Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سيرة السينمائي عمر أميرالاي تمثل نهوض جيل وخيباته

الناقد فجر يعقوب اعتمد الوثائق ليضع كتابا شاملا عن مبدع ومرحلة

السينمائي السوري عمر أميرالاي (صفحة المخرج - فيسبوك)

يعود #فجر_يعقوب في كتابه "العدسة الجارحة- عمر #أميرالاي" إلى النبش في وثائقيات المخرج السوري الذي غادر العالم فجأة وبلا مقدمات في فبراير (شباط) عام 2011، تاركاً خلفه أرشيفاً سينمائياً هائلاً، لم يكتب للعديد من مسوّداته أن ترى الضوء، لا سيما فيلمه #إغراء_تتكلم" الذي كان يعمل عليه، عن نجمة سينما القطاع الخاص في سورية. الكتاب الصادر حديثاً عن دار المتوسط، يحاول تقديم مراجعات نقدية لأفلامه الممنوعة من العرض في بلاده، والتي تناولت مناحي الحياة السياسية والاجتماعية في ظل حكم حزب البعث.

يعود بنا الناقد الفلسطيني إلى شتاء عام 1965، عندما توصّل الشاب عمر أميرالاي حينها إلى حقيقة أنّ حلمه بدراسة الغناء الأوبراليّ كان يتعارض ومبدأه الـرّافض لأشكال الانضباط القسريّ، والامتثال لقواعد التدريب الصّارمة التي يخضع لها فنانو الأوبرا عادةً. لذلك هاجر من برلين الغربية متجهاً إلى باريس، لينكب هناك على دراسة المسرح بين عامي 1966/1967 في الجامعة الدولية  (مسرح ساره برنار)، ومن ثم ليلتحق بمعهد الدراسات السينمائيّة العليا عام 1968، وكانت سنته التحضيرية في جامعة نانتير، الأكاديمية التي انطلقت منها شرارة ثورة الطلاب في فرنسا.

لم تمضِ أشهر قليلة على دخول أميرالاي المعهد حتى بدأ يفكّر أيضاً في ترك السينما، فنظام التلقين وغلاظة المناهج الأكاديميّة التي كانت متّبعة آنذاك، جعلته ينزوي عن زملائه، فاستحقّ اسم "الشّاب الذي يمشي فوق السحاب". اللقب الذي أطلقه عليه رفاق الدراسة، إلى أن جاء اليوم الذي طلب فيه أستاذه المخرج الفرنسي جان بيير ميلفيل، تقديم معالجة سينمائيّة لمشهد من رواية أدبية، فخصّ ميلفيل عمر آنذاك بإطراء وحماسة شديدين فاجآه. فالشاب الذي كان يعمل رسّاماً ساخراً في مجلات سوريّة، استطاع أن ينجز سيناريو سينمائياً متقناً، مدعّماً إيّاه بملاحظات إخراجيّة دقيقة ورسوم تفصيليّة على شكل ستوري بورد (خطة تصوير)، مما دفع بصاحب "الطوفان" بقوّة، نحو حلمه السّينمائي.

 

إغلاق المعهد بسبب أحداث ثورة الـ 1968 أعاد أميرالاي الشاب إلى دمشق في صيف العام نفسه، بعد أن بذل جهداً طيباً في المهمّة التي كان يزاولها بتزويد اللجنة الإعلاميّة التّابعة للحركة الطالبيّة بمواد عن تظاهرات الطلاب، التي كان يصوّرها بكاميراه السينمائية الخاصّة.

التغيرات الجذرية

في زيارته القصيرة الأولى بعد تخرجه أنجز أميرالاي أولى تجاربه في الفيلم التسجيلي لمصلحة وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، فقدم مشروع فيلمٍ وثّق نشاط الوحدات الإرشاديّة لصناعة السجاد اليدوي المنتشرة في مختلف أرجاء سوريّة، مدفوعاً برغبة عارمة في التعـرّف إلى بلده الذي كان يجهل وقتذاك غناه وتنوّعه المذهل في ثقافاته وبيئاته المتعددة. فقد زوّدته جولاته في مختلف أقاليم البلاد وقراها النّائية بمعين هائل من الأحاسيس والانطباعات التي رفدت لديه حساً بصريّاً ونقديّاً، طبع جلّ أفلامه التسجيلية في ما بعد.

يشرح يعقوب في هذا السياق رغبة أميرالاي في تسجيل موقف سياسي وفني من التغييرات الجذرية التي طاولت مناحيَ عدة في سورية، لعل أبرزها كان اشتغاله مع رفيق دراسته سعد الله ونوس على فيلميه "محاولة عن سد الفرات" عام 1970، و"الحياة اليومية في قرية سورية" عام 1974، وهما الشريطان الوثائقيان اللذان كوّنا خصوصية "العدسة الجارحة" لهذا المخرج، بحيث وسمت موجة اليسار الثوري في سبعينيات القرن الماضي في بلاده، ووجدت تربتها الخصبة عند صاحب فيلم "الدجاج"-1977 في نشاطات نادي دمشق السينمائي، وكان مقرّه في "المنتدى الاجتماعي" في العاصمة السورية. بالفعل شكّل أميرالاي مع محمّد ملص ونبيل المالح وقيس الزبيدي وهيثم حقي وآخرين، خلية سينمائية نشطة، فكان توجّهها الفكريّ يساريّاً، ومواقفها المعارضة علنيّة داخل الحياة الثقافية والاجتماعية للبلاد.

 

لم يتحقّق هذا المشروع إلا بعد صراع شرس خاضه سينمائيو النادي الدمشقي ضدّ التيار الشيوعي البكداشي الذي كان يسيطر وقتها على مقر النادي، وقد نجح أميرالاي برفقة زملائه- وعبر انتخابات ديمقراطيّة- بانتزاع النادي منهم، ليستمر نشاط عمر ورفاقه في ما بعد من عام 1974 إلى عام 1981، حين اضطرّ النّادي السينمائي إلى تعليق أنشطته بالكامل بسبب أحداث الإخوان المسلمين الدّامية في سورية، واشتداد وتيرة القبضة الأمنية على البلاد. فالنادي السينمائيّ كان آنذاك المنبر الوحيد المستقلّ تقريباً الذي مارس نشاطه بحرّية نسبيّة، حتى تحوّل مقرّه إلى ما يشبه منبراً مفتوحاً للنُخب المعارضة في المجتمع، للتعبير عن أفكارها ومطالبها. وقد توالت على منبر النادي وجوه من الحياة السياسية السورية بمختلف أطيافها؛ من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين الديمقراطي، ليكون لعمر أميرالاي ورفاقه من مخرجين ونقاد وفنانين ومثقفين، تأثير كبير في بلورة وعيٍ سينمائي مختلف عن سينما القطاع الخاص في سورية التي دأبت على وهم شباك التذاكر ونجومه.

حركة سينمائية

 

تجربة النادي السينمائي لم تدم طويلاً، لتتوقف بعدها لسنوات حتى منتصف التسعينيات، إذ بدأ يلوح في الأفق انفراج نسبيّ في حالة البلاد العامّة، وليقرّر النادي استعادة نشاطه، منطلقاً هذه المرة من صالة "سينما الشام"، حيث بدأت تتضح ملامح جيل جديد من الأعضاء، انضمّوا إليه لحضور عروضه، فوصل عدد هؤلاء إلى ما يُقارب الألف عضو من مختلف الأعمار والفئات الاجتماعية والسياسية، وكان جلّهم من طلبة الجامعة الذين استقطبتهم تجربة أميرالاي ورفاقه، كطليعة لمعارضة ثقافية عالية الجرأة عكستها أفلام أميرالاي في سينما، قدمت ما يشبه شريطاً مطوّلاً عن الحياة السورية المعاصرة. وكانت أحد أفلام عمر، وهو "في يوم من أيام العنف العادي مات صديقي ميشيل سورا"- 1996، عتبة جديدة لقراءة متأنية لطبيعة السلطة، وأثر الهزائم المتلاحقة على المزاج العام للبلاد.  

يبدو ذلك من خلال الحوار الذي سجله أميرالاي في فيلمه "وهناك أشياء كثيرة يمكن أن يتحدث عنها المرء"-1997 مع سعد الله ونوس في آخر أيامه، والذي عكس من خلال مزاجه المأساوي للكاتب المسرحي، كيف كان المثقفون السوريون -ولا سيما السينمائيون منهم- جبهةً واحدة في السبعينيات والثمانينيات من القرن الفائت. فلم يشتغلوا أفلاماً مشتركة وحسب، بل عملوا على نشر ثقافة سينمائيّة في أوساط جيلٍ كامل، فجعلوه يحبّ السّينما من خلال تعريفه على أهم إنتاجاتها، إضافةً إلى تعريفهم لشرائح عدة من الشباب على مذاهب الفن السابع على اختلاف مدارسه وتيارات مخرجيه، ليس على صعيد العاصمة وحسب، وإنّما في مدن سورية متعددة، من خلال تأسيس أميرالاي ورفاقه عام 1978 ما أطلقوا عليه وقتها "الاتّحاد العام لنوادي السينما في سورية" بحيث أصبحت لنادي دمشق هذا، مختبرات وورش تفرعت عنه في كلٍ من حلب وحمص ومصياف ودير الزور والسّويداء.

مرت سنوات طويلة من عمر تلك التجربة كان خلالها عمر أميرالاي ومحمد ملص يقيمان فيها أسابيع سينمائية للأفلام في مدن وبلدات سورية متنوعة، حاملين معهما أفلاماً وآلة عرض سينمائيّة 16 ملم، كي يعرضا الأفلام أمام الجمهور، ومن ثم يناقشانها بكل جدية ورغبة في تحقيق عدوى سينمائية أرادا نشرها في بقاع الأرض السورية. فعملهما هذا كان أقرب إلى الفعل النضالي منه إلى عشق السينما التي ظل أميرالاي حتى أيامه الأخيرة مؤمناً بدورها في حياة الناس، الذين تحزّب لهم ولهواجسهم وهمومهم اليومية. فكان الحضور الأول لظاهرة "السينما الجوّالة" هذه مفاجئاً بكثافته في الأرياف والمدن، إلى أن توقفت هذه التجربة نهائياً بانفراط العقد الذي جمع سينمائييها، والخلافات التي وقعت بينهما كرفيقي مرحلة، أو سواءً الخلافات التي نشبت في ما بعد مع إدارة "المؤسسة العامة للسينما" التي أنتجا فيها أبرز أفلامهما.

مواجهات وخيبات

خيبات أمل كبيرة تعرّض لها صاحب "الرجل ذو النعل الذهبي" 1999 فلم يجد فرصة جديدة يطل من خلالها على سينما وثائقية قادرة أن تبتعد عن دور المتفرج المذعن للواقع. فلطالما كان عرّاب السينما التسجيلية في سورية مدركاً فداحة الخطب القادم وهوله، ومدفوعاً بخصومة سياسية واضحة مع السلطة، وضعته في أوقات كثيرة أمام مواجهات مباشرة معها. وكانت ذروة هذه المواجهات في فيلمه "طوفان في بلاد البعث" 2003. ففي ظلّ التصوّر المتشائم للمجتمع السوري الذي نراه واضحاً في سينما الوثائقي الراحل، لم يتنكّر أميرالاي لهويته السينمائيّة، ولا للسينما التي بقيت أداته الوحيدة للتعبير عن نفسه. بيد أن هذا الإيمان لم يحم أميرالاي من أن يكون حزيناً حتى آخر أيامه لما أصاب السينمائيين السوريين، من فُرقة ومن عجز عن جمع أنفسهم من جديد، مما منعهم من تشكيل جبهة سينمائيّة كانت في يوم من الأيّام عصب الثقافة في مواجهة رموز الفساد وقمع الحريات.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الشيء الوحيد ربما الذي كان يشغل بال صاحب "طبق السردين" 1997 هو كيف على السينما الوثائقية أن تدفع عن نفسها شبهات واتهاماتٍ عدة، أقلّها انتقاؤها السلبي لموضوعات أطلق عليها المخرج السوري الراحل مصطفى العقاد لقب "الواقعية الفضائحية"، والتي وصفها صاحب فيلم "الرسالة" في حوار معه بأنها "تشهّر وتشوّه وتعرض الغسيل الوسخ خارج البلد".

إن العجز عن إمكان فعل شيء ذي جدوى لإصلاح خراب الواقع الذي وصلت إليه البلاد، جعل أميرالاي يفكر بأن الخلاص لن يكون إلا بالعودة إلى السينما، وسيكون حتماً خلاصاً فرديّاً، لأنّه في نهاية المطاف الفعل الحقيقيّ بالنسبة إلى أيّ سينمائيّ بأن يصنع فيلماً. وقد أدرك عمر قبل رحيله أنه كان أبعد ما يكون عن تلك الحالة الحماسيّة التي كان عليها هو ورفاقه قبل سنوات فائتة، حين كانوا يشكّلون جبهة متماسكة وموحّدة، وكانت لديهم مطالب واضحة وصارمة. فالسينمائيون السوريون كانوا دائماً في الخطّ الأمامي الأوّل في مواجهة بطش السلطة، وكان صوتهم هو الأعلى في مماحكة النظام لسنين طويلة.

اقرأ المزيد

المزيد من سينما