كانت الساعة تشير إلى الثانية بعد منتصف الليل عندما أيقظت الطفلة لمى والديها من نومهما لتسأل "هل سنموت الليلة؟".
أصيبت الأم بحال من الذعر الشديد وأخذت تتفقد صغيرتها إذا ما كانت درجة حرارتها مرتفعة من عدمه، ثم ضمتها إلى صدرها وأخذت تمسح على شعرها.
لم تكن الأم سلوى تعلم أن الطائرات الإسرائيلية المقاتلة انتهت للتو من شن غارة جوية لا تبعد كثيراً عن منزلها في فجر الجمعة الـ 27 من يناير (كانون الثاني)، ولم يكن لها نصيب من سماع صوت الانفجار الذي أيقظ صغيرتها لمى.
أسئلة كالرصاص
بهدوء حاولت الأم أن تفهم من طفلتها التي لم تتجاوز السادسة من عمرها سبب سؤالها المفاجئ، لكن لمى الخائفة كانت عاجزة عن توضيح الأمر وباغتت والدتها بسؤال آخر وهو "طيب الحرب رجعت يا ماما إحنا راح نعيش هالمرة ولا ممكن نموت؟".
كانت الأسئلة تخرج مثل الرصاص وتضرب سمع سلوى التي انتابها شعور بالخوف على طفلتها حتى أغارت المقاتلات الإسرائيلية مرة أخرى قرب منزلها، وحينها أدركت الأم السبب وراء استفسارات ابنتها.
مسرعة توجهت الأم إلى غرفة أطفالها الأربعة لتطمئن عليهم لكنها وجدتهم منكمشين في الفراش من دون أن يصدر أحدهم صوتاً، ولم تسمع والدتهم سوى دقات قلوبهم التي تكاد تخرج من الصدور الصغيرة، وأنارت الأم الغرفة وفوراً انهارت عليها الأسئلة الصعبة "هل بدأت الحرب؟ ماذا سيحدث؟ هل عاد الخوف من الليل من جديد؟".
بصوت هامس بالكاد تسمعه قالت لمى لأمها "خليكي معنا بالغرفة"، وحينها تحول الليل الهادئ إلى نشاط تتبعه الأم عادة في أوقات القتال العسكري بين غزة وإسرائيل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فتحت سلوى التلفاز على فيديوهات الأطفال لإشغال صغارها وضمت لمى في حضنها لتستطلع الأخبار حول ما إذا كانت عملية عسكرية جديدة بدأت بالفعل على غزة أم أن الأمر مجرد غارات جوية فقط، وعندما تأكدت من استقرار الوضع الأمني أخذت تطمئن أطفالها بأن ما سمعوه لم يكن حرباً.
فرغت الأم من حديثها مع أطفالها بينما تعابير الخوف واضحة على ملامحهم، وشردت بفكرها قليلاً وبدأت تتحدث مع نفسها "كيف يمكن أن يعود لهم الهدوء؟".
في منزل ليس بعيداً من شقة السيدة سلوى كانت الأجواء متشابهة، إذ تشبث الطفل عبدالمجيد بعنق أمه خوفاً من أصوات القصف الإسرائيلي الذي كان يتجدد فجر الجمعة بين الفينة والأخرى، ومع كل غارة كانت الانفجارات تنير المنطقة بأكملها فيغزو الرعب ملامح الصغير.
لم تجد الأم هبة سوى احتضان طفلها والحديث معه بصوت مرتفع في محاولة منها لتخفيف توتره إلى أن خطرت في بالها فكرة ممارسة نشاط روتيني بالاختباء داخل خزانة الملابس، علها تشغل تفكير عبدالمجيد عما يجري بالخارج.
"يلا نلعب" قالت الأم هبة لصغيرها لكنها فوجئت من رده "في هذا الوقت؟". "نعم يلا قوم اتخبى في الخزانة وأنا بدور عليك" ردت الأم، وهكذا أخذت تشجع الطفل الذي استجاب بصعوبة لمحاولة والدته عزله عن أجواء الرعب وأصوات الانفجارات.
أثناء محاولة هبة البحث عن صغيرها سألها "ماما شو أعمل من بعدك لو قصفو بيتنا"، وقفت الأم عاجزة عن الإجابة لكنها سرعان ما حاولت توعية صغيرها الذي تجاوز عمره السنوات الـ 10 بالكاد، وتقول "أطفالنا يكبرون قبل الأوان من هول ما يرونه من قصف وغارات لا ترحم".
كان عبدالمجيد يرتعش خوفاً فقد أصيب بحال نفسية خلال العملية العسكرية التي جرت عام 2021، وعلى أثرها كان يتبول بشكل لا إرادي واستمرت حاله هذه 20 يوماً، ومن خوف الأم هبة عليه لم تجد ما تفعله سوى احتضانه حتى يشعر بالأمان.
في اليوم التالي للقصف الإسرائيلي أحضرت الأم هبة علبة ألوان ودفتر رسم وطلبت من عبدالمجيد التعبير عن أفكاره بالرسوم، ولم تستغرب عندما وجدت رسماً لطائرة وبيت مدمر وبعض الجثث، فالولد لم يعد صغيراً وبات يدرك ما حوله.
ألعاب نارية
في لحظات القصف الإسرائيلي على غزة حاولت الطفلة حياة أن تسترق النظر إلى السماء عبر نافذة المطبخ بينما صوت الطائرات يرتفع، ولا تدرك حياة ما يجري لكنها هربت نحو أمها "بدأت حرب جديدة ويمكن نموت"، هكذا قالت وهي تحاول تنبيه والدتها التي كانت تغرق في نومها.
فزعت الأم فرح من نومها "حرب شو؟"، سألت صغيرتها حياة التي أجابت "قبل شوي قصفوا وأنا سمعتهم"، أصيبت الوالدة بالرعب وشعرت بأنها نادمة على قرار الإنجاب بينما تعيش في هذه البقعة من الأرض.
"لا أستطيع أن أمنحها الأمان وأقف عاجزة أمام صرخاتها التي لا تتوقف مع كل اهتزازة للمنزل تمتزج بأصوات القصف المرعب، بينما يكاد قلبي يتوقف وأنا أتذكر مشاهد الدمار والدماء وتشييع جنازات الأطفال المستهدفين بصواريخ إسرائيل"، تقول الأم فرح التي تحاول تمالك نفسها وإخفاء خوفها أمام طفلتها حتى لا ينعكس ذلك على نفسية الصغيرة.
أيضاً باءت كل محاولات الأم خلود لإقناع أطفالها بأن ما يسمعونه من أصوات تصم الآذان هو مجرد ألعاب نارية، لكن عندما سئلت "طيب ما فيه عيد ولا نتائج امتحانات، لشو هالألعاب النارية؟"، اضطرت إلى إشغالهم بألعاب الهاتف المحمول وتشغيل فيديوهات تعليمية، كما رفعت مستوى الصوت لتتجاوز أصوات القصف الذي يدور خارج منزلها.