في صيف 2022 سجلت "القارة العجوز" درجات حرارة قياسية أفضت إلى تراجع منسوب المياه في الأنهار الأوروبية الكبرى، من بينها "بو" في إيطاليا، و"الراين" الذي ينبع من جبال الألب في سويسرا، ويتدفق عبر ألمانيا، ثم هولندا ويصب في بحر الشمال، ويمثل قناة مهمة للشحن والتنقل في القارة الأوروبية. وتحدثت تقارير عدة عن جفاف غير مسبوق وصفه "مركز البحوث المشترك" (JRC) التابع للمفوضية الأوروبية بأنه الأسوأ منذ 500 سنة. والآن، يبدو أن أوروبا لم تستفق بعد من هذا الكابوس.
ويذكر تقرير تناولته كالة "ساوث ويست نيوز سيرفيس" SWNS أن القارة الأوروبية على شفا الوقوع في كارثة مائية مع نضوب احتياطاتها من المياه الجوفية. ويشير التقرير المذكور آنفاً إلى أن منطقة وسط أوروبا كابدت نقصاً حاداً في المياه خلال أشهر الصيف في عامي 2018 و2019، ومنذ ذلك الحين، لم تشهد مستويات المياه الجوفية ارتفاعاً يذكر.
وكانت النتيجة جفافاً شديد الوطأة يلحق الضرر بالموائل الطبيعية ويؤثر في الزراعة، ويؤدي إلى نقص كبير في الطاقة.
وفي صيف العام الماضي 2022، كانت آثار هذا القحط المطول واضحة في أوروبا، فقد طرح جفاف مجاري الأنهار والاختفاء البطيء للمياه الراكدة أضراراً شديدة على الطبيعة والبشر. كذلك فقدت أعداد كثيرة من الأنواع الحية المائية موائلها، بينما لم تسلم زراعة المحاصيل من عواقب التربة الجافة.
وبطبيعة الحال، تفاقم النقص في إنتاج الطاقة في أوروبا. ومن دون توفر كميات كافية من مياه التبريد، وجدت محطات الطاقة النووية في فرنسا صعوبات كبيرة في توليد ما يكفي من كهرباء، شأنها شأن محطات الطاقة الكهرومائية التي كافحت لأداء وظيفتها بسبب نقص المياه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعرضت "ساوث ويست نيوز سيرفيس" تفاصيل الدراسة الجديدة المنشورة في مجلة "رسائل البحث الجيوفيزيائي" Geophysical Research Letters، موضحة أن فريق البحاثة استخدم قياس مجال الجاذبية الأرضية بواسطة الأقمار الاصطناعية كي يراقب موارد المياه الجوفية في العالم ويوثق التغيرات المرصودة على مدى سنوات عدة.
واستخدم الباحثون قمرين اصطناعيين توأمين يدوران حول الأرض في مدار قطبي على ارتفاع أدنى قليلاً من 490 كيلومتراً.
يوفر القمران الاصطناعيان قراءات للكتلة الكلية تطرح منها التغيرات التي تشهدها الأنهار والبحيرات، وكذلك تطرح رطوبة التربة والثلج والجليد، وتبقى في النهاية المياه الجوفية فقط.
وتكتسي المسافة الفاصلة بين القمرين الاصطناعيين البالغة نحو 200 كيلومتر أهمية بالغة بالنسبة إلى المشروع، إذ عجز القمر الاصطناعي المتمركز في الخلف عن اللحاق بتوأمه، فأطلق عليهما اسم "توم وجيري".
وواظب العلماء على قياس المسافة بين القمرين الاصطناعيين بدقة، فتبين أنهما عندما حلقا فوق جبل، كان القمر الاصطناعي المتقدم في البداية أسرع من توأمه في الخلف نتيجة الزيادة في الكتلة تحته. وما إن عبر الجبل، حتى تباطأ القمر الاصطناعي الأول قليلاً مرة أخرى، فيما تسارع القمر الاصطناعي الخلفي بمجرد وصوله إلى الجبل. وعندما أصبح كلاهما فوق القمة، حدد العلماء سرعتهما النسبية مرة أخرى.
شكلت تلك التغيرات في المسافة المسجلة فوق الكتل الكبيرة عوامل القياس الرئيسة في تحديد مجال الجاذبية الأرضية، وقد استخدم العلماء جهاز الميكرومتر للحصول على قياسات دقيقة، من بينها مثلاً سماكة الشعرة الواحدة التي تبلغ نحو 50 ميكرومتراً.
تدور الأقمار الاصطناعية حول الأرض 15 مرة في اليوم، إذ تكمل دورة كاملة حول الأرض في نحو ساعة ونصف الساعة، بسرعة 30 ألف كيلومتراً تقريباً في الساعة.
وتستطيع هذه الأقمار أن تغطي سطح الأرض برمته بعد شهر واحد فقط، مما يعني أنها تقدم خريطة جاذبية الأرض كل شهر.
عليه، يبدو واضحاً أن "المعالجة والجهود الحاسوبية في هذه الدراسة كبيرة جداً"، وفق الدكتور تورستن ماير غور، بروفيسور في "جامعة غراتس للتكنولوجيا" في النمسا، والباحث الذي تولى إعداد الدراسة.
"نحصل على قياس المسافة كل خمس ثوان، بالتالي نحو نصف مليون قياس شهرياً. من هنا، نحدد خرائط مجال الجاذبية".
ولكن مع ذلك، لا يمكن لخرائط الجاذبية هذه تبيان الكمية الدقيقة للمياه الجوفية على الكوكب، ذلك أن الأقمار الاصطناعية لا تميز ما إذا كانت المساحة من المياه بحراً أو بحيرات أو مياهاً جوفية.
لذا بغية الفصل بين كل مسطح مائي، كان على الشركاء الآخرين في مشروع "جي 3 بي" G3P التابع للاتحاد الأوروبي تقديم المساعدة.
بينما وفر القمران الاصطناعيان "توم وجيري" بيانات عن الكتلة الكلية، طرحت منها التغيرات في كتلة الأنهار والبحيرات ورطوبة التربة، والثلج، والجليد، وهكذا لم يتبق سوى مستوى المياه الجوفية.
نتيجة هذا التعاون، تبين أن مستويات المياه في أوروبا في خطر وعرضة للشح والجفاف.
في الحقيقة، "قبل بضع سنوات"، لم يكن الدكتور ماير غور يتصور أبداً "أن المياه ستشكل مشكلة هنا في أوروبا، خصوصاً في ألمانيا أو النمسا.
ولكننا "في الواقع نواجه مشكلات في إمدادات المياه هنا، وحري بنا أن نتنبه ونعي هذه المشكلة" [إعداد العدة لها].
كلام الدكتور ماير غور تؤكده دراسات عدة، إذ تشير إلى أننا نواصل التحرك نحو مستقبل أكثر قيظاً تكون فيه درجات الحرارة أكثر ارتفاعاً، ويبدو الجفاف من أكثر الحوادث المناخية بروزاً في مختلف أحاء العالم، حتى إن علماء كثراً يتوقعون أنه سيصبح أشد حدة وأكثر تكراراً نتيجة انخفاض هطول الأمطار وتراجع رطوبة الهواء والتربة.
وترسم لقطات الأقمار الاصطناعية صوراً قاتمة من شرق أفريقيا وأميركا الجنوبية، ومناطق عدة في آسيا والشرق الأوسط، وبعض أجزاء من أستراليا، وأوروبا، مع ما يطرحه الجفاف من تداعيات اقتصادية وصحية وبيئية، من بينها تفاقم خطر حرائق الغابات، وإجهاد الغطاء النباتي الذي يهدد الأمن الغذائي للشعوب، إضافة إلى تراجع إنتاج الطاقة الكهرومائية.
ذلك كله، ولم نتحدث بعد التأثيرات التي يطرحها تغير المناخ على الاقتصاد والسياسة والحروب والثورات في كل دولة من دون استثناء.