بدا لافتاً عدد #النكات التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي في أعقاب #زلزال_تركيا_وسوريا. وردها فريق واسع إلى أسباب نفسية، حيث يعبر الفرد عن حال من الإنكار أو المكبوتات النفسية.
تتباين ردود الفعل الفردية حيال النكبات والكوارث الطبيعية التي تلم بالبشرية. في لبنان، يصدق وصف الهزة الأرضية التي وقعت فجر 6 فبراير (شباط) بالهزة التي أصابت الوجدان العام. وكان ملحوظاً بروز تفسيرات مختلفة لما حدث، انطلاقاً من كهرمان مرعش إلى الساحل السوري وصولاً إلى لبنان. وتعددت التفسيرات التي تمكنت من تحقيق الغلبة على حساب العلم التجريبي، حيث برز التفسير الميتافيزيقي، وكذلك عادت نظرية المؤامرة إلى الواجهة، وصولاً إلى "رمي النكات" التي أسهمت مواقع التواصل الاجتماعي في نشرها.
اتخذت النكات مستويات، فمنها ما صدر عن بعض المؤثرين، الذين وجدوا فيها فرصة لـ"الترند". واعتبر بعضهم أن الهزة جاءت بسبب "ترند" على "تيك توك" وتحديداً أغنية "وتمايلي" للفنان اللبناني فارس كرم، فيما استعاد البعض منشوراً لشخصية مثيرة للجدل هي مريم نور، والدعاء بتعجيل الدمار الشامل، كما استحضر كثيرون من الشبان مشهد فرج (باسم ياخور) في المسلسل الكوميدي "عيلة ست نجوم" عندما عاش حالاً من الذعر مع ما اعتقد أنه هزة أرضية. إلا أنه تحت وطأة النكبة والعدد الهائل من الضحايا في تركيا وسوريا اضطر هؤلاء إلى الاعتذار وإلغاء المنشورات ذات الصلة.
اتسع نطاق النكتة ليسلط الضوء على سلوك "اللبناني الخبير"، فعند وقوع أي كارثة أو حادثة كبرى يتحول الشعب اللبناني إلى مجموعة من الخبراء الذين يمتلكون تفسيراً لكل شيء، وأخيراً باتوا في موقع "الخبير الجيولوجي" الذي يتنبأ بزلازل قوية ستضرب لبنان والمحيط، بعد أن لعب في السابق أدوار الخبير الاقتصادي والمصرفي الذي يقرأ مسار الدولار والانهيار، وتقديم نفسه كمحلل استراتيجي وثائر على السلطة والنظام، كما لم يفت هؤلاء الربط بين أثر الزلزال والتحليق المستمر للدولار، فهم وجدوا علاقة طردية بين الحركة العنيفة للفوالق وعودة الانهيار المتسارع لليرة اللبنانية، إذ اقتربت مساء الإثنين 13 فبراير من سقف السبعين ألفاً للدولار الواحد.
لم تتوقف النكات عند هذا الحد، وإنما انتقلت إلى تحديد أدوات جديدة لكشف الزلازل والهزات، فبرزت إرشادات النظر إلى "الثريا" المعلقة في سقف الغرفة، أو إلى مستوى "المياه" في العبوة البلاستيكية، وكذلك إلى حركة السرير، كما تولى البعض مهمة السخرية مما يقال عن إحساس الحيوانات بالزلازل قبل البشر، ليؤكدوا أن حيواناتهم البيتية كانت تغط في نوم عميق أثناء الهزة الأرضية القوية.
تاريخ طويل من المبالغة
عندما ضرب الزلزال مصر في عهد كافور الإخشيدي نظم محمد بن عاصم "ما زلزلت مصر من كيد ألمَّ بها/ لكنها رقصت من عدلكم طرباً". قدم الشاعر آنذاك نموذجاً للانفصال عن الواقع، فمنهم من رأى فيه قمة التملق لذوي السلطان والحكام، فيما قرأ آخر نقداً ضمنياً للحاكم وعدالته التي دمرت البلاد، وأماتت العباد في مصر آنذاك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما أباحت النكتة هامشاً واسعاً من حرية التعبير، ووفرت للمواطنين في ظل الأنظمة الديكتاتورية والمنغلقة على ذاتها الفرصة لتوجيه سهام النقد إلى مؤسسة الحكم والعسكر. وما زال "الكاريكاتور" أحد الأساليب الأكثر شيوعاً وتأثيراً في عالم الإعلام والسياسة. وقد فطن عالم النفس النمسوي سيغموند فرويد لأهميتها فاعتبرها وسيلة للتنفيس وتعبيراً عن مكبوتات النفس واللاوعي الفردي.
ابحثوا عنها في أعماق النفس
أيقظت حركة الأرض المشاعر الإيمانية، ومسالك تهذيب النفس والزهد بالحياة الدنيا الفانية، ولكن في المقابل لا يمكن نفي العدد الكبير من النكات والسخرية والبحث عن كثير من المشاهدات والإعجاب استجابة لمتطلبات "السوشيال ميديا".
تقرأ الدكتورة رشا تدمري، المختصة في علم النفس التربوي، ردود الفعل المختلفة التي أعقبت الزلزال، وتضع نشر النكات في خانة "وسيلة من وسائل الدفاع، وهي آلية لا واعية نلجأ إليها للدفاع عن أنفسنا عندما نشعر بالقلق والتوتر والعجز عن التعامل مع المشكلة، وعدم القدرة على إيجاد الحل لها".
تلفت تدمري "نلجأ إلى وسائل الدفاع عند عدم التمكن من التعامل بطريقة منطقية مع الحوادث"، وتتحدث عن أشكال مختلفة من آليات الدفاع، وهي، أولاً الإنكار، وثانياً الكبت، فالإنكار Deny هو عدم الاقتناع بوجود المشكلة ورفض السماح لمشاعرنا بالتعبير كما يجب تبعاً للموقف سواء اتخذ ذلك شكل البكاء أو الحزن أو الفرح. أما كبت المشاعر في الداخل فيمكن أن يتسبب في حال تكراره على شكل سلوك مضطرب، قد يظهر على شكل "السخرية" كوسيلة من وسائل الدفاع اللا واعي التي تهدف إلى الحد من القلق والتوتر الذي يشعر به الفرد أمام الأزمات التي يفشل في التعامل معها وتقبلها.
من جهة أخرى تتطرق رشا تدمري عن مسار مختلف ومنفصل، وهو المسار الذي يلجأ إلى الإيمانيات للتعامل مع الأزمات، وتقول "من يلجأ إلى الفكر الروحاني نادراً ما يلجأ إلى النكات والسخرية، لأنه يتعامل مع الأزمات بمرونة تجاه الظروف الطارئة بفعل إيمانهم".
كما تنبه رشا تدمري إلى بحث شريحة عن "الترند" لتحظى بتفاعل كبير معها على مواقع التواصل الاجتماعي، فتتجه إلى إطلاق فكرة ساخرة يتم نشرها بصورة متكررة بين أعداد كبيرة من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، إذ يعتبرون أنهم تمكنوا من جذب الانتباه ومجاراة "موضة العصر".
في موازاة ردود الفعل تلك انعكست حركة الأرض على شكل صدمة وتوتر دائم لدى شريحة كبيرة من الأفراد، إذ بدأ يظهر عليهم اضطراب مستمر وخوف مفرط وتكرار الحديث عن الموت والنهايات. تلفت تدمري إلى وجود آثار نفسية مختلفة للأحداث الكبرى التي تواجهنا في الحياة اليومية، فهناك اضطراب ما بعد الصدمة PTSD، والتي لا تظهر أعراضها مباشرة بعد التعرض للصدمة، بل قد نستغرق ستة أشهر لملاحظتها إضافة إلى القلق والتوتر.