وفقاً لمؤشرات التنمية البشرية للأمم المتحدة، فإن الدول الأفريقية عادت لتتصدر تدهور مؤشرات التعليم ومستويات المعيشة وتراجع الرفاه والرعاية الاجتماعية، بخاصة تدهور أوضاع المرأة والطفل، فيما تتزايد أعداد الشباب فاقد الأمل، الذي يبحث عن طريقه عبر ممرات اللجوء الشاقة للوصول إلى أوروبا.
في نهاية يناير (كانون الثاني) الماضي صدر في العاصمة البريطانية التقييم الدوري لمؤسسة "مو إبراهيم" المعنية بتعزيز الحوكمة في القارة الأفريقية، وتصدر المؤسسة تقييمها كل سنتين، لمراقبة حال الدول الأفريقية من زاوية الحوكمة والقيادة.
والملياردير البريطاني محمد إبراهيم، من أصول سودانية، هو من أطلق هذه المؤسسة في عام 2006، التي يتكون مجلس إدارتها من عديد من الشخصيات البريطانية والأفريقية البارزة.
التقرير الذي صدر في 25 يناير الماضي في كل من داكار ولندن في الوقت نفسه أشار إلى أن القارة الأفريقية تعرضت لـ23 محاولة انقلاب خلال السنوات العشر الماضية، منها ثمانية انقلابات عسكرية منذ عام 2019، وأن دولاً مثل مالي وبوركينا فاسو، الواقعتين في غرب أفريقيا، واللتين كانتا تنعمان فيما مضى باستقرار سياسي نسبي، مقارنة ببقية الدول في المنطقة، شهدتا أخيراً انقلابين عسكريين في كل منهما، وهي ظاهرة كانت رائجة في ثمانينيات القرن الماضي، لكن يبدو أنها عادت لتطفو على سطح السياسة الأفريقية مجدداً.
ويشير التقرير إلى أن 70 في المئة من الأفارقة باتوا يعيشون في بلدان أقل أمناً وأماناً، عما كانت عليه في العقد الماضي. ويضيف أن القارة باتت أقل أمناً وأماناً وديمقراطية، مقابل انتشار الانقلابات، والنزاعات المسلحة، والإرهاب، بما يهدد بإجهاض جهود سنوات من التقدم السياسي شهدته القارة بعد الانعتاق من المرحلة الاستعمارية.
وفي محاولته لمعرفة ما يحدث في الجارة الجنوبية، استعرض البرلمان الأوروبي نهاية 2021 مجموعة من الأسباب التي تشكل مدخلاً لفهم ضعف وفشل الدولة في أفريقيا جنوب الصحراء، مبرزاً انخفاض مستويات التنمية الاقتصادية والنزاعات وغياب الأمن والإرهاب وضعف المؤسسات الديمقراطية وغياب استقلال القضاء والتلاعب بالمرجعيات الدستورية والانتخابات والتراجع عن مكتسبات الحقوق السياسية والمدنية.
الإرهاب وفقدان الأمل
من جانب متصل، تعاني الدول الأفريقية تنامي ظاهرة الإرهاب، ولم تخلُ الدول ذات الغالبية المسلمة من الآثار المدمرة للإرهاب، سواء في مصر والجزائر وليبيا وموريتانيا ونيجيريا ومالي، وتمددت هذه الظاهرة الخبيثة على امتداد الصحراء من غرب أفريقيا إلى شرقها، وتكاملت الشبكات الإرهابية من أقصى الساحل الأفريقي في الغرب إلى القرن الأفريقي في الشرق، حيث تنشط "حركة الشباب" الجناح الأكثر خطورة لتنظيم "القاعدة" في العالم اليوم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتؤكد الدراسات الأفريقية حول ظاهرة الإرهاب أن التنظيمات الإرهابية في أفريقيا لم تقتصر على ديانة أو طائفة معينة، وإنما كانت هناك جماعات إرهابية من المسلمين والمسيحيين، وباقي المعتقدات الأخرى، وأن سبعاً من الدول العشر الأكثر تعرضاً لمخاطر الإرهاب في العالم اليوم تقع في القارة الأفريقية.
وفي معرض تناول محفزات الإرهاب في أفريقيا تشير التقارير إلى الأوضاع السياسية المضطربة وضعف دور الدولة وغيابها والفساد والتهميش الاقتصادي والاجتماعي والأزمات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والنزاعات والحروب الأهلية وانتشار الفقر والتراكيب والتنوع المجتمعي المعقد في الدول الأفريقية، مما شكل عنصر جذب للجماعات الإرهابية للعمل في المنطقة.
ويجري الحديث عن 64 حركة مسلحة وعصابات عنيفة وتنظيماً إرهابياً تنشط في القارة الأفريقية، أبرزها تنظيم "القاعدة في المغرب الإسلامي"، و"حركة الشباب الإسلامية"، وجماعة "نصرة الإسلام والمسلمين"، و"بوكو حرام"، و"أنتي بالاكا" المسيحية، و"جيش الرب" للمقاومة. وخلال الفترة من 2007 - 2019 تسببت الأعمال الإرهابية في القارة الأفريقية، بحسب مؤشر الإرهاب العالمي لعام 2020، في مقتل 50456 إنساناً، وتكبدت القارة الأفريقية 13 مليار دولار في عام 2019 جراء الإرهاب.
القارة الأفريقية، حيث يقطن 15 في المئة من سكان العالم، والموطن الأصلي للوجود البشري، وحيث وفرة الثروات الطبيعية والحيوانية والمياه والأراضي الخصبة، يوجد فيها 34 دولة من مجموع 46 دولة في قائمة الأمم المتحدة للدول الأقل نمواً.
نحن والتسابق الأميركي - الصيني
كان الرئيس بايدن قد دعا في ديسمبر الماضي إلى قمة أميركية - أفريقية في العاصمة واشنطن، وهي القمة الثانية من هذا النوع، حيث سبقه الرئيس أوباما لعقد القمة الأولى في 2014، وربما كانت الدوافع الرئيسة لقمة واشنطن تتلخص في وقف وتائر الهجوم الصيني الكاسح على القارة الأفريقية، ضمن مشروعها الاستراتيجي المعروف بـ"مبادرة الحزام والطريق".
وقد عرضت الإدارة الأميركية في القمة الأخيرة على شركائها الأفارقة استثمار 55 مليار دولار خلال السنوات الثلاث المقبلة لتطوير البنية التحتية ودعم قطاع الطاقة النظيفة والزراعة والاقتصاد الرقمي وتأمين الكهرباء والإنترنت لآلاف المنشآت الصحية.
وأكد بيان القمة تعميق الشراكة مع القادة الأفارقة ومنظمات المجتمع المدني وقطاع الأعمال والمرأة والشباب، وإطلاق عقد من التحول الشامل في القارة، عبر الشراكة الاقتصادية والالتزام المشترك بالديمقراطية وحقوق الإنسان ومكافحة الجوائح والأوبئة وضمان الأمن الغذائي وتعميق السلم والأمن والاستقرار في أفريقيا.
من جانبها، كانت الصين قد عقدت عديداً من القمم مع الدول الأفريقية، وكان آخرها في عام 2020، تحت لافتة مكافحة وباء كورونا. وخلال زمن قياسي انتقل التبادل التجاري الصيني مع أفريقيا من حدود مليار دولار في حقبة السبعينيات، ليصل في عام 2012 إلى ما يتجاوز 200 مليار دولار، لتغدو معه صادرات أفريقيا إلى الصين ضعفي صادراتها إلى أميركا، وأربعة أضعاف صادراتها إلى أوروبا.
وفي الواقع، استطاعت الصين أن تنزل بسعر سلعها إلى مستوى المواطن الأفريقي على شرائها، بما أدى إلى غزو البضائع الصينية الرخيصة للأسواق الأفريقية، كما أدى إلى تدمير الصناعات الأفريقية، وأغرقت الأسواق بمواد استهلاكية رخيصة من الدراجة إلى المصباح اليدوي والشمعة والبراد، مما دفع بالشركات الغربية للشكوى من عدم قدرتها على المنافسة، وبحسب "مبادرة الأبحاث الصينية - الأفريقية" في جامعة جونز هوبكنز الأميركية، أقرضت الصين الدول الأفريقية 125 مليار دولار خلال الفترة 2000 – 2016.
ويرى كثير من المراقبين في منطقتنا العربية أن تزايد الوجود الصيني يأتي على حساب فكرة القطب الإقليمي العالمي في منطقتنا، وهي الفكرة الاستراتيجية التي تنطلق من رؤية السعودية 2030 ورؤاها التكميلية، والتي تفترض أن منطقة استراتيجية تربط الممرات المائية الحيوية وتجمع دول الخليج والأردن ومصر تقودها قاطرة قوة الدفع السعودية لإحداث تغير استراتيجي في العلاقات الدولية في منطقتنا. وفي هذا الاتجاه تبقى أفريقيا هي الامتداد الطبيعي لتلك الرؤية الشاملة للمستقبل.
من هنا، جاءت الدعوة السعودية إلى عقد أول قمة سعودية - أفريقية، على هامش القمة العربية - الأفريقية في الرياض، التي تأجل عقدها لظروف انتشار جائحة كورونا، ومن المتوقع انعقادها خلال الأشهر المقبلة. وستبنى القمة السعودية - الأفريقية على نجاح الدول الخليجية في استثمار 100 مليار دولار خلال السنوات الماضية في قطاعات الموارد الطبيعية والمعادن والاتصالات وإدارة المطارات والموانئ البحرية والزراعة والمصارف في تشبيك وتكامل لطاقات الاستثمار الخليجي وخبرات مصر المتراكمة في أفريقيا.
ويكفي إبراز نموذجين للتعاون الاستراتيجي البناء مع القارة الأفريقية، مثل المشروع السعودي الرائد لبناء محطة للطاقة الشمسية في جنوب أفريقيا بقيمة 328 مليون دولار، ومشاريع السدود المصرية في أفريقيا، وآخرها مشروع سد ومحطة كهرباء "روفيجي" في تنزانيا بقيمة 3.6 مليار دولار.
وما هذا إلا غيض من فيض التعاون مع أفريقيا من منظور مزج التجربة المصرية الرائدة في أفريقيا مع مكونات الرؤية السعودية، والرؤى الخليجية، بما يعمق المصالح المشتركة السعودية الخليجية العربية مع أفريقيا، وسيعم الخير خمس سكان العالم يقطنون هذه المساحة الجغرافية الشاسعة التي عانت طويلاً الاستعمار والاستغلال، وحان وقت الانعتاق.