عن نفسه قال الشاعر الأميركي ذو الأصل الصربي تشارلز سيميك (مايو "أيار" 1938- يناير "كانون الثاني" 2023) في قصيدة له، عنوانها هو اسمه "تشارلز سيميك جملة/ جملة لها بداية ونهاية/ وكم فعلاً في الجملة؟/ الأكل والنوم والحب بعض الأفعال/ وهل سينهون الجملة بنقطة أم بعلامة استفهام؟/ سينهونها بعلامة تعجب وبقعة من الحبر".
وبين بداية هذه الجملة بميلاد سيميك منذ قرابة خمسة وثمانين عاماً ونهايتها برحيله قبل أيام، وفي ظلال النقطة وعلامة الاستفهام وعلامة التعجب وبقع الحبر على الأوراق، يزداد حضور شاعر العصر في الترجمات العربية. وقد صدرت له عن دور نشر عدة كتب معربة بالتتالي، تولى ترجمتها: سامر أبو هواش (كتاب)، أحمد شافعي (كتابان)، إيمان مرسال (كتاب)، أحمد م. أحمد (ثلاثة كتب). وها هو الشاعر والمترجم الأردني الفلسطيني تحسين الخطيب يمضي في توثيقه تجربة الشاعر الأميركي الحاضر - الغائب، فبعدما ترجم له كتابين سابقين، يقدم مختارات شعرية شاملة له، مع قراءة نقدية لأعماله وحياته، إلى جانب إجرائه أكثر من حوار معه حول قضايا أدبية وسياسية وواقعية متنوعة، بوصفه واحداً من أبرز الشعراء المؤثرين في حركة القصيدة الجديدة في أميركا والعالم العربي والعالم، خصوصاً قصيدة النثر، بانغماسه في المشهد اليومي والحياة البسيطة والأشياء المهمشة واللحظات المهملة، وبتفاصيله الثرية ونزعته السوريالية وحسه الإنساني التلقائي العميق: "رأيت الريح/ تقلب صفحات موسوعة سميكة، مرمية مع النفايات/ في عجلة من أمرها، كي تعثر على إجابة".
التدفق المستحيل
وتعود أصول تشارلز سيميك إلى يوغوسلافيا السابقة، إذ ولد في بلغراد، وغادرها في الخامسة عشرة إلى باريس برفقة أمه وأخيه، ومنها بعد أشهر قليلة إلى الولايات المتحدة حيث يعمل والده، واستقرت العائلة هناك. وقد حصل على البكالوريوس من جامعة نيويورك، وبعدها صدرت مجموعته الشعرية الأولى "ما يقوله العشب" عام 1967، وتوالت إصداراته التي لقيت احتفاء نقدياً واسعاً وتفاعلاً كبيراً مع القراء، ومنها "تفكيك الصمت" و"في مكان ما بيننا... حجر يدون ملحوظاته" و"العودة إلى مكان مضاء بكوب حليب" و"سيرة ومرثية" و"مدرسة للأفكار الشريرة" و"تقشف" و"فندق الأرق" و"ذلك الشيء الصغير" و"لا أرض تلوح في الأفق"، وغيرها.
وتبقى دائماً كتابات سيميك ممسوسة بحصاد الذاكرة، ومفتوحة المشاعر والصور على الطفولة ومشاهد الحرب العالمية الثانية، والكوارث التي عمت بلغراد والمدن الأوروبية، والهموم الإنسانية والتساؤلات الوجودية على وجه العموم، ومعنى الكينونة وجدواها في عالم يحتفي بالخرائب: "كانت أمي جديلة من دخان أسود، حملتني مقمطاً فوق المدن التي تحترق". كما يتجدد لديه بين الخطوة والأخرى حلم بالرجوع، ربما إلى ما قبل الخليقة: "يا كل الأرواح الضائعة، إن كنت موجودة، عودي إلى المرسل". وربما تقود أطياف هذا الحلم التي تضيء مسام الحواس وتجاويف الضمير إلى تمني الرجوع إلى العري والبدائية والخميرة الصلصالية الأولى قبل تلوث البشرية: "ربما، قد أزف الوقت، الذي نرجع فيه إلى الغابات والحقول الثلجية، فنعيش وحيدين، ونقتل الذئاب بأيدينا العارية، حتى تنسى الكلمة الأخيرة، وينسى الصوت الأخير، لهذه اللغة التي أتكلم".
وتعكس فرادة سيميك الشعرية قدرة فائقة على الكتابة الجريئة التصويرية التي تستعصي على التصنيف، وتمزج موروثات العالم القديم والإحساس القوي بالحياة الحديثة، كما تجمع بين البساطة والغرائبية، والواقعية والتخييل، والمرح والمرارة، والجد والسخرية، والميثولوجي والمبتذل، والمباشرة وتعدد احتمالات التأويل "لم ألحظ، حين ها هنا كتبت، بأن لا شيء من العالم يظل، إلا طاولتي والكرسي". وقد اختير من قبل مكتبة الكونغرس في عام 2007 ليكون شاعر أميركا الرسمي الخامس عشر، ونال جوائز مرموقة، منها جائزة رابطة القلم للترجمة وجائزة البوليتزر وجائزة الأركانة الدولية ووسام فروست، وغيرها.
الشعر في كل شيء
يجد تشارلز سيميك الشعر ماثلاً ومتحققاً في كل شيء، كما أنه قد يجده أيضاً في اللاشيء، ويوجده في اللاوجود: "لون اللاشيء أزرق/ أخبطه بيدي اليسرى فتختفي اليد/ فلمَ أنا هادئ، شديد الهدوء، حينئذ، يغمرني الفرح؟!". وهو يلتقط الأشياء العادية والصغيرة والقريبة وغير المغرية بالكتابة، ليكسبها وهجاً خلاقاً ونبضاً جمالياً وحساسية شعرية طاغية الحضور "حزين مثل علبة ثقاب في منزل، توقف ساكنوه عن التدخين/ حزين مثل حبة توصل إلى النشوة في جيب رجل ميت".
وبكتابته عن أي شيء، حي أو غير حي، مألوف أو مهجور أو منبوذ، ظاهر أو خفي أو ممحو، فإنه يمنحه ومضة سحرية تجعله يبرز، ويتنفس، ويتفجر، ويقاوم الفناء. فلا معنى للنهاية بهذا المنطق في قاموس سيميك: "كان يكتب تاريخ التفاؤل في زمن الجنون/ كانت تمطر". ولا مجال في خريطته لليأس والذبول بالمفهوم العدمي، فالجمرات متأججة ناطقة تحت الرماد، حتى إذا صادف البشر العنف وويلات الحرب والموت المجاني في بعض الأوقات العصيبة المحفوفة بالأهوال: "توسخ هذا الصبي كثيراً، وهو يلعب في الرماد. وحين ندهوا عليه كي يرجع إلى البيت، حين صاحوا باسمه من فوق الرماد، كانت كومة الرماد التي أجابت".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومثلما يرى سيميك الأشياء الظاهرية ويتعاطى بندية معها، وكأنما أي شيء حوله هو أنا مستقلة بذاتها، فإنه يمضي أيضاً إلى لمس أناه الباطنية الخاصة والتعامل معها باعتبارها شيئاً حسياً متداولاً. وليست هناك حواجز أو حدود بين الداخلي والخارجي، فالذات الجامدة والعالم المتصخر المتوحش كيان واحد، متصل ومتصارع، وبحاجة إلى إضاءة وألفة وانصهار: "الحجر مرآة عقيمة. لا شيء فيه سوى العتمة. عتمتك أم عتمته، من يدري؟ كصرار ليل أسود يصخب قلبك في السكون".
طاقة التغيير
وفي انتقاءاته، يعول تحسين الخطيب على قصائد سيميك التي تكاد تحيا على الحافة، في الحواشي، وعميقاً حولها، في التخوم: "إنه الحرف المعلق بين الزمن والتاريخ، وبين الزمن والأبدية، كما لو أن اللغة، في جوهر وجودها، حالة موقتة لما لا يوصف أو يقال، كما لو أن القصيدة في كينونتها الدائخة، ليست سوى ذلك الصوت الهامس الذي نسمعه، عميقاً، في آخر الليل. القصيدة الظل، التي هي كل شيء آخر. الأنا الغنائية في مواجهة العالم، بأقصى طاقاتها، ضد شروره وفوضاه. يغمض الشاعر عينيه، على قدر استطاعته، لكي يرى العالم على نحو أفضل".
وبإمكان الهزل كذلك أن يقترح تلك الطاقة اللازمة للتغيير، إذا استأسدت التراجيديا، وسيطرت كلية على المشهد فوق مسرح العبث. فما أسهل أن يبدل المرء حياته مثلاً في متجر الملابس العتيقة، ذلك الذي يحتوي على مخزون هائل من الحيوات السابقة، فيصير بمقدوره أن يفتش عن حياة تلائمه، نظيفة ومكوية وأنيقة! أما الحزن الخالص فإنه من الجائز أيضاً إعادة النظر إليه، وربما اعتباره سعادة خالصة يجري استدعاؤها، وذلك بواسطة لعبة ذكية من ألعاب السخرية التي يبتدعها ويمارسها سيميك بشهية بريئة طازجة: "أيتها السعادة، أيتها البطانة الحمراء البراقة، يا بطانة المعطف الشتوي الأسود، الذي يرتديه الحزن مقلوباً".