تبذل السعودية جهوداً قدمت فيها تنازلات غير سهلة لإنجاحها ومن ثم إغلاق ملف الحرب في اليمن، وقدمت مبادرة لإيجاد أرضية مشتركة تقنع الأطراف اليمنية بالجلوس إلى طاولة واحدة يناقشون ويتفقون على التزاماتهم الأخلاقية والوطنية، وعلى رغم عدم ظهور نتائج بارزة للعيان، إلا أن استمرار الهدنة مؤشر إلى إمكانية التوصل إلى خلق مساحات أوسع لتفاهمات تسمح بالاتفاق عليها بين القوى المسلحة.
وكان متوقعاً أن يصاحب هذه الهدنة تقدم في بقية الملفات، خصوصاً الإنساني منها، مثل ملف الأسرى والمرتبات وفتح الطرقات، وبوجود تفاهم سعودي – عماني تعمل الدولتان على لعب دور يقترب من حد الوساطة بين جماعة "أنصار الله" الحوثية والحكومة اليمنية، فإن القضايا كلها ما زالت تراوح مكانها وتظهر حتى الآن عدم جدية الأطراف اليمنية في الوصول إلى مرحلة الاتفاق السياسي.
وتصر الحكومة على تثبيت المرجعيات الثلاث أساساً لأي مشاورات مقبلة (المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، ومخرجات الحوار الوطني وخصوصاً قرار مجلس الأمن رقم 2216) والواقع أنه تم تجاوز المبادرة الخليجية نتيجة اتفاق غير مكتوب بين الأحزاب كافة مع "الجماعة" لإسقاط حكومة الأستاذ محمد سالم باسندوة والتوقيع على "وثيقة السلم والشراكة الوطنية" في 21 سبتمبر (أيلول) 2014. في المقابل، فإن "الجماعة" تضع شروطاً أهمها عدم الربط بين الملف الإنساني وبقية الملفات السياسية والعسكرية، أي إنها ترغب في تحقيق مكاسب تبرر بها لجمهورها تغيير مواقفها، وهو أمر يبدو مشروعاً سياسياً، لكنه في الوقت ذاته معرقل للسير قدماً في مسار التوصل إلى اتفاق لوقف الحرب نهائياً، كما أن القرار رقم 2216 تجاوزته المتغيرات الجذرية على الأرض ودخول قوى مسلحة لم تكن موجودة حين صدوره.
اليوم أصبح الحديث عن التوصل إلى هدنة طويلة فكرة يتمناها اليمنيون الذين تحاصرهم الأمراض والفقر والدمار وقلة الحيلة، وفي الوقت ذاته تضع أعباءً أخلاقية على "الجماعة" إذ تدرك أن مقتضيات السلام أكبر وأعباءه أثقل، وهذا يتطلب منها تنازلات وطنية تنعكس على معيشة الناس وحرياتهم في مناطق سيطرتها، كما من المؤكد أنها تشعر بتنامي المقاومة الداخلية ضد إجراءاتها التعسفية المقيّدة للحريات العامة والخاصة، وكذلك الممارسات غير المعقولة التي يقوم بها المرتبطون بها وهم الذين لم يعتادوا العمل ضمن أطر مؤسسات تحكمها قواعد العمل في الشأن العام وقيوده.
من جانب "المجلس" والحكومة، لا تخطئ العين إدراك العجز عن التعامل مع القضايا التي ينتظر المواطنون منهما معالجتها سواء كان على صعيد الخدمات، أو تثبيت الأمن، أو وقف تدهور العملة، أو ارتفاع معدلات التضخم، فضلاً عن غياب "المجلس" طويلاً من دون أن يفهم الناس المسببات الحقيقية والمقنعة، ومن المستغرب أن القرارات الصادرة لم تتوقف عن إنشاء وظائف ومسميات محملةً الموازنة العامة مصروفات جديدة لا تقوى موارد الدولة على مواجهتها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إن التعقيدات التي تقف حجر عثرة أمام المسار نحو السلام تتكاثر لأن القوى المسلحة والمجهزة عتاداً وعقيدةً تتحرك ضمن خطوط مذهبية ومناطقية مما يجعل التفكير في إنشاء جيش وطني موحد أمراً غاية في الصعوبة لأن هذه القوى غير ملتزمة بالانضباط ضمن القواعد العسكرية المتعارف عليها، ويدرك الجميع أن الفرق المسلحة التي أفرزتها الحرب تعمل بعيدةً من سيطرة وزارة الدفاع التي تعاني بدورها من التسيب في صفوفها وعجز قيادتها على إخضاع "الجيوش" كافة، التي تعمل بشكل مناطقي واضح، قيادةً وأفراداً.
وإذا ما أضفنا إلى ذلك استمرار إدخال قوات غير نظامية إلى قوام الجيش عشوائياً ومن دون تفكير في مخاطر هذا الخليط العجيب بين عسكريين محترفين وميليشيات لا أحد يعلم أهدافها النهائية ومدى ولائها الوطني.
ثم هناك تعقيد سببه القرار غير المدروس في نقل المقر الرئيس للبنك المركزي من صنعاء إلى عدن ما تسبب في خلق سوقين للعملة اليمنية لا تعملان بآلية واحدة، على رغم كل المحاولات والمقترحات للتنسيق بينهما. ومرجع الفشل هو أن القرار لم يعد اقتصادياً صرفاً، بل صار مرتبطاً بالقرار السياسي في عدن وصنعاء وبمجريات الحرب بعيداً من مصلحة الناس.
ولا بد أيضاً من فهم أن الاتفاق على اعتبار عام 2014 كسنة الأساس في صرف المرتبات، تبدو معالجته بسيطة على السطح، لكنه في الحقيقة يحمل في طياته تعقيداً يحاول الجميع إما التغاضي عنه أو تركه كوسيلة للانسحاب من كل الالتزامات الأخرى.
وهنا يتناسى كثيرون أن الخطأ بالأساس كان من جانب الحكومات المتعاقبة منذ عام 2015 حين قررت التخلي عن مسؤولياتها في دفع مرتبات كل موظفي الدولة بحسب كشوفات عام 2014، واكتفت بالإنفاق على الذين تمكنوا من اللحاق بها في المهجر، ومما سيزيد التعقيد أن الطرفين أدخلا إلى الخدمة أعداداً متضخمة من الموظفين إلى قوام الخدمة المدنية، فضلاً عن الجيش والأمن، ومن غير الممكن أن يقبلا بشطبهم دون التعرض إلى المشكلات الاجتماعية والمناطقية، التي ستنتج من تسريح أعداد كبيرة تم ضمها دون تأهيل ودون كفاءة ودونما التزام قواعد الوظيفة العامة كما حدث وما يزال في وزارة الخارجية وفي القوات المسلحة.
ما يبدو غائباً في المعادلة المعقدة هو تواري الالتزام بالولاء للوطن والدستور عند الممسكين بزمام السلطة، مما يجعل من فكرة التوصل إلى بداية في مسار السلام المستدام أمراً ليس بقريب، وصار الدفاع عن المصالح الخاصة أو المناطقية أو المذهبية هو المحرك الأهم لكل القرارات التي يتخذونها ويدافعون عنها.
إن فكرة السلام ليست محصورة في وقف الاقتتال، ولكنها تعني أيضاً وجوب استعادة الضمير الوطني الجامع والمشترك عند اليمني البسيط، والغائب عند حكام اليوم في عدن وصنعاء الذين يدركون أنهم لا يعيشون ولا يقتاتون إلا على الحرب وضحاياها.