على الرغم من المشاكل الهائلة التي يعاني منها #لبنان سياسيّاً واجتماعيّاً واقتصاديّاً يشهد #المسرح اللبنانيّ حركة إنتاج مزدهرة ومنعشة. وقد تظهر #الكوميديا بفنونها المختلفة سيّدة الموقف وسيّدة الخشبة لكونها السلاح الأوّل، بيد الفنّان المبدع لنقد المجتمع، ولكونها أداة لتسليط الضوء على آفات هذا الزمن ومآزقه. ويمكننا الحديث اليوم عن ثلاث ظواهر كوميديّة لا بدّ للجمهور اللبنانيّ من أن يتتبّعها ويشاهدها وهي ظواهر تنتمي إلى ثلاثة فنون كوميديّة مسرحيّة مختلفة.
يقع الجمهور اللبنانيّ أوّلاً على ظاهرة الستاند أب كوميدي (stand up comedy) الآخذة بالسيطرة على المشهد في مسارح الحمرا وفي حاناتها، ويمكننا التوقّف هنا على وجه الخصوص عند مسرح يحيى جابر ومسرحيّته المونودرامية الأحدث "هيكللو" التي كرّست عبّاس جعفر ممثّلاً مسرحيّاً حقيقياً. وكان جابر قدم أعمالا مونودرامية لاقت نجاحاً كبيراً، شعبياً ونخبوياً خصوصاً مع الممثلة القديرة إنجو ريحان. وهناك ثانياً ظاهرة الفودفيل (vaudeville) التي تتزعّمها الممثّلة جوزيان بولس مديرة مسرح مونو في الأشرفيّة والتي تقدّم حاليّاً مسرحيّة "رايحين جايين" الجذلة الخفيفة التي تنطبق عليها معايير مسرح الفودفيل تماماً والتي قام بإخراجها برونو جعارة. أمّا النوع الثالث من الكوميديا الهزليّة فهو مسرح الشانسونييه (chansonnier) الهزليّ الناقد الذي يمسك بزمامه اليوم الثنائي المتميّز ماريو باسيل وشادي مارون بعملهما الأجدد "دراميدي" أو العلاج بالمسرح.
ثلاثة اعمال مسرحيّة مختلفة النوع والهدف والأسلوب والتقنيّة والخصائص، يمكن أن يتابعها الجمهور اللبنانيّ وأن يشفي عبرها جروحه، إن أمكن.
يحيى جابر والنقد الاجتماعيّ
يجمع يحيى جابر في مسرحه تقنيّات الكوميديا والإضحاك الأربعة: الإضحاك عبر نقد الذات اللبنانيّة، الإضحاك عبر رسم الشخصيّات كاريكاتوريّاً، والإضحاك عبر التركيز على أداء الممثّل وتحرّكه على المسرح، والإضحاك عبر تقديم مواقف صحيحة إنّما غريبة وغير متوقّعة. يسلّط يحيى جابر في الكوميديا التي يقدّمها على النقد الاجتماعيّ وعلى شخص الإنسان اللبنانيّ بطرق تفكيره وتحليله للأمور وتربيته لأولاده.
في هزليّة فكاهيّة ناقدة تركّز على النسيج الاجتماعيّة اللبنانيّ يعالج مسرح جابر الطوائف اللبنانيّة وعلاقاتها بعضها ببعض وأحكامها المسبقة المتبادلة بينها. فإلى جانب مسرحيّات الرجل الواحد على المسرح (one man show) أو المرأة الواحدة (one woman show) كمثل أعمال "مجدّرة حمرا" و"هيكللو" قدّم يحيى جابر عمل "تعارفوا" الجماعي، لكسر الحواجز الاجتماعيّة والدينيّة القائمة داخل المجتمع اللبنانيّ. وليس هدف جابر الإضحاك والهزل وحدهما، بل نراه ينقد بشكل لاذع تارةً وبشكل محزن مفجع تارةً أخرى، لينبّه الإنسان اللبنانيّ إلى العنصريّة أو الأحكام المسبقة التي تتحكّم به والتي يتزايد تحكّمها به وبطرق تفكيره وبأساليب عيشه مع مرور الوقت.
إنّ خيارات يحيى جابر لموضوعاته ولممثّليه ولتقنيّات الإضحاك في مسرحه، هي خيارات واعية هادفة لاذعة تعكس صورة كاتب ومخرج مدرك لخفايا مجتمعه، ولتفاصيل الإنسان فيه، ومستعدّ لتوظيف فنّه ونصّه لكسر الحواجز والعقبات، أمام تحسين المجتمع وتعزيز أواصر اللحمة بين أهله.
جوزيان بولس والفودفيل
لا يمكن متتبّع المشهد المسرحيّ في لبنان أن يغضّ الطرف عن مجهود جوزيان بولس الجبّار في إنعاش المسرح اللبنانيّ منذ إمساكها بإدارة مسرح مونو. فبولس وارثة سنوات طويلة من التمثيل والمسرح، تدأب منذ ترؤسها مسرح مونو، على الإبقاء على ألق الخشبة وتعزيز مكانتها عبر تقديم مسرحيّات متنوّعة عبر البرنامج الموسمي، منها الجدّيّ المونولوغيّ كعمل ماريّا الدويهي "آخر بروفا"، ومنها الهزليّ الكوميديّ الساخر الناقد المضحك. فبعد مسرحيّات كمثل "وصفولنا الصبر" أو "كيفك يا ليلى" أو "مفروكة" التي فيها ما فيها من إبداع في الكتابة وبراعة في الأداء وحنكة في التقديم، تتّجه بولس إلى الفودفيل بمسرحيّة في عرض يُقدّم حاليّاً على خشبة مسرح مونو بعنوان "رايحين جايين".
والفودفيل الذي تطوّر في فرنسا منذ القرن السابع عشر هو نوع كوميديّ سهل وفنّ مسرحيّ يهدف إلى التسلية والإضحاك فقط، من دون وجود أهداف أخلاقيّة أو مزاعم تعليميّة. وتتقن بولس مع فريقها والمخرج جعارة ومجموعة الممثّلين التي تقدّم المسرحيّة، عمليّة نقل الواقع المضحك والغريب بتقنيّة وأداء قائم على دقّة التوقيت بين دخول الممثّلين وخروجهم، ليبقى الجمهور منقطع الأنفاس طيلة العرض بانتظار أن تقع المصيبة المتوقّعة التي ستؤزّم الوضع.
وعبر ملامح واقعيّة خفيفة طريفة لا ترمي إلى تقديم نقد اجتماعيّ ولا أخلاقيّ، تنجح بولس وجعارة وإلى جانبهما عدد كبير من الممثّلين، في تقديم مسرح هزليّ كوميديّ مثير للضحك، جميل بحبكته وتطوّر أحداثه وأداء ممثّليه.
ماريو باسيل وشادي مارون: ثنائيّ متكامل
ماريو باسيل يوظّف في مسرحه عنصر الكوميديا الساخرة لينقد المجتمع اللبنانيّ بمفاسد حكّامه وأساليبهم الملتوية. ففي عرض شانسونييه ساخر لاذع وصارم، يقدّم باسيل هجاءً قارصاً وحارقاً للبنى التقليديّة السياسة اللبنانيّة. ويُضاف إلى النصّ الزاخر بالـ"لطشات" السياسيّة والاجتماعيّة موهبة شادي مارون الفذّة في التقليد واستحضار أبرز شخصيّات الطبقة السياسيّة اللبنانيّة الحاكمة.
وعلى الرغم من أنّ مسرح ماريو باسيل قد يبدو للبعض مغرقاً في الإشارات الإباحيّة إلاّ أنّ الرسالة السياسيّة والاجتماعيّة الصارخة، تطغى على المشهد ليكون ماريو باسيل وفرقته من آخر المحافظين على بقاء هذا الفنّ المسرحيّ ألا وهو الشانسونييه. ويقول باسيل في إحدى المقابلات المجراة معه حول هذا الموضوع بالتحديد: "هناك تشويه لما قدّمناه كعرض مشهد مجتزأ مضحك من أعمالي من دون أي معنى أو هدف. نعم أستخدم كلمات حادة ونافرة في شكل طريف، حتى أفلح في قول الرسالة، وأشبّه ذلك بالصيّاد الذي يرمي صنارته الصغيرة حتى يحصل على الصيد الأكبر". ويبدو واضحاً أنّ التعابير المستفزّة ليست سوى غطاء مقصود ومتعمّد لإيصال رسالة بنّاءة وهادفة في نقد المجتمع وسياساته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من المتعارف عليه أنّ للفنّ عموماً وظيفتين اثنتين، إحداهما تحرير ذات الانسان من أوجاعها وآلامها، والأخرى نقد المجتمع وأهل الحكم فيه والإشارة إلى مثالبهم. من هنا يظهر المسرح اللبنانيّ بفنّ الكوميديا السوداء، الذي تطغى عليه طريقة المبدعين من كتّاب وممثّلين ومخرجين للإشارة إلى مآزق مجتمعهم وزلاّت حكّامه، وسبيلاً لتحفيز أهله على القيام بشؤونهم وتحسين أحوالهم.
والكوميديا الهزليّة أكانت فودفيل خفيفة مضحكة كمسرحيّات جوزيان بولس، أو نقديّة اجتماعيّة كأعمال يحيى جابر، أو سياسيّة لاذعة كمسرح ماريو باسيل، فإنّها تجتمع وتتضافر وتصبّ لا محالة في خير المجتمع والفنّ والإنسان. فالكوميديّ يضحك من مشاكله بدلاً من أن يبكي بسببها، والمسرح يرمي إلى تحسين النفوس والمجتمعات متى أشار إلى عيوبها، ليكون ما قاله موليير عن الكوميديا حقيقة لا تزال قابلة للتطبيق حتّى في يومنا هذا: "واجب الكوميديا هو أن تقوّم الإنسان فيما هي تضحكه".