعون ازدادوا بريقاً بفضل أفلام جميلة تدور حول واحدة من أبشع وأقذر وأخطر الظواهر على مر التاريخ، أفرزت للعالم أعتى الشخصيات وأكثرها وحشية.
ما المافيا؟
لعقود من الزمان، كانت العصابات موجودة في عديد من البلدان، لكن في بدايات القرن الـ19 في جزيرة صقلية بإيطاليا التي كانت محكومة من قبل سلسلة طويلة من الغزاة الأجانب بدأ الصقيليون بتشكيل مجموعات لحماية أنفسهم وتحقيق العدالة في أرضهم. ظهرت هذه المجموعات على هيئة جيوش خاصة كانت تبتز الملاك لدفع أتاوى في مقابل حماية أراضيهم ثم تنامت قوتها وسطوتها وتحولت بالتدريج إلى ممارسة أنواع مختلفة من الجريمة. وما زالت هذه الشبكات في صقلية حتى اليوم تنظر في بعض النزاعات التجارية وفي استعادة البضائع المسروقة.
كلمة مافيا Mafia مشتقة من كلمة Mafiusu الصقلية، وهي صفة تعني المتبجح أو المتفاخر بعدوانية، ولم تكن في البداية تحمل أية دلالة إجرامية لكنها تستخدم للإشارة إلى الشخص الذي يعارض السلطة المركزية.
مع الوقت بات مصطلح المافيا أكثر شيوعاً ويستعان به لوصف "شبكة" أو "نقابة" من عصابات الجريمة المنظمة التي تمارس الحماية بالابتزاز في المقام الأول، واللجوء إلى الترهيب العنيف للتلاعب بالنشاط الاقتصادي المحلي، وبخاصة التجارة غير المشروعة. قد يشمل نشاطها ممارسات ثانوية مثل تجارة المخدرات والقروض باهظة الفوائد والتزوير. ما يميز المافيا هو ارتباط أفرادها بميثاق شرف، وهو مدونة لقواعد السلوك والولاء وأهمها ما يعرف بميثاق الصمت (أو omertà) الذي يحمي الشبكة من محاولات التسلل الخارجية وتدابير إنفاذ القانون في بلد نشاطها ويواجه المرتدون عنه العذاب والموت وقد يطاول العقاب أسرهم.
أنواع المافيا
تنتشر المافيا في أنحاء مختلفة من العالم وبخاصة في أوروبا وآسيا والولايات المتحدة وأميركا اللاتينية. وفي البداية ارتبط المصطلح بالعصابات الصقلية وهي الأكثر شهرة، وعندما تستخدم كلمة مافيا وحدها فعادة يقصد بها المافيا الصقلية أو الأميركية. لكن هذه الأخيرة صعدت إلى الشهرة في عشرينيات القرن الماضي وهي كيان منفصل عن نظيرتها في إيطاليا على رغم اشتراكها في كثير من التقاليد. ذاع صيت هذه المافيا في الولايات المتحدة، إذ كانت تخوض معارك ضد بعض العصابات الأخرى في شيكاغو ونيويورك وغيرهما من المدن الأميركية في إطار الصراع على النفوذ وتقاسم الضرائب.
وعلى رغم أن الكلمة ترد أحياناً في سياق الحديث عن منظمات مشابهة في دول أخرى، حيث يقال المافيا الروسية أو المافيا اليابانية، إلا أن المنظمات الإجرامية لها تسميات خاصة بكل منها. المافيا الصقلية على سبيل المثال تحمل اسم "كوزا نوسترا" التي تعني "ملكنا" ويقال إن سيطرتها وصلت إلى حد "لم تكن ذبابة تدخل بستاناً من دون إذنها"، وفي نابولي تسمى "كامورا" وتعني خصام، أما في منطقة كلابريا قرب صقلية فتسمى "ندرانغيتا" ومعناها الولاء وفي منطقة بوليا جنوب إيطاليا تحمل اسم "ساكرا كورونا يونيتا" ومعناها التاج الموحد المقدس. تطلق المافيا المكسيكية على نفسها "لا إيميه" التي تعني "الحرف إم"، واليابانية "ياكوزا" أي قاطع الطريق.
أشهر زعماء المافيا
أسماء كثيرة طنانة أرعبت الناس وأحدثت ضجة وتهديداً كبيرين في العالم وتداولت الأخبار جرائمها التي تقشعر لها الأبدان على مدار سنوات، حتى أن عدداً منهم تحول إلى أبطال أسطوريين في قصص وأعمال درامية آسرة. اخترنا هنا خمسة من أبرزهم وصنفناهم بترتيب غير محدد:
1- آل كابوني
قد يكون هذا الاسم هو الأكثر شهرة ورسوخاً في أذهان معظم الناس، ولا يمكن وضع قائمة بأبرز زعماء المافيا في التاريخ من دون ذكر الرجل الذي كان عسيراً على القانون لسنوات.
كابوني الذي كان رئيساً لإمبراطورية إيطالية أميركية تحمل اسم "سلاح فرسان شيكاغو" ومقرها شيكاغو، كان متورطاً في كل ما يخطر ببالكم من جرائم: المقامرة والدعارة وتهريب الكحول والمخدرات وحتى السرقة والرشوة والقتل.
على رغم سجله الطويل من الجرائم، إلا أن سقوط كابوني كان بسبب التهرب الضريبي. حيث حكم عليه بالسجن مدة سبع سنوات ونصف السنة. توفي عام 1947 بمرض السفلس.
2. بابلو إسكوبار
تعود الجذور الإجرامية لـ إسكوبار إلى مرحلة المراهقة، لما كان يسرق شواهد القبور في بنما ويبيعها للمهربين. تبع ذلك دخوله في تجارة المخدرات في السبعينيات بالتزامن مع رواجها بشكل جنوني في الولايات المتحدة.
بنى مؤسسته القوية لتهريب المخدرات "كارتل" الشهيرة والقوية التي كانت بحلول الثمانينيات تسيطر على أكثر من 80 في المئة من الكوكايين المجلوب إلى الولايات المتحدة، وأصبح بذلك عاشر أغنى شخص في العالم ويقال إنه عرض ذات مرة سداد ديون بلاده كاملة. توفي وهو في الـ44 من عمره عام 1993 بطلق ناري في الرأس أثناء هربه.
كان إسكوبار مسؤولاً عن وفاة ثلاثة مرشحين للرئاسة الكولومبية، ونائب عام، ووزير عدل، وأكثر من 200 قاض، وعشرات الصحافيين، وأكثر من 1000 شرطي وعدد لا يحصى من المواطنين العاديين.
3- لاكي لوتشيانو
هذا الرجل إيطالي المولد هو مؤسس ما يعرف بالجريمة المنظمة في الولايات المتحدة الأميركية، إذ شكل النموذج الأسطوري للمافيا المعروف اليوم وحول النشاط الإجرامي الصغير إلى مؤسسة تكسب أرباحاً لم يكن تصورها ممكناً. بدأت مسيرته الإجرامية ضمن عصابة فايف بوينتس.
انتهت سطوة لوتشيانو بعدما وجهت إليه 62 تهمة مختلفة من بينها الدعارة الإجبارية وإدارة بيت دعارة وبعد سنوات من التحقيق حكم عليه بالسجن من 30 إلى 50 عاماً، لكن خلال الحرب العالمية الثانية أبرم اتفاقاً مع وزارة البحرية لتقديم معلومات استخبارية. ونتيجة لتعاونه المزعوم في زمن الحرب، خففت عقوبته بشرط أن يرحل إلى إيطاليا حيث توفي عام 1962.
4- داوود إبراهيم
يعد هذا الرجل المولود في الهند عام 1955 والمعروف بـ إبراهيم الغامض أحد أخطر زعماء المافيا في آسيا والعالم. كان مشهوراً لفترة طويلة بجرائمه في مومباي، وتحول من لص مبتز متجول تقليدي ومهرب للذهب إلى رجل متورط في حلقة من الشبكات الإرهابية العالمية التي تشمل علاقات مع تنظيم القاعدة.
إبراهيم مشتبه به محتمل في تدبير هجوم إرهابي في مومباي عام 1993 أسفر عن مقتل مئات، وربما كان له دور أيضاً في هجمات 2008 على عدد من الفنادق الفاخرة في المدينة. ازداد غموضه لكون مكان وجوده مجهولاً، إذ يعتقد مسؤولو المخابرات الهندية أنه يقيم في باكستان ربما لكن الباكستانيين يرفضون هذه المزاعم.
تشير بعض المصادر إلى ثروة تقدر بمليارات الدولارات تشمل ممتلكات وأصولاً تمتد من ماليزيا إلى شرق أفريقيا. صنفته مجلة فوربس سنة 2008 من بين أكثر الشخصيات الإجرامية نفوذاً في العالم.
5- هيسايوكي ماتشي
دخل رجل العصابات الكوري المولد الملقب بـ "نمر جينزا" (وهي منطقة في طوكيو) عالم الإجرام في اليابان عندما استقر في طوكيو بعد الحرب العالمية الثانية. أصبح هيسايوكي لاعباً فاعلاً في السوق السوداء ونجماً في كثير من المجالات، من السياحة والدعارة إلى استيراد النفط.
أسس هيسايوكي عصابة "توسي كاي" التي بلغت ذروتها في الستينيات وسمحت له بأن يصبح وسيطاً أساسياً بين اليابان وكوريا الجنوبية. انفرط عقد العصابة في وقت لاحق، لكن هيسايوكي استبدلها بمنظمتين إجراميتين أخريين. تقاعد الرجل من مهماته في سن الـ80 ولم يتعرض له القانون أبداً وتوفي عام 2002.
المافيا في الأدب وعلى الشاشة
أعطتنا أعمال أدبية وسينمائية وتلفزيونية كثيرة، منها الغث ومنها السمين، نظرة عن قرب على دواخل هذه المنظمات المرعبة وآليات العمل فيها والقوانين التي تحكم أفرادها والروابط العائلية فيها. هناك قصص كثيرة استعانت برجال المافيا للعب دور البطل الذي لا يتمتع بصفات البطل التقليدي وهو، على رغم إجرامه، المنقذ والمدافع عن أسرته والوطني الذي يمتلك قلباً عطوفاً ويمكن الاعتماد عليه أوقات الأزمات. لكن سنركز اختيارنا هنا على روايات قدمت المافيا على حقيقتها الإجرامية ومساعيها غير الأخلاقية وراء السلطة والثروة والسطوة، ونذكر منها: "العراب" لـ ماريو بوزو، و"منتصف الليل في صقلية" لـ بيتر روب، و"متمردون بدائيون" لـ إيريك هوبسباون، و"أخويات المافيا" لـ جون ديكي، و"ابن العصابة" لـ غوردن كورمان.
أما السينما فقد ساهمت في تشكيل نظرة رومانسية غير منطقية بالمافيا، من خلال أعمال رائعة حولت المجرمين إلى أساطير ونجوم لامعين يتمتعون بجاذبية وكاريزما وشخصيات ازدادت جمالاً بفضل أمثال مارلون براندو وآل باتشينو وروبرت دي نيرو. لعل أول وأشهر عمل يحضر في الذهن عند الحديث عن المافيا هو ثلاثية "العراب" The Godfather تحفة المخرج فرانسيس فورد كوبولا التي تعتبر أحد أكثر الأفلام نجاحاً على الصعيدين الجماهيري والنقدي على حد سواء، حيث ترشح لـ11 جائزة أوسكار، فاز بثلاث منها. وحقق أرباحاً تجاوزت 245 مليون دولار من موازنة قدرها 6 ملايين. لكن النجاح هذا لم يكن مهمة سهلة، إذ يقال إن الدراما التي كانت سائدة في موقع التصوير أسخن من تلك التي تجري أمام الكاميرات. هناك أيضاً فيلم "رفاق طيبون" للمخرج مارتن سكورسيزي الذي يحكي قصة هنري هيل وحياته في الغوغاء، بما في ذلك علاقته بزوجته كارين هيل وشركائه في عصابة جريمة إيطالية أميركية. يلعب بطولة الفيلم روبرت دي نيرو وجو بيشي اللذان عادا للتعاون مع سكورسيزي بعد 29 عاماً للصناعة فيلم "الإيرلندي" الذي يتناول شخصية فرانك شيران الرجل الإيرلندي الذي عمل في اتحاد العمال الأميركي، إضافة إلى دوره البارز داخل عالم الجريمة المنظمة. في رصيد سكورسيزي عناوين أخرى تركز على المافيا منها: "المغادرون" و"شوارع متوسطة" و"كازينو" و"كلاب المستودع".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من العلامات السينمائية الفارقة في قصص المافيا أيضاً "الحي الصيني" للمخرج رومان بولانسكي و"رجل عصابة أميركي" لريدلي سكوت و"حدث ذات مرة في أميركا" لسرجيو ليوني و"أدب رخيص" لكوينتين تارانتينو.
بدأ اهتمام الشاشة الصغيرة بهذا النمط من الحكايات مع بداية الألفية، إذ من النادر العثور على مسلسل عن المافيا والجريمة المنظمة قبل ذلك باستثناء مسلسل "الممنوع لمسهم" الأميركي الذي كان يعرض بين عامي 1959 و1963 ثم أعيدت صياغته على هيئة فيلم بالعنوان نفسه في عام 1987. من أبرز الأعمال التلفزيونية التي حققت نجاحاً كبيراً "ناركوس" الحاصل على جائزتي غولدن غلوب وجائزة بافتا ويستند إلى القصة الحقيقية لتاجر المخدرات الشهير بابلو إسكوبار، و"آل سوبرانو" الذي فاز بـ21 جائزة إيمي وخمس جوائز غولدن غلوب ويعد من أعظم العروض التلفزيونية على الإطلاق وساهم في صعود نجم أبطاله الذين لم يكونوا معروفين جيداً قبل مشاركتهم فيه. مما يميز مسلسل "بيكي بلايندرز" هو أن أحداثه لا تدور في إيطاليا أوالولايات المتحدة أو أميركا اللاتينية بل في إنجلترا، إذ يركز على حياة عائلة شيلبي في بيرمينغهام بعد الحرب العالمية الأولى التي شكلت عصابة "بيكي بلايندرز" الحقيقية التي كانت ناشطة في المدينة منذ تسعينيات القرن الـ19 إلى أوائل القرن الـ20. وصل نجاح المسلسل إلى درجة دفعت شركة كورف غيمز لإصدار لعبة مبنية على المسلسل عام 2020 متوفرة على أجهزة إكس بوكس وبلاي ستيشن ونينتندو سويتش.
ستظل المافيا تجذبنا على رغم دمويتها وعنفها الذي ربما يفوق في الواقع ما نراه على الشاشات أو نقرؤه بين طيات الكتب، لكننا سنواصل مشاهدة أفلام العصابات لما فيها من إثارة ترضي فضول الباحثين عن خفايا عالم يغرق في الأموال والدماء.