شدّدت ولاية كاليفورنيا إجراءاتها الصارمة حيال الآباء الذين يرفضون إعطاء أطفالهم لقاحات لأنهم يعتقدون خطأً بأنّها تستطيع التسبّب في مرض التوحّد ("أوتيزم" Autism). تمثّل ذلك في قانون تزعم حملة إقراره السيناتور ريتشارد باين (من الحزب الديمقراطي، ساكرامانتو) الذي يعمل أيضاً طبيباً للأطفال، ما يجعله عملة نادرة بين المشرعين في الكونغرس. وفعليّاً، يعتبر باين خبيراً محلّفاً في موضوع القانون الذي يسعى إلى إقراره. وفي 2015، ساعد في صياغة مشروع قانون يطلب من الآباء الذين لا يرغبون في تطعيم أطفالهم إعطاء سبب طبي يبرر موقفهم وإلا فسوف لن يُسجّل أطفالهم في المدارس. وحاضراً، يخوض السيناتور باين حرباً ضد أطباء فاسدين يكتبون تقارير طبيّة تقدّم تبريرات زائفة للآباء الراغبين فيها مقابل 600 دولار للتقرير. وحاضراً، صار القانون يُلزِم وزارة الصحة في ولاية كاليفورنيا بأن تجري مراجعة لكل التقارير التي تُعطى للتهرب من التطعيم. ويكون بوسع الوزارة قبول التقارير أو رفضها. ويتوجّب عليها صنع صيغة رسمية عن ذلك النوع من التقارير. وكذلك تُدرَج تلك التقارير في قاعدة بيانات ولاية كاليفورنيا.
ومع تذكّر أنها تشمل مجموعة من الاضطرابات النفسية- العقلية، لا مرضاً واحداً، إضافة إلى مروحة من الأنماط والميزات الشخصية والنفسية التي لا تكون مرضاً بالضرورة، ارتفعت معدلات الإصابة بظاهرة التوحّد خلال العقدين الأخيرين في البلدان المتقدمة. ووفق أرقام من مؤسّسة "مراكز ترصّد الأمراض" الأميركية، يتبيّن أنه بالنسبة للأطفال الذين وُلِدوا في 1992، يُشخّص 1 من كل 150 طفلاً منهم باعتباره مُصاباً بأحد أشكال ظاهرة التوحّد. وفي المقابل، يُشخّص 1 من كل 68 طفلاً ممن وُلدوا في 2004، باعتباره مُصاباً بأحد أشكال ظاهرة التوحّد. ومن الصعب إجراء مقارنة بين تلك الأرقام وبين مُعدّلات الإصابة بالتوحّد في تسعينيات القرن العشرين أو في حقب أكثر تبكيراً تمتد بين أربعينيات القرن العشرين وثمانينياته. وفي السنوات المُبكرة، لم يكن التوحّد ليُشخّص إلا لدى من يعانون أشكالاً شديدة منه، كما قُدّرَتْ مُعدّلات الإصابة بقرابة 1 لكل عشرة آلاف شخص.
ومع بداية التسعينيات من القرن العشرين، شهد مفهوم ظاهرة التوحّد توسّعاً كبيراً. وحاضراً، ثمة أشخاص تُشخّص إصابتهم بأحد أشكال التوحّد لكنهم ما كانوا ليحصلوا على ذلك التشخيص في عقود سابقة.
وحاضراً، لا نعرف إن كان السبب في المُعدلات المرتفعة للإصابة بظاهرة التوحّد، يتصل بزيادة تشخيص تلك الظاهرة وتوثيقها، أو تغيير التعريف العلمي للتوحّد، أو حدوث زيادة فعليّة في الإصابة بأحد أشكالها المتعددة. وحتى لو ضربنا صفحاً عن ذلك، قدّم بحّاثة وآباء قلقون بشأن ذلك الأمر، تأمّلاتهم عن أسباب التوحّد، كما دُرِسِتْ تلك الظاهرة بتوسّع. ووُضِعَ دور اللقاح على محك البحث، إضافة إلى أسباب أخرى مثل التأهيل الوراثي، والتأخر في الزواج، إضافة إلى عناصر بيئية واجتماعية متنوّعة. ولربما نالت اللقاحات نصيباً واسعاً من التدقيق العلمي، يفوق ما نالته أسباب محتملة أخرى للإصابة بالتوحد. وتوصّلت غالبية كبرى من العلماء والأطباء والبحاثة في الصحة العامة، إلى خلاصة مفادها عدم وجود صلة بين اللقاحات والتوحّد. وعلى الرغم من ذلك، يبقى ثمة من يطرح سؤالاً عن دور اللقاحات في التسبّب بحدوث التوحّد. واستطراداً، تبقى مؤسسات الطب والصحة العامة معنية بالتعامل مع تلك المخاوف.
ترجع قصة السؤال عن العلاقة بين اللقاحات والتوحّد إلى حقبة التسعينيات من القرن العشرين. وفي عام 1998، نشرت مجلة "ذي لانسيت" العلمية دراسة أجراها المتخصص في طب الجهاز الهضمي، د. آندرو وايكفيلد، بمشاركة 12 زميلاً له، وزعموا أنهم عثروا على فيروس الحصبة في أمعاء أطفال ظهرت عليهم أعراض التوحّد بعد إعطائهم اللقاح الثلاثي الذي يؤخذ للوقاية من الحصبة والنُكاف والحصبة الألمانية. وشملت عينتهم عدداً قليلاً من الأطفال (12 طفلاً بالتحديد). وعلى الرغم من أنهم أقرّوا بأنهم لم يُظهِروا علاقة سببيّة بين اللقاح الثلاثي والتوحّد، إلا أن وايكفيلد زعم في فيديو نشره على الإنترنت بالتزامن مع نشر ورقة تلك الدراسة، أنه توجد علاقة سببيّة بين اللقاح الثلاثي والتوحّد. ووفق كلماته، "إن خطر ظهور ذلك المرض (الذي أطلق عليه تسمية "التهاب الأمعاء التوحّدي" Autistic Enterocolitis) يتصل باللقاح الثلاثي المُركّب، وليس بإعطاء لقاح منفصل لكل مرض على حِدَة". وتالياً، أوصى بوقف إعطاء اللقاح الثلاثي واستبداله بلقاح منفصل لكل من الأمراض الثلاثة، على أن يفصل بينها وقت كاف. وسبق لوايكفيلد نفسه أن تقدّم بطلب الحصول على براءة اختراع عن لقاح منفصل للحصبة في 1997، ما يعني إمكان حصوله على منفعة مادية من ترويج وجهة نظره بشأن اللقاح الثلاثي.
جاء ردّ الفعل على ما نشره وايكفيلد فوريّاً. وغطت وسائل الإعلام أخبار تلك المزاعم بكثافة. وفي بريطانيا والولايات المتحدة، شرع آباء مذعورون في تأخير إعطاء اللقاح لأطفالهم، ورفضه بعضهم كليّاً. وتناقصت أرقام اللقاح الثلاثي بسرعة في بريطانيا.
في السنوات الاثنتي عشر التالية، جرى التدقيق بكثافة وتوسّع في إمكان وجود علاقة بين اللقاح الثلاثي ومرض الأمعاء، وكذلك الحال بالنسبة للعلاقة بين اللقاح الثلاثي والتوحّد.
في 2004، كتب د. ريتشارد هورتون، وكان آنذاك محرراً في مجلة "ذي لانسيت"، أنّه كان متوجّباً على وايكفيلد أن يخبر المجلة عن تلقيه أموالاً من محامي ادعاء سعوا إلى رفع دعاوى قضائية ضد منتجي اللقاح الثلاثي. وفي مقابلات تلفزيونية، أشار هورتون إلى أنّ البحث الذي أجراه وايكفيلد "تضمن أخطاء قاتلة". وكذلك عمد معظم من شاركوا وايكفيلد في تلك الدراسة، إلى سحب الاستنتاجات التي ضُمّنَتْ فيها. وفي 2010، سحبت مجلة "ذي لانسيت" بصورة رسميّة تلك الدراسة.
في مايو (أيار) 2010، بعد ثلاثة شهور على سحب دراسة وايكفيلد مِنْ قِبَل "ذي لانسيت"، أصدر "المجلس الطبي العام" في بريطانيا قراراً بوقف وايكفيلد عن ممارسة الطب في بريطانيا، مشيراً إلى أنّه أظهر "احتقاراً قاسياً" حيال الأطفال في سياق عمله على تلك الدراسة. وكذلك استشهد المجلس المعلومات التي لم تكن منشورة في السابق، عن مدى تمويل دراسة وايكفيلد من قِبَل محامين كانوا يأملون في مقاضاة منتجي اللقاح الثلاثي، لمصلحة آباء الأطفال الذين أصيبوا بالتوحّد.
في 6 يناير (كانون الثاني) 2011، نشرت "المجلة الطبية البريطانية" تقريراً كتبه براين دير، وهو صحافي بريطاني سبق له الكتابة عن عيوب في دراسة وايكفيلد. وأعد دير التقرير بعد لقاءات مع آباء لأطفال شملتهم تلك الدراسة، ووجد أدلة على تحريف وايكفيلد معلومات وبيانات عن الأحوال الصحية لأولئك الأطفال.
وتحديداً، أفاد دير بأنّ ثمانية من الـ12 طفلاً الذين أوردت دراسة وايكفيلد أنهم عانوا التوحد أو مرضاً في الأمعاء بعد إعطائهم اللقاح الثلاثي، تُظهر ملفاتهم أن إثنين منهم ظهرت عليهم تلك الأمراض أثناء الفترة الزمنية التي وردت في الدراسة. ويضاف إلى ذلك إنّه فيما وصفت الدراسة الأطفال الـ12 بأنهم كانوا يتمتعون "بصحة جيدة" قبل إعطائهم اللقاح الثلاثي، إلا أن إثنين منهم عانوا بطئاً في النمو كان موثقاً في ملفاتهم الطبية، قبل إعطائهم اللقاح.
وعقب مراجعة الملفات الطبيّة لجميع الأطفال الـ12 الذين شملتهم دراسة وايكفيلد، لاحظ دير أن الخلاصات الواردة في الدراسة لا تتطابق مع الأرقام التي تحتويها الملفات الطبيّة، في مناحٍ كثيرة. ويشمل ذلك أعداد الأطفال الذين أصيبوا بتوحّد نكوصي (بمعنى ارتداد الطفل إلى مرحلة سابقة في نموه)، أو أصيبوا بالتهاب غير محدد في الأمعاء، أو عانوا أعراضاً لمرض التوحّد بعد أيام من إعطائهم اللقاح الثلاثي. وكذلك زعمت تلك الدراسة نفسها أن ستة من الأطفال أصيبوا بتلك الحالات الثلاث كلها، فيما تؤكّد ملفاتهم الطبيّة أن لا أحد منهم عانى تلك الحالات سويّة. (هناك جدول يحتوي مقارنة بين معلومات عن ثلاثة مناحي لدى الأطفال الـ12 ترد في دراسة وايكفيلد وبين ما يرد في ملفات "هيئة الصحة الوطنية" البريطانية عن تلك المناحي نفسها، بما في ذلك بيانات من "المستشفى الملكي". ويفصّل الجدول نقاط المقارنة بين أرقام دراسة وايكفيلد والملفات الطبية الرسمية التي استند إليها الصحافي دير في تقريره).
في مقال افتتاحي ظهر في عدد "المجلة الطبية البريطانية" الذي احتوى تقرير دير، دقّقت رئيسة التحرير فيونا غودلي، وزميلاها هارفي ماركوفيتش وجاين سميث، في الضرر الذي استطاعت دراسة لم تشمل سوى عيّنة صغيرة واستندت إلى ما يتذكره الآباء عن أحوال أطفالهم، ولا تحتوي مجموعة ضابطة للمقارنة معها (كما أنها دراسة تبيّن أنها كانت فاسدة بصورة شبه كليّة)، استطاعت أن تُخلّف تأثيراً ما زال مستمراً حتى الآن.
وعلى الرغم من دحض المعطيات التي تضمنتها دراسة وايكفيلد من قبل العلماء منذ وقت طويل، إلا إنّ إظهار أدلة على أن المعطيات بحد ذاتها كانت مزيفة، يجعل ذلك التقرير الذي نشرته "المجلة الطبية البريطانية" محطة مهمة في تاريخ اللقاحات. ثمة دليل قوي على أن دراسة وايكفيلد لم يكن لها أن تُنشَر أصلاً، ليس لمجرد أنها جرت بطريقة غير منضبطة علمياً، لكن لكونها أيضاً نتيجة بحث خالطه الفساد.
لم يجر استهداف اللقاح الثلاثي أو غيره من اللقاحات مِن قِبَل من يعتقدون بوجود علاقة بين اللقاحات والتوحّد. وبعد تخافت النقاش عن اللقاح الثلاثي، صوّب المشككون أسئلتهم على مادة "ثيمِروثال" التي تستعمل في تحضير بعض أنواع اللقاح، وتحتوي على الزئبق. يُشار إلى أن الـ"ثيمِروثال" لم تستعمل أبداً في إعداد اللقاح الثلاثي لأن المواد المُضادة للميكروبات لا تستخدم في إعداد لقاحات فيها مُكوّنات بيولوجيّة حيّة.
منذ حقبة الثمانينيات في القرن العشرين، أُضيفت لقاحات عدّة إلى برامج تطعيم الأطفال، وظهرت أصوات تنتقد ذلك وتظهر قلقها بشأن قدرة اللقاحات الكثيرة على التسبّب في التوحّد. في المقابل، لم يظهر دليل على وجود رابط بين التعرّض إلى أنواع كثيرة من اللقاحات من جهة، وبين ظهور التوحّد من الناحية الأخرى. وركّز آخرون على عنصر مُكوّن من الألمونيوم يستخدم في سياق تحضير بعض اللقاحات، معتبرين أنه يحمل إمكان التسبّب في التوحّد. وفي المقابل، يجدر القول إنّ كمية الألمونيوم المستخدمة في تحضير بعض أنواع اللقاحات، أقل كثيراً من تلك المتأتية من أنواع أخرى من التعرّض للألمونيوم كتلك الموجودة في الحليب المُخصّص لصغار الرُضّع، وكذلك حليب الأم. لم تظهر أدلة على وجود رابط بين الألمونيوم الموجود في اللقاحات، وبين أي مشكلة صحية في الأطفال والرُضع.
يميل معظم الباحثين إلى الاقتناع بعدم وجود أي رابط بين اللقاحات من جهة، والتوحّد أو أي مرض في تطوّر الجهاز العصبي عند الأطفال. في المقابل، ما زال بعض المشككين يثير أسئلة عن ذلك الأمر. إذ لا يكتفون بالتشكيك بشأن العلاقة بين التوحد واللقاح الثلاثي ومادة "ثيمِروثال"، بل يشيرون إلى مجموعة من الأشياء التي يظنون بأنها تؤدي دوراً في نشوء التوحّد. وفي ذلك الصدد، يستمر البحاثة في تفحّص تلك الأسئلة، لكن لا يظهر أي دليل على وجود علاقة بين تلك الأشياء المُشار إليها آنفاً، وبين ظهور التوحّد وتطوّره. ويشدّد معظم البحاثة المتخصصين في التوحّد، على وجود أسباب متعددة لذلك المرض تشمل عوامل جينية وبيئية، لكنها لا تشمل اللقاحات.