تشير أرقام شعبة السكان في الأمم المتحدة إلى ارتفاع ملحوظ في أعداد الأشخاص المعمرين الذين تخطوا سن الـ100 عام في مختلف أنحاء العالم، إذ وصل عددهم إلى أكثر من 621 ألف شخص في عام 2021، ومن المتوقع أن يتجاوز هذا الرقم المليون مع نهاية العقد الحالي، في مقابل 92 ألفاً فقط في عام 1990.
وكانت الراهبة الفرنسية المعروفة بالأخت أندريه التي تعد أكبر معمرة على قيد الحياة قد توفيت أخيراً عن عمر 118 سنة. أما بين الرجال فإن الفنزويلي خوان فيسنتي مورا البالغ من العمر 113 سنة صاحب الرقم القياسي.
وتسجل اليابان حالياً أعلى معدلات للمعمرين في العالم، والغالبية الساحقة من النساء، وإن كانت المعدلات قد ارتفعت إلى مستويات قياسية لدى الجنسين، علماً بأن متوسط العمر المتوقع للشخص العادي في عام 1960 أي عندما بدأت الأمم المتحدة بالاحتفاظ بالبيانات العالمية كان 52 سنة.
في فرنسا تظهر الأرقام ارتفاعاً كبيراً في أعداد المعمرين حيث بلغ عددهم 27 ألفاً و497، ونسبة 84 في المئة منهم من النساء وفق أرقام الـINED (المعهد الوطني للدراسات الديموغرافية في فرنسا)، علماً بأن عدد المعمرين في فرنسا لم يكن يتخطى ثلاثة آلاف و760 في عام 1990، ومن المتوقع أن يصل العدد في عام 2060 إلى 198 ألفاً و645، سواء بالنسبة إلى الرجال أو النساء.
أسباب صحية
في ظل هذا الارتفاع الملحوظ في أعداد المعمرين حول العالم، وعلى رغم أن الأمر قد يبدو مبهجاً للأبناء والأحفاد، فإنه لا بد من التساؤل حول أسباب هذه الظاهرة والتحديات التي يمكن أن تنتج عن ذلك في مختلف الدول، وما قد يكون لها من تداعيات تستحق التحرك المسبق لمواجهتها.
وفق الاختصاصية في أمراض الشيخوخة والعناية التلطيفية في مستشفى "أوتيل ديو دو فرانس" في بيروت، لين عبده، ثمة عوامل عديدة لعبت دوراً في ارتفاع معدلات التعمر في العالم بشكل أصبح يشكل مصدر قلق لعديد من الدول، ومنها التطور الطبي الحاصل على مختلف الصعد.
وتلخص عبده تلك العوامل في النقاط التالية:
أولاً: تطور سبل الوقاية الأولية من الأمراض المزمنة التي تزيد من احتمال حصول وفاة، فأصبح من الممكن تفاديها، ومنها السكري وأمراض القلب والسمنة وارتفاع مستويات ضغط الدم، خصوصاً أن الإنسان أصبح يدرك أخطارها وسبل الوقاية منها بفضل تطور الطب وزيادة الوعي، مما يسمح برفع معدل العيش.
ثانياً: في حال الإصابة بأمراض مزمنة تطورت وسائل العلاج بشكل ملحوظ، إذ أصبح من الممكن متابعة تطور هذه الأمراض والحد من مضاعفاتها الخطيرة التي يمكن أن تؤدي إلى الوفاة في أي مرحلة عمرية.
ثالثاً: زيادة الوعي وسبل التوعية حول الأخطار الناتجة عن سلوكيات معينة تزيد من احتمال حصول وفاة في مرحلة عمرية مبكرة كالتدخين مثلاً.
رابعاً: التطور التكنولوجي لعب دوراً في تطوير وسائل التشخيص المبكر على اختلافها. انطلاقاً من ذلك أصبح من الممكن كشف السرطان مثلاً في مرحلة مبكرة مما يزيد من فرص التعافي، كما أن كشف مختلف الأمراض في مرحلة مبكرة يساعد في تسهيل العلاج وزيادة فرص التعافي.
خامساً: زيادة الوعي حول أهمية الأكل الصحي والتركيز على مضادات الأكسدة وأهمية اتباع نمط حياة صحي. فزيادة الوعي في هذا المجال من قبل كثيرين أسهمت أيضاً في إطالة معدل سنوات العيش.
هذه العوامل مجتمعة لعبت دوراً في زيادة أعداد المعمرين في مختلف دول العالم بحسب عبده، على رغم الجائحة التي أدت إلى وفيات بين المسنين بشكل خاص. علماً بأن الدراسات والأرقام المتوافرة قد لا تشير إلى الوضع الحالي بعد الجائحة.
يشير منسق مختبر الديموغرافيا في مركز أبحاث معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية، شوقي عطية، إلى أن أكثر الدول حالياً هي اليابان وألمانيا والبرتغال وإسبانيا وإيطاليا وكوريا الجنوبية. أما في العالم العربي فيحتل لبنان المرتبة الأولى، لكن التقدم على المستوى الطبي يحتل المرتبة الثانية، فيما يسبقه من حيث الأهمية انخفاض معدلات الولادة والإنجاب، كما يحصل في اليابان، حيث تخطت أعداد المسنين والمعمرين معدلات الولادات الجديدة.
ويضيف "أما الصين فتتجه بخطى سريعة نحو هذه الظاهرة مع ارتفاع أعداد المعمرين فيها، مما يفقدها عنصر الشباب والقوة والإنتاجية في البلاد، وهم من أسهموا في التطور الضخم الحاصل في الصين منذ الثمانينيات إلى اليوم".
نتائج على المديين القصير والبعيد
لظاهرة التعمر تداعيات خطيرة على المدى البعيد وأخرى على المدى القصير، تدركها الدول المتقدمة وتشعر بخطورتها، وفق عطية. فعلى المدى القصير يؤدي ذلك إلى ضغط هائل على أنظمة التغطية الصحية والضمان الاجتماعي في الدول، فمن يدفع الضرائب والرسوم المتوجبة هي الفئة العاملة دون سن 65 سنة، أما من تخطى هذه السن فيشكل عبئاً على الدولة باعتباره يستفيد من هذه الخدمات ومن مساعدات الدولة من دون أن ينتج في المقابل أو يسدد رسوماً أو ضرائب. فكل شخص تخطى سن التقاعد، أياً كانت سنه وسواء تخطى الـ100 عام أم لا، يشكل عبئاً على الدولة وعلى الأشخاص العاملين، فكيف بالأحرى إذا كان المعمرون بالآلاف أو الملايين!
وتابع "في اليابان يشكل المعمرون المتزايدون عبئاً يصعب تحمله، لذلك تسعى الحكومة إلى رفع معدل الخصوبة من 1.4 إلى 1.8 للمرأة"، وهو ما لا يعتبره عطية كافياً، إذ من المفترض ألا ينخفض عن 2.1، مشيراً إلى أن اليابان تسعى إلى زيادة معدلات الولادات للسنوات المقبلة في مواجهة هذه الظاهرة الخطيرة لزيادة الفئة المنتجة في المجتمع، فمع انخفاض نسب الإعالة ترتفع معدلات الادخار ويتخطى الدخل القومي المصروف.
وتواجه اليابان مشكلة تناقص أعداد سكانها بشكل هائل، فسنوياً ينقص عدد سكانها حالياً بين 200 ألف و250 ألف فرد، بالتالي بعد نحو 60 سنة سيكون النقص هائلاً، وهي ظاهرة لا يمكن الاستهانة بها، وتخلق تحديات أمام الدولة التي تصبح غير قادرة على رعاية المواطنين مما يولد أزمة حقيقية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والأمر يبدو مختلفاً في الصين التي فرضت سياسة الطفل الواحد للحد من الإنجاب لمواجهة الكثافة السكانية طوال 40 سنة، وبات عليها الآن أن تشجع عليه في مواجهة ظاهرة التعمر. ففي عام 2016 اتخذ قرار بالسماح بإنجاب طفل ثان، لكن هذه السياسة لم تنجح لأن الكل اعتاد على سياسة تحديد النسل، وحتى مع رفع معدل الإنجاب المسموح به إلى ثلاثة أطفال، لذلك أصبحت اليابان في المرتبة الأولى من حيث نسبة المعمرين وليس الصين، لكن من المتوقع أن تذهب الصين في الاتجاه نفسه لجهة أعداد المعمرين.
ثمة واقع مماثل في الدول الأوروبية التي تواجه المشكلة نفسها مع انخفاض معدلات الإنجاب وزيادة التقديمات الصحية، مما أدى إلى تلك الكوارث التي شهدناها في فترة الجائحة بإيطاليا واليابان، حيث ترتفع معدلات المعمرين بشكل خاص، ومن ثم ارتفعت معدلات الوفيات بسبب الفيروس الذي يصيب المسنين بنسبة أكبر.
وبالنسبة إلى لبنان كان عطية أجرى دراسة عام 2014 تشير إلى أنه من المتوقع أن يبدأ عدد سكان البلاد بالانخفاض في عام 2045 بسبب "التعمر"، لكن في ظل الأزمة من الطبيعي أن يختلف الوضع، ومن المتوقع أن ينخفض قبل ذلك بسبب الهجرة وتراجع معدلات الولادات بشكل هائل في لبنان في فترة الأزمة وكورونا.
مؤشرات ديموغرافية
يعتبر توزيع المسنين عامة والمعمرين بشكل خاص غير متساو في لبنان، ويختلف بحسب المناطق، ويتركز تحديداً في المناطق التي تزيد فيها معدلات النازحين. على سبيل المثال ترتفع أعداد المعمرين في قضاء جزين لارتفاع معدلات النازحين من الشباب بحثاً عن مجالات عمل في مناطق أخرى، بينما في الأقضية التي تزيد فيها معدلات الإنجاب تنخفض نسب المعمرين كما في قضاء عكار.
أما في بيروت فلا تزيد أعداد المعمرين على رغم أن معدلات الإنجاب لا تعتبر مرتفعة فيها، والسبب يعود إلى زيادة معدلات النزوح إليها. فالمقيمون فيها هم في معظمهم من الشباب. وبحسب عطية، بلغ توقع الحياة عند الولادة في لبنان 79 سنة قبل الأزمة، ومن المتوقع أن ينخفض بعدها، لكن بشكل عام تعتبر المؤشرات الديموغرافية في لبنان قريبة إلى مستويات الدول المتطورة، وتعتبر جيدة نسبياً بسبب معدلات الإنجاب والنظام الصحي ذي المستوى الجيد قبل الأزمة.
أما نسبة المسنين عامة في لبنان فهي 12.5 في المئة وفق إحصاءات 2019، ومن المتوقع أن تكون قد ارتفعت بشكل ملحوظ بسبب هجرة الشباب الكبيرة في الأزمة. وتعتبر هذه النسبة الأعلى في العالم العربي، وتأتي تونس في المرتبة الثانية بنسبة تسعة أو 10 في المئة، فيما لا تزيد النسبة على واحد أو اثنين في المئة في دول الخليج، وذلك بسبب هجرة الشباب إليها، حيث تتوافر فرص العمل مما يخفض نسبة المسنين. وينطبق هذا على مختلف دول العالم التي تأثرت بالجائحة. أما في دول كاليابان فيصل توقع الحياة إلى 84 سنة. علماً بأن هذا التوقع يرتبط بالمجتمع الذي يعيش فيه الشخص ويمكن أن ينخفض في حال انتقاله للعيش في بلد آخر.
إذاً فظاهرة التعمر مسألة إيجابية في ظاهرها لكنها تحمل بين طياتها دواعي مقلقة لحكومات الدول، تستدعي منها وضع سياسات واستراتيجيات لتتمكن من مواجهة تداعياتها على أنظمتها.