لوحتان لبابلو #بيكاسو (1881-1973) تحضران إلى الأذهان في مقاربة #الواقع_السوري هذه الأيام، فإلى جانب لوحة "#غورنيكا" التي صوّر فيها الرسّام الإسباني بشاعة الحرب وقسوتها، تطل إلى الذاكرة من جديد لوحته "البيت المقبرة" في استعارة لصور عشرات آلاف المنازل التي استحالت قبوراً لساكنيها عقب الزلزال المدمّر الذي ضرب مدناً سوريّة وتركية في السادس من فبراير (شباط) الحالي، مخلّفاً وراءه آلاف الضحايا وعشرات آلاف المصابين والمشردين.
وعلى رغم أن الزلزال طمس معالم الجُناة في مسرح الجريمة، ودمج دمار سنوات طويلة من الحرب، بالخراب الذي خلّفته الكارثة، إلا أن ثنائية "الحرب والزلزال" السورية لم تمنع من إطلاق العديد من المبادرات اللافتة من قبل فنانين وأدباء سارعوا إلى مد يد العون لأهلهم في المدن المنكوبة. فعلى مدار الأسبوع الماضي تحرّكت العشرات من مبادرات فردية وجماعية وضعت الفن والأدب في خدمة المنكوبين، ودمجت بين الشأنين الفني والإغاثي، مما حقق شيئاً من الحضور الاجتماعي للنخب السورية، ودفع بعض مثقفيها للنزول من الأبراج العاجية إلى ميادين المساندة المباشرة لآلاف الأسر التي أصبحت بلا مأوى.
هكذا أطلقت صالة "قزح" من قلب مدينة دمشق القديمة شارة البدء لهذا الحراك، فقام سامر قزح مدير الصالة بتوجيه دعوة لإقامة مزاد علني لأعمال فنية سورية في مدينة دبي، وتخصيص ريعها لمصلحة متضرري الزلزال، بينما بادرت غاليري "زوايا" في هذه الأثناء بنشاط مماثل مقيمةً معرضاً خيرياً حمل عنوان "الفن لسورية"، وضم أعمالاً نحتية وتصويرية لأكثر من ثلاثين فناناً وفنانة، ليتم رصد ريع مبيعات هذه الأعمال لمصلحة منظمات أهلية تدعم المتضررين.
قي المقابل قام العديد من الفنانين والأدباء السوريين في الخارج والداخل بإطلاق نداءات عاجلة للاقتناء والتبرع بريع أعمالهم في خدمة متضرري الكارثة، وكان من أبرزهم: أحمد إسكندر سليمان، وريما الزعبي، وفيفيان الصايغ، ودارين أحمد، وأسماء فيومي، ونجود الشومري، ونوال الحلبي، وسموقان أسعد، ونشأت الحلبي وآخرين... وقد شرع هؤلاء إلى عرض صور لأعمالهم على حساباتهم الشخصية في موقع "فيسبوك"، موجهين باقتنائها لمصلحة الأسر المنكوبة.
اللافت في هذه الدعوات لإسهام الفن في دعم المتضررين، كان غياب "مديرية الفنون الجميلة" في وزارة الثقافة التي أعلنت على موقعها الإلكتروني إيقاف كل أنشطتها لأجَلٍ غير مُسمى، مخصصةً كل المباني التابعة لها لإيواء المتضررين، ومثلها أصدر "اتحاد الكتّاب العرب" بياناً عاجلاً أوقف فيه هو الآخر جميع أنشطته، وخصص جميع مقراته في المدن السورية لجمع التبرعات.
مخطوطات للبيع
الشاعر زيد قطريب كان له رأي آخر في هذا السياق، عندما قام بالإعلان على حسابه في موقع "فيسبوك" بالقول: "مساهمةً مني في رفع الحيف والسادية التي يتعرض لها السوريون، أُعلن عن بيع مجموعة شعرية غير مطبوعة، كنت قد أجلتُ طباعتها لأسباب مالية، على أن يضع المشتري اسمه عليها، ويختار العنوان المناسب لها، ويجري التعديلات التي يراها مناسبة على النص، وبسرية تامة وتنازل قانوني ونقدي وإبداعي، مني شخصياً. وسيعود المبلغ لدعم عمليات الإغاثة، ويتم تحويله مباشرةً من المشتري إلى أي منظمة أهلية عاملة في مجال الإنقاذ أو تقديم المساعدات".
دعوة قطريب سرعان ما لاقت الاستجابة، فقد تم "شراء" المخطوطة الشعرية التي أعلن الشاعر السوري عن استعداده لبيعها، وقد تعهد المشتري بالتبرع بمبلغ 500 دولار أميركي باسم قطريب إلى جمعية "ممكن" الإغاثية، وبتمويل نشر الكتاب فوراً وباسم صاحبه، وتقديم مئة نسخة هدية له. الأمر الذي دفع الروائية رانيا الخوري هي الأُخرى لبيع نسخ من روايتها "عذاب- شهرزاد الحكاية" وتخصيص ريعها للتبرع لمتضرري الزلزال.
واستجابةً لظروف الكارثة التي حلّتْ بالبلاد قامت إدارة منتدى "صدى بيت القصيد" في اللاذقية بإطلاق ورشة عمل لرسامين ونحاتين لتجمع "سمبوزيوم"، وتضمنت نشاطات ثقافية وموسيقية على هامش الورشة، واستمد المشاركون موضوعاتها من وحي الكارثة وقصص الناجين، على أن تخصص ريع مبيعاتها لمنكوبي الزلزال. وأعلنت جمعية "أصدقاء فتحي محمد للفنون التشكيلية" عن قيام الفنان سعد يكن بفتح باب التبرع لمتضرري الزلزال في مدينة حلب، في الوقت الذي قام كل من الممثلين باسم ياخور وفادي صبيح بجمع حملة إغاثة بتمويل من تجار دمشق، وقاما بتوزيعها شخصياً على المتضررين.
ناقد تشكيلي فلسطيني مقيم في سورية فضّل عدم ذكر اسمه قال في حديث لـ "اندبندنت عربية": "ليست كل المبادرات هنا بريئة. ثمة من يستغل ظروف الكارثة لتسويق لوحاته المتواضعة. لو أن مشاعر هؤلاء صادقة لعملوا بصمت وبلا جلبة، لكن أمثال هذه الشريحة من الأشخاص يجدون في الزلزال فرصة لتسويق أعمالهم، وتقديم "استربتيز" ثقافي لطالما برعوا في أدائه. أسأل هنا عن هذا الغياب الفادح لـ"اتحاد التشكيليين السوريين"، الذي كان من الممكن أن يحتوي أعمال هؤلاء، وأن يقوم بدور إيجابي في جمع الأعمال الفنية، وبيعها للتبرع بريعها للمتضررين".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في المقلب الآخر اختط بعض من المثقفين والفنانين السوريين منحى مغايراً تماماً، بحيث تحول العديد من صفحاتهم وحساباتهم الشخصية إلى ما يشبه غرف عمليات صغيرة لإطلاق حملات لتوزيع حليب الأطفال والأغذية والمواد الإغاثية للمتضررين. وأطلق كل من الكاتب رواد العوام والشاعرة عبير سليمان عبر منصة "جدل" أسماء شعراء سوريين على هذه الحملات، وخصصا يوماً لحملة تبرع بحليب للأطفال والأدوية المجانية في مدينة حلب باسم الشاعر شوقي بغدادي، وحملة أُخرى للتبرع بالأغطية والمواد الغذائية في مدينة جبلة باسم الشاعر عادل محمود.
المخرج السينمائي جود سعيد أسهم بدوره بإطلاق حملة بعنوان "بلد واحدة، يد واحدة" محيلاً حسابه الشخصي على "فيسبوك" إلى ما يشبه منصة لإطلاق نداءات إغاثة للمتضررين وجمع التبرعات. يقول سعيد في حديث لـ"اندبندنت عربية": "لا تستطيع أن تدّعي أنك تقدّم فناً أو عملاً أدبياً يعكس واقع الناس، وعندما يصابون بمصيبة تقوم بالاختفاء. تحية لكل فنان وأديب ومثقف، خارجاً وداخلاً، لم يتوقف عن الفعل علناً، فالهوية السورية ما زالت قائمة. وإن كانت أصيبت في السنوات الماضية بضرر كبير، لكنها ما برحت تحمل عناصر وحدة هذا الشعب. نعم الجيل الشاب منتم، ولديه حسّ المسؤولية. والحبّ والمشاعر الطيبة حرّكت الناس لتسند بعضها. بعضاً لكن الإعلام والصورة وصناعتها لدينا كعلاقة أبي جهل بالإسلام، فحتى هذه اللحظة لا نعرف كسوريين على من تقع المسؤولية، فما من أحد يخاطبنا، والشعب السوري عموماً ، لا يملك مصدراً رسمياً للمعلومة، وهذه كارثة بحد ذاتها. وكل من يقول الإعلام الرسمي نقول له: شرّف واسأل الناس. فلم نستطع حتى الآن أن نحصل على صورة أو لقطة إنسانية عالية. لماذا؟ إننا نخسر الذاكرة في كل لحظة. نخسر وبقوة، فالصورة المؤثرة تأتي من حيث لا علاقة لها بالإعلام الرسمي".