بدت سياسة مصر الخارجية لأعين المراقبين تتحرك في دوائر غير تقليدية مع تدشين جولة رئاسية آسيوية نادرة في سياقها وتوقيتها ومحطاتها.
الجولة التي شملت الهند وأذربيجان وأرمينيا رسمت دوائر حركة جديدة تحظى باهتمام عالمي من جانب القوى الدولية، لكنها أيضاً أعادت تنشيط تلك الدوائر بما يحقق أهداف الأجندة الوطنية للدبلوماسية المصرية وبخاصة على المستوى الرئاسي، ما نظر إليه كخطوة جديدة في ما يمكن تسميته "دبلوماسية التنمية"، في وقت يتعرض الاقتصاد المصري والعالمي لتحديات وضغوط متراكمة، ومعالجة إصلاحية لاختلالات هيكلية برزت آثارها مع تراكم فاتورة التداعيات الاقتصادية للحرب الروسية في أوكرانيا وجائحة "كوفيد-19" على المستويين الإقليمي والدولي.
تعكس المحطة الأولى لجولة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي التي بدأها في الهند رسالة عدم الانحياز في أجواء الاستقطاب العالمي، ظهر ذلك خلال المباحثات على مستوى القمة في نيودلهي بين دولتين من مؤسسي حركة عدم الانحياز، جنباً إلى جنب مع ما عكسته زيارة كل من أذربيجان وأرمينيا من الوقوف على مسافة واحدة بين دولتين جارتين بينهما نزاع حدودي تاريخي ومتجدد.
لكن الجولة سعت أيضاً إلى التأسيس لشراكة استراتيجية وحضور أوسع في منطقتين محل الاهتمام العالمي، جنوب آسيا ومنطقة القوقاز ووسط آسيا أيضاً، في ظل التحالفات الاستراتيجية والأمنية الدولية القائمة والناشئة في تلك المنطقة، وسط تنافس صيني – أميركي على توجيه دفة النظام العالمي.
الجولة الأولى للسيسي خلال هذا العام، التي أثارت تساؤلات بعض المراقبين في شأن اتجاه بوصلة السياسة الخارجية المصرية مع تحركها في دوائر جديدة بعيداً من دوائر المصالح الحيوية في الجوار المباشر، اختتمت عشية جولة وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن إلى المنطقة وتشمل مصر وفلسطين وإسرائيل، مما يشير إلى صورة أوسع من التفاعلات على المستوى الدولي تشمل تلك الجولة التي جاءت في أعقاب القمة الثلاثية بين مصر والأردن وفلسطين، ثم القمة التشاورية في أبوظبي بمشاركة مصر والإمارات والأردن والبحرين وعمان وقطر، ومن قبلها "قمة الرياض" العربية - الصينية في السعودية.
دبلوماسية اقتصادية
ركزت الجولة على استكشاف فرص الاستثمار والتعامل مع التحديات المتغيرة للاقتصاد العالمي وبخاصة في ضوء أزمة الأمن الغذائي العالمية، إذ اتفقت مصر والهند على تعزيز سلسلة التوريد للمواد الغذائية، وتسريع خطى التعاون في المجال التكنولوجي المرتبط بالغذاء والزراعة، فضلاً عن مشروعات الطاقة والبنية التحتية والصناعات الدفاعية.
ويرى محمد فايز فرحات، مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية بالقاهرة، أن الزيارة تأتي بعد زيارات آسيوية عدة للرئيس المصري خلال السنوات الماضية، ومن بينها زيارات لآسيا الوسطى ومجموعة دول القوقاز كأرمينيا وأذربيجان، مما يعكس اهتمام مصر بالدائرة الآسيوية بشكل عام، وبعض الأقاليم التي لم تكن لها تاريخياً علاقات قوية مع مصر، ومنها إقليم القوقاز وآسيا الوسطى.
وفي شأن دلالة تلك الجولة على المستويين الدبلوماسي والاقتصادي، اعتبر فرحات أن اتجاه القاهرة لتنشيط دوائر حركة جديدة للسياسة الخارجية المصرية لم يكن هناك اهتمام كبير بها ومنها إقليم القوقاز وآسيا الوسطى، يعد جزءاً من اهتمام مصر بالدائرة الآسيوية، لكن الدلالة الثانية الأهم تتمثل في "أولوية دبلوماسية التنمية"، فالسياسة الخارجية المصرية، إضافة إلى وظائفها التقليدية، تعمل على خدمة عملية التنمية القائمة على جذب الاستثمار وترويج الفرص الاستثمارية في مصر، من أجل تسريع وتدعيم عملية التنمية في الداخل، وعرض الإصلاحات الهيكلية التي تجري في الاقتصاد المصري، وبخاصة من خلال مقابلاته مع مجتمعات الأعمال في الدول التي يزورها الرئيس المصري، كما أعلن في الزيارة الخاصة بالهند مضاعفة حجم التجارة خلال لقاءات السيسي بقادة مجتمع الأعمال الهندي، وبصورة عامة تعتبر التنمية أحد الدوافع المحركة للسياسة الخارجية المصرية لا سيما عبر الدبلوماسية الرئاسية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في مقابل ذلك، يتفق أحمد عبده طرابيك، الكاتب والباحث المتخصص في شؤون آسيا الوسطى، مع ما ذهب إليه فرحات في شأن الشق الاقتصادي للجولة، لكنه يرى أن أبعاداً تاريخية وثقافية أيضاً دفعت إلى اختيار محطات تلك الزيارة، فضلاً عن سياق اللحظة الدولية الراهنة.
ويضيف طرابيك "الهند دولة صاعدة قوية، والرئيس الحالي لمجموعة العشرين، وتتفق السياسة الخارجية المصرية مع الهند في كثير من الملفات، كما أن طموحات البلدين في المجال الاقتصادي تجعل منهما شريكين مهمين في شبه القارة الهندية ومنطقة الشرق الأوسط، كما أنه يمكن بناء شراكة اقتصادية مهمة بين مصر وأذربيجان في عديد من القطاعات، بخاصة قطاع السياحة والدواء والصناعات النفطية والنسيج. وتشهد أذربيجان فترة ازدهار كبيرة بفضل ثروتها النفطية، وتسعى منذ سنوات إلى تنويع اقتصادها وعدم الاعتماد على النفط كمورد وحيد أو رئيس في اقتصادها، وهذا ما يمكن من خلاله إيجاد مجالات عديدة للتعاون من خلالها بين البلدين".
تكامل أفريقي - آسيوي
عملت الجولة على تعزيز الروابط الاقتصادية الأفروآسيوية من خلال التركيز على تخفيف التداعيات الاقتصادية الناتجة من أزمة جائحة كورونا والأزمة الروسية - الأوكرانية على دول الجنوب، وما تبعها من تداعيات على الأمن الغذائي والطاقة وحركة الملاحة البحرية والخدمات المصرفية والسياحة، وهي مجالات تمثل محركاً رئيساً للاقتصاد المصري. إلى جانب مكافحة التطرف من خلال التنمية والمواجهة الثقافية والفكرية وتجفيف منابع الإرهاب، نظراً إلى الترابط بين آسيا وأفريقيا في المهددات الأمنية المرتبطة بالعنف المسلح والإرهاب.
وفي باكو، شملت مباحثات السيسي وعلييف مناقشة جهود مكافحة الإرهاب والفكر المتطرف، في ضوء ما تمثله تلك الظاهرة من تهديد حقيقي على مساعي تحقيق التنمية في المنطقة والعالم، إذ أكد السيسي ضرورة تضافر جهود المجتمع الدولي لحصار تلك الآفة على جميع المستويات، كما عملت الجولة على استعراض المقاربة الشاملة التي اتبعتها مصر في الحرب على الإرهاب من خلال علاج جذور المشكلة عبر دعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية ومحاربة الفكر المتطرف.
وذكر موقع "فيرست بوست" الهندي أن "مصر أيضاً الوجهة الاستثمارية الرائدة للشركات الهندية وهي من بين أهم الشركاء التجاريين للهند في أفريقيا. وبلغ حجم التجارة الثنائية بين الهند ومصر 7.26 مليار دولار في العام المالي 2021-2022، مسجلاً زيادة بنسبة 75 في المئة مقارنة بالعام المالي الماضي، كما يمكن لنيودلهي الاستفادة من هوية مصر كأمة عربية أفريقية من أجل تعميق علاقاتها الاقتصادية بالمنطقتين العربية والأفريقية".
على المستوى الاقتصادي، ووفق الباحث والكاتب المتخصص في شؤون آسيا الوسطى أحمد طرابيك، فإنه "إذا كانت أفريقيا تشكل مصدر تنافس للدول الكبرى خلال السنوات الماضية نظراً إلى ما تمتلكه من موارد طبيعية مهمة للثورة الصناعية التي يشهدها العالم اليوم، فإنه يمكن القول إن القارة الآسيوية هي القارة الواعدة لاستخدام تلك الموارد الطبيعية الأفريقية، ومن هنا تأتي أهمية العلاقات الاقتصادية بين مصر والدول الآسيوية، حيث يمكن لمصر أن تحقق فوائد اقتصادية بحكم موقعها بين القارتين، وكذلك من خلال علاقاتها الطيبة مع الدول الأفريقية والدول الآسيوية، وتستطيع مصر إقامة شراكة اقتصادية سواء من خلال عملية التصنيع مع الدول الآسيوية وبخاصة الهند، أو من خلال إقامة مشاريع مشتركة في مجال التنقيب عن الموارد الطبيعية في أفريقيا بالتعاون مع الشركات الآسيوية التي تمتلك الخبرات في هذا الشأن".
ويتابع طرابيك "كما تريد مصر توسعة دائرة علاقاتها الاقتصادية لتشمل مزيداً من الدول الآسيوية بما تمتلكه هذه الدول من موارد طبيعية ونمو اقتصادي قائم على التكنولوجيا، وغيرها من المقومات التي تساعد على دفع العلاقات الاقتصادية نحو تحقيق مصالح مشتركة مما يعود بالنفع على جميع الأطراف، وكذلك الاستفادة من الخبرات الآسيوية في نجاح برامج النمو الاقتصادي لديها لدعم برنامج الإصلاح الاقتصادي المصري".
لماذا الهند؟
يعتقد الباحث المتخصص في الشؤون الدولية والاستراتيجية أنس القصاص أن أهمية دعوة نيودلهي للرئيس المصري جاءت في إطار اتجاه الهند للتوسع غرباً من أجل أغراض شتى، ليس على قمتها التجارة والاقتصاد والتبادل التكنولوجي فقط، بل كذلك أولويات الأمن والعسكرية.
و"كما أن مصر في حاجة إلى اتفاق واسع مع الهند على كثير من المحاور، منها اتفاق اقتصادي لتخفيف التعثر الدولاري والحد من المشتريات الدولارية من الهند التي تناهز ستة مليارات دولار أميركي، وعلى رأسها اللحوم والقمح، لكن الهند كذلك في حاجة إلى توسيع التبادل المعلوماتي والاستخباراتي مع مصر، التي لديها خبرة كبيرة في مكافحة الإرهاب والتطرف لا سيما في ما يتعلق بملف أفغانستان، وهو ما يفسر جزئياً الزيارات المتكررة لمستشار الأمن القومي الهندي ورئيس شعبة المعلومات والتحليل بالاستخبارات الهندية سامانت كومار جويل لمصر في العامين الماضيين، والتي كان آخرها في الصيف الماضي"، بحسب القصاص.
وعملت الجولة على تعزيز التنسيق مع الهند في ضوء دورها الآسيوي والعالمي في موازنة الاستقطاب الدولي الراهن والتخفيف من تداعياته على البلدان النامية، وفي كلمته خلال لقاء رئيسة الهند دروبادي مورمو، قال السيسي "بالنظر إلى ما يشهده العالم من استقطاب دولي له تبعات سلبية شديدة على جميع الشعوب، يتحتم على دولنا النامية التكاتف لمواجهة التحديات المشتركة والأزمات الدولية المستجدة، بما في ذلك أزمتا الطاقة والغذاء".
واتفق الجانبان المصري والهندي "على أهمية تعزيز التعاون في المجال الأمني، وإعطاء قوة دفع لمزيد من التنسيق في ذلك المجال الحيوي، فلا تنمية من دون استقرار أمني".
يشير القصاص إلى أن من المرجح أن تتصاعد وتيرة التعاون بين نيودلهي والقاهرة في الفترة المقبلة في الجوانب التجارية والأمنية والعسكرية في سياق تصاعد الأزمة الدولية على خلفية الحرب الأوكرانية والصراع بين واشنطن وبكين على سيادة النظام الدولي، لكن "احتمالات انضمام القاهرة إلى تحالف (I2U2) ليس قريباً، ولن يكون يسيراً بسبب شروط الطرف الأميركي، كذلك فإن القاهرة غير راغبة في الانضمام إلى أي تحالف تحيطه الفكرة الإبراهيمية في هذا التوقيت"، على حد قوله.
كيف تنظر الهند إلى الزيارة؟
تأتي زيارة الرئيس المصري إلى الهند في إطار عقيدة سياسية قديمة تتشارك فيها القاهرة ونيودلهي، "حيث ترمي الأولى إلى بناء علاقات سياسية متوازنة مع مكونات النظام الدولي وفاعليه الأساسيين، كما أن الثانية، على رغم تحالفها الاستراتيجي واسع المدى مع الولايات المتحدة في إطار استراتيجية الإندوباسيفيك، فإن ذلك لم يغير من وضعها حتى الآن حليفاً عسكرياً كبيراً لروسيا وشريكاً اقتصادياً مهماً لإيران"، هكذا يرى الباحث أنس القصاص تلك الزيارة.
ويستكمل "من أجل فهم جيد لتطلعات الهند الحالية ونظرتها إلى النظام العالمي الذي يتشكل الآن، يجب النظر إلى الطموحات الجيوسياسية لنيودلهي في إطار هيكل القوة الهندي الذي يتخطى إطار الجغرافيا الهندية. فالبلد قفز في مؤشرات الاقتصاد العالمي ثلاثة مقاعد للأمام في السنوات العشر الماضية حتى بات اليوم صاحب خامس أكبر ناتج محلي إجمالي في العالم، كما أن الهند بدأت في تنفيذ خطة طموحة لتطوير البحرية، وقامت بتشغيل حاملتها الثانية (فيكرانت) المنتجة محلياً خلال الصيف الماضي، وهي الخطة التي تأتي في إطار استراتيجية كبرى لتوطين الصناعات العسكرية عبر 18 قطاعاً صناعياً، لذا فإن منظور نيودلهي الحالي هو استغلال هذه القوة في اقتناص الفرصة الحالية داخل المنظومة الدولية بسبب الخلاف بين الولايات المتحدة والصين حول طبيعة قواعد النظام الدولي في الفترة المقبلة".
ويتابع القصاص "لهذا فإن الفرصة سانحة لنيودلهي للقفز في هيكل القوة العالمي خلال السنوات الخمس المقبلة إذا ما استغلت قدراتها ووسعت من تحالفاتها. ومن أهم هذه التحالفات ما أصبح يطلق عليه تحالف غرب آسيا الرباعي، أو التحالف الهندي الإبراهيمي Indo-Abrahamic Alliance، الذي كانت أهم ثماره تدشين مجموعة (I2U2) التي تضم الهند وإسرائيل والولايات المتحدة الأميركية والإمارات العربية المتحدة في أكتوبر (تشرين الأول) 2021".
في مقابل الحديث المتواتر في بعض التحليلات الغربية عن صيغ التقارب العربي الآسيوي في هذه المرحلة، وجدت مصر والهند فرصة لتأكيد التعاون الدفاعي في تعزيز الشراكة الثنائية، وقررتا التركيز على تعميق التعاون بين الصناعات الدفاعية في البلدين واستكشاف مبادرات جديدة لتكثيف التعاون العسكري، بحسب البيان المشترك الصادر في ختام زيارة السيسي للهند.
وشهدت السنوات الأخيرة ترقية التعاون الدفاعي الثنائي بين مصر والهند منذ اجتماع لجنة الدفاع المشتركة، الذي عقد في القاهرة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2019، فضلاً عن مشاركة القوات الجوية الهندية في أول تدريب جوي تكتيكي مشترك على الإطلاق في مصر، أكتوبر 2021، وفي برنامج القيادة التكتيكية للقوات الجوية المصرية في يونيو (حزيران) الماضي، فضلاً عن توقيع مذكرة التعاون الدفاعي في سبتمبر (أيلول) الماضي، إضافة إلى الاتفاق على تبادل الخبرات التكنولوجية في الصناعات الدفاعية، وزيادة التدريبات العسكرية، والإنتاج المشترك في القطاع الدفاعي، خلال الزيارة الأخيرة.
أبعاد تاريخية
جاءت زيارة السيسي للهند في توقيت سجلت العلاقات الثنائية 75 عاماً من عمرها، بينما أصبح السيسي أول رئيس لمصر يزور أذربيجان منذ إقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، والتي شهدت مرور 30 عاماً على إطلاقها خلال العام الماضي، بينما وصل السيسي ييريفان، السبت 28 يناير (كانون الثاني)، ليكون أول رئيس مصري يزور أرمينيا منذ استقلالها.
بفضل سياستها المتوازنة الهادئة، حظيت مصر بثقة وتقدير على المستوى العالمي، كما تحدث طرابيك، مضيفاً "عبر عن ذلك مدى التقدير لمصر من جانب الهند، العضو المؤسس إلى جانب مصر بحركة عدم الانحياز، ومن ثم تكمن أهمية دعوة القاهرة للمشاركة في احتفالات يوم الجمهورية في نيودلهي بمناسبة مرور 75 عاماً على العلاقات بين البلدين، أما بالنسبة إلى أرمينيا فيمكن القول إنه توجد روابط تاريخية بين البلدين، ويوجد في مصر عدد كبير من المصريين ذوي الأصول التاريخية الأرمينية الذين قدموا إليها عام 1915 خلال الحرب العالمية الأولى، لذلك تحاول مصر أن تكون موجودة بعلاقاتها وسياستها الخارجية المتوازنة في المنطقة الاستراتيجية المهمة بجنوب القوقاز، كما ترتبط مصر وأذربيجان بعلاقات طيبة، وتلتقي معها في أكثر من دائرة سياسية، سواء من خلال الأمم المتحدة والمنظمات والمؤسسات التابعة لها، أو من خلال منظمة التعاون الإسلامي، أو من خلال حركة عدم الانحياز التي تترأسها أذربيجان حالياً، ومصر من أحد أهم مؤسسيها".
وفي شأن الأبعاد التاريخية للعلاقات المصرية – الهندية. تقول مجلة "فورين بوليسي" الأميركية في تقرير لها، إن "الهند ومصر تشتركان في بعض أوجه التشابه، إذ كانت كلتاهما من قادة حركة عدم الانحياز خلال الحرب الباردة، وتطورتا لاحقاً إلى قوى إقليمية، ثم انهارت علاقتهما مع تقارب مصر من الولايات المتحدة والهند من الاتحاد السوفياتي (إبان الحرب الباردة)، لكن العلاقات انطلقت في العقود الأخيرة بحوارات رفيعة المستوى وتدريبات عسكرية وزيادة التجارة بين البلدين، كما تعد الهند حالياً ثالث أكبر سوق تصدير لمصر، والقاهرة مهتمة بشراء طائرات مقاتلة هندية".
ولدى نيودلهي أسباب استراتيجية عدة لتعميق العلاقات مع القاهرة. تقول "فورين بوليسي"، "أما الأول فهو الموقع، حيث تعد قناة السويس وخليج عدن القريب من أهم طرق التجارة الهندية. والثاني أن مصر هي أكثر دول الشرق الأوسط من حيث عدد السكان، وتفتخر بواحد من أكبر جيوش المنطقة، كما أنها عالقة في المنافسة الجيوسياسية، واستثمرت الصين أخيراً بكثافة في مصر مما حفز الهند على أن تحذو حذوها. وأخيراً، تتمتع مصر بعلاقات وثيقة مع كل من السعودية والإمارات العربية المتحدة، وهما من أقرب شركاء الهند في الشرق الأوسط".
وساطة في دوائر غير مباشرة
ينظر إلى الجولة الآسيوية، التي شملت مناطق بها تفاعلات متسارعة لصراعات ملتهبة ومتجددة، على أنها تعكس رغبة مصرية في الوساطة لتهدئة بعض تلك النزاعات في إطار ثوابت السياسة المصرية خلال السنوات الأخيرة، والداعية إلى معالجة مختلف النزاعات بالحلول السياسية والحوار، لكن بعض المراقبين يرى أن الوساطة في تلك الدوائر البعيدة من الدوائر الحيوية للسياسة الخارجية والأمن القومي المصري ليست أولوية في الوقت الراهن، وبخاصة أن تلك النزاعات لها أبعاد تاريخية مزمنة، في وقت عانت ملفات الجوار المباشر تفاقماً مستمراً بها.
ودعا السيسي خلال مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره الأذري إلهام علييف، مساء السبت، إلى "تأكيد أهمية الحوار والتفاوض وتغليب صوت العقل والحكمة، أخذاً في الاعتبار أن القوة العسكرية وحدها لم تكن أبداً كافية لتحقيق السلام الدائم والشامل والعادل، وأنه لا بد من التفاوض لاستكمال مسار السلام، وتحقيق واقع أفضل وحياة كريمة للشعوب".
يوضح الكاتب أحمد طرابيك أن "آسيا تعد عمقاً مهماً للأمن القومي المصري. فحدود الأمن القومي لأية دولة لا تتوقف عند حدودها الجغرافية، بخاصة في ظل تنامي مشكلات أمنية كبيرة أصبحت تتجاوز الحدود، وفي مقدمتها قضايا الإرهاب والتطرف والقضايا المرتبطة بتقنية المعلومات وأمن الإنترنت والاتجار بالبشر وغيرها، لذلك أصبح من المهم التنسيق مع جميع الدول، وبخاصة الدول الآسيوية والأفريقية التي تعتبر دول جوار إقليمي لمصر".
وبينما تشهد أذربيجان عملية إعادة تأهيل وإعمار للمناطق التي حررتها بعد حرب قره باغ الثانية عام 2020، وتطرح مجموعة ضخمة من المشروعات، سواء على مستوى البنية التحتية أو مشروعات التنمية في قره باغ. يرى طرابيك أن "هذا أيضاً يمكن من خلاله أن تجد الشركات المصرية فرصاً واعدة للتعاون والشراكة مع الشركات الأذربيجانية".
وأضاف "الدول الثلاث التي زارها الرئيس عبدالفتاح السيسي لديها مشكلات سياسية معقدة مع دول الجوار، سواء بالنسبة إلى الهند مع باكستان حول إقليم كشمير، أو بالنسبة إلى أذربيجان وأرمينيا حول ما تبقى من مناطق ما زالت تحت السيطرة الأرمينية، مع وجود مشكلات عالقة بين البلدين تتعلق بمفاوضات حول ترسيم الحدود وتوقيع اتفاقية سلام".
عدم انحياز
جولة السيسي الآسيوية تأتي في إطار أهداف عدة، أبرزها على المستوى الاستراتيجي العمل على وضع حد للاستقطاب الدولي الراهن. يقول أحمد فهمي، الباحث في الشؤون الإقليمية بمركز "شاف" للدراسات المستقبلية "بالنسبة إلى زيارة السيسي للهند وحضوره احتفالات يوم الجمهورية فتأتي في إطار الرؤية المصرية لتوثيق التعاون والتنسيق وتطوير العلاقات مع الهند كدولة صاعدة ولها مكانتها في القارة الآسيوية، بما يخدم الأهداف والمصالح المشتركة، ومنها مواجهة آثار الحرب الروسية - الأوكرانية التي تشهد تصعيداً في المعارك وتسليحاً لأوكرانيا، بخاصة أن لدى مصر والهند تجربة سابقة في مواجهة موجات التصعيد والاستقطاب الدولي إبان الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، ومن هنا جاء تأسيس حركة دول عدم الانحياز.
كما تأتي زيارة كل من أذربيجان وأرمينيا في إطار اهتمام السياسة المصرية لتطوير علاقاتها بدول آسيا الوسطى، ومنها الدولتان المتنازعتان أذربيجان وأرمينيا، خصوصاً بعد إعلان القاهرة حيادها تجاه أزمة "ناغورنو قره باغ"، على رغم الإمكانات المصرية وتجاربها السابقة وخبرتها كطرف قادر على أن يقوم بالتوسط لحل النزاع بينهما، فإن الدور المصري يصطدم بمصالح لاعبين مؤثرين كدول الجوار في مسار الأزمة، "لكن من الممكن أن تقرب القاهرة وجهات النظر بين الدولتين، خصوصاً في ظل علاقاتهما الجيدة بمصر، بجانب انشغال الدول المؤثرة في مسار الأزمة بأحداث أخرى كتركيا بانتخاباتها العامة، وإيران بأزمتها الداخلية، وروسيا بحربها في أوكرانيا"، بحسب فهمي.
ويستكمل الباحث "يأتي الاهتمام المصري بآسيا في الوقت الراهن انطلاقاً من المحددات التي رسمتها السياسة الخارجية، والتي يفرض عليها توسيع دورها وتأكيد حضورها في تلك المناطق، نظراً إلى مكانتها وموقعها الجغرافي، وذلك بسبب ما فرضته التحولات الراهنة والأزمات الدولية المتتالية وانشغال الدول الكبرى بمجريات الحرب الروسية - الأوكرانية وتداعياتها، بما يفرض وجود تعاون مشترك وتوحيد المواقف الرافضة لتوسع دوائر الصراع والوصول إلى القارتين آسيا وأفريقيا، وبحث إمكانية سبل التوسط لمنع مزيد من الانهيار والانقسام الدولي".
هل تتوسط مصر في نزاع قره باغ؟
شمول الجولة أذربيجان ثم أرمينيا عكس توجهاً جديداً في السياسة المصرية على نحو عملي، على رغم أن ييريفان كانت أقرب إلى القاهرة من باكو خلال السنوات الأخيرة، وفق بعض المراقبين.
بدوره، قال محمد فايز فرحات إن التوازن في السياسة الخارجية المصرية مبدأ يطبق مع كل دول العالم، وبخاصة الدول التي بينها نزاعات تاريخية، "فزيارة أرمينيا وأذربيجان تعكس أن مصر تقف على الحياد، أو أنها على مسافة واحدة من طرفي النزاع، وهدفها تنمية العلاقات مع تلك الدول".
وفي شأن جهود الوساطة الممكنة، أعرب الباحث أحمد طرابيك عن اعتقاده أن "مصر لن تتدخل في أية وساطة في هذه القضايا لا بين الهند وباكستان، ولا بين أذربيجان وأرمينيا، لأن هذه المشكلات معقدة وهناك دول لها وجود كبير في هذه الصراعات، فالولايات المتحدة لديها دور كبير في مشكلة كشمير بين الهند وباكستان، كما أن لتركيا وروسيا دوراً مهماً وفاعلاً في الصراع بين أذربيجان وأرمينيا، لذلك أرى أن مصر ليس في خططها أو جدول أعمالها أية أفكار للوساطة في أي من هذه القضايا حالياً".
وقال أكرم حسام أستاذ العلاقات الدولية بجامعة الأزهر إن مصر معنية بتعظيم المصالح المشتركة مع الدول التي شملتها الجولة الآسيوية للرئيس المصري، بغض النظر عن وجود مشكلات بينية بين دولتين أو أكثر، "فالقاهرة تقف على مسافة واحدة من الجميع، وتتعامل مع كل المناطق والبلدان بحسب المصلحة المشتركة، وتتحرك خارج أي تحالف أو معسكر، وغير منحازة لأي طرف في أي نزاع إقليمي".
وتابع "ما يهم مصر في منطقتي جنوب ووسط آسيا أن الصراعات هناك تعمل على تصدير التطرف والإرهاب، ومن ثم جاء البعد الأمني لهذه الجولة كجزء من مكافحة التطرف والإرهاب من جانب، فضلاً عن تعزيز العلاقات بالقوى المتوسطة والصغيرة في النظام الدولي، حيث شهدنا خلال الفترة الماضية زيارات نادرة لدول مثل صربيا المهمة في البلقان وشرق أوروبا، وأرمينيا وأذربيجان".