في موسم #الأوسكار هذا الذي يتميز بالمفاجآت، بدءاً من الحملة الغريبة التي قادها المشاهير كي تحصل #أندريا_رايزبورو على ترشيح لجائزة أفضل ممثلة، ووصولاً إلى ترشيح بول ميسكال البالغ من العمر 26 سنة عن فيلم "أشخاص عاديون" (Normal People)، كانت المفاجأة الكبرى ظهور فيلم لم يهتم لأمره أحد منذ أشهر خلت.
أطلق فيلم "كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" (All Quiet on the Western Front) على نتفليكس في أكتوبر (تشرين الأول) بلا ضجة تذكر. وبدا كأنه ينتمي إلى تلك الأفلام العشوائية الغريبة التي تعرض صباح يوم جمعة ولا يشارك فيها أي نجوم فعليين ولا تتوقع منها الشركات الشيء الكثير (أو هكذا بدا)، لكن ها نحن اليوم نقف أمام فيلم حصل على أكبر عدد من الترشيحات لجائزة الأكاديمية البريطانية (البافتا)، من أي فيلم آخر هذا العام (14 ترشيحاً). وهو مرشح لنيل تسع جوائز أوسكار- أي إنه يحل في المرتبة الثانية بعد "كل شيء، في كل مكان، في آن واحد" (Everything Everywhere All at Once).
يمثل "كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" أفضل فرصة لنتفليكس بالفوز بجائزتها الأولى في الأوسكار عن فئة أفضل فيلم منذ فيلم "روما" الصادر في عام 2018. وهي جائزة ترغب خدمة البث بالحصول عليها بشدة، بعد أن جربت كل ما بوسعها خلال السنوات الماضية: من مسايرة فيلم "الإيرلندي" (The Irishman) الذي يمتد ثلاث ساعات ونصف الساعة لمخرجه مارتن سكورسيزي، إلى طلب مساعدة النجمين آدم درايفر وسكارليت جوهانسون اللذين يحبهما النقاد، في فيلم "قصة زواج" (Marriage Story). وهذا العام، ضخت ملايين الدولارات في حملات التسويق لأفلام شاهدتموها (مثل "غلاس أونيون: أخرجوا السكاكين" Glass Onion: A Knives Out Mystery) وأخرى لم تشاهدوها بالتأكيد (ضجة بيضاء White Noise، بالكاد سمعنا به). حتى الطاقم الذي عمل في فيلم "كل شيء هادئ..." يكاد لا يصدق ما يجري. ويقول لي فيلكس كامرير، بطل الفيلم المذهول، خلال اتصال معه عبر "زوم" من منزله في فيينا "حقيقة أنا لا أستوعب ما الذي يحصل في الوقت الحالي. من المذهل كلياً أن أرى شيئاً يسلك مساراً كهذا الآن بعد أن كنت آمل فقط في أن يكون عملاً جيداً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يروي فيلم "كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" المقتبس من رواية مشهورة لإريك ماريا ريمارك، صدرت في عام 1928 وتحمل العنوان نفسه، حكاية بول باومر (يلعب دوره كامرير)، الجندي الألماني الشاب والساذج إلى أبعد الحدود. بسبب توقه الشديد إلى الانضمام لأصدقاء المدرسة في ساحة المعركة، يكذب في شأن حصوله على موافقة والديه ويسير كالأعمى نحو جحيم الجبهة الغربية. تبدأ أحداث الفيلم في عام 1917، حين كانت ألمانيا تتلقى الضربة تلو الأخرى من محور الحلفاء بعد تلقيه الدعم من أعداد ضخمة من الجنود الأميركيين. فوراً، ينفجر الوهم الذي خلقته البروباغندا بفوز الألمان الوشيك، ويواجه بول فظائع حرب الخنادق.
باع هذا الكتاب الذي يعد أكثر الروايات الألمانية مبيعاً على الإطلاق، 20 مليون نسخة حول العالم على رغم تحرك النازيين بسرعة لمنع تداوله. وليس من المفاجئ أنهم دعوه "بروباغندا مناهضة للحرب" وحرقوا آلاف النسخ منه كذلك، مما أرغم ريمارك على الهرب من البلاد، حفاظاً على حياته. "ضغط هائل"، بهذه الكلمات يصف المخرج إدوارد بيرغر عبر اتصال زوم تصوير النص المؤثر جداً. وقد شاركه في حمل هذا العبء الكبير كامرير الذي لم يسبق له أن لعب دوراً في فيلم. الممثل المسرحي البالغ من العمر 27 سنة اكتشف من قبل منتج فيلم "كل شيء هادئ..." بعد أن أقنعته زوجته أن يشاهد تمثيله على خشبة مسرح "بورغ ثياتر" العريق في فيينا. وقد عرض عليه فوراً أن يقدم تجربة أداء. ويقول بيرغر عن بطل الفيلم "إنه يحمل الفيلم كالحمل الثقيل. هي وظيفة عليك تأديتها وهكذا يتصرف فيلكس".
إن أداء كامرير المذهل لدور بول سبب آخر من أسباب نجاح "كل شيء هادئ..." مع النقاد. فوجهه يلفتك بشكل خاص- نحيل لكنه مشرق، ولديه عينان واسعتان- فتشعر أنه نحت تحديداً للتمثيل في دراما عن الحرب. إنه أشبه باللوحة البيضاء التي تأتي وحول ميدان المعركة ودماؤها لتلطخها. ركض الشاب 10 كيلومترات يومياً لمدة ستة أشهر وهو يلبس سترة مثقلة بالأوزان استعداداً لأداء دوره في الفيلم، كما تعمق في أرشيف المكتبة البريطانية وقرأ أكثر من 2500 رسالة كتبها الجنود في الجبهة. حتى إنه حضر مقابلات مع قتلة لمحاولة فهم المشاعر التي قد يولدها قتل شخص ما.
كما أنه إنتاج ضخم بالنسبة إلى ممثل يظهر للمرة الأولى على الشاشة الكبيرة. أما ميزانية الفيلم التي بلغت 20 مليون دولار (16.6 مليون جنيه استرليني) فتجعله من أكبر الأفلام ألمانية الإنتاج. ويقول كامرير "أن تقف وسط حقل مساحته 30 فداناً مع 2500 ممثل إضافي… تشعر فجأة كيف سيكون الفيلم". لأنه ممثل مسرحي مخضرم، لم يكن مستعداً لتصوير مشاهد من دون ترتيب زمني. لذلك، وضع استراتيجية عادية جداً تساعده على تتبع رحلة بول، وهي استراتيجية قد يمتنع معظم الممثلين عن الكشف عنها: جدول على برنامج إكسل.
ويقول مبتسماً "تبدو أشبه باستمارة الإقرار الضريبي". ويحاول أن يجد ورقة مطبوعة من الجدول، فيبحث بتأنٍّ بين السيناريوهات ودفاتر القصاصات التي تملأها أوراق ملاحظات صغيرة. يقسم جدول كامرير كل لحظات الفيلم إلى ثلاث فئات، ترتبط كل منها بشعور معين "خوف من الموت"، و"استعداد للقتل"، و"نبض قوي". ويقول إن الفئات الثلاث بلغت ذروتها معاً مرة واحدة في الفيلم. وقد تأثر بها لدرجة أنه لا يزال يتذكر رقمه "المشهد 95". في هذا المشهد، يشعر بول بندم عميق بعد طعنه جندياً فرنسياً. وعبثاً يحاول أن ينقذه. نتابع الأحداث بألم فيما يموت الرجل ببطء وبشكل بشع وسط الطين فيما تنهمر دموع بول عليه.
لن يغيب عن المصوتين في أكاديمية الفنون بأن المشاهد المماثلة أصبح لها وقع جديد بسبب الحرب في أوكرانيا التي تزامنت مع إطلاق الفيلم العام الماضي. ويعلق كامرير بقوله "إن صور أوكرانيا تبدو تماماً كصور الحرب العالمية الأولى. هو الطين نفسه والخنادق نفسها… وهذا الأمر مؤلم تماماً".
عرض الفيلم في بعض دور العرض المختارة لمدة أسبوعين قبل أن ينتقل إلى منصة نتفليكس في 28 أكتوبر حيث ظل يحتل موقعاً في قائمة أكثر 10 أفلام مشاهدة حول العالم لمدة 11 أسبوعاً. ويشكل نجاحه أيضاً دليلاً على تقبل الجماهير الناطقة بالإنجليزية بشكل متزايد لعروض ناطقة بغير الإنجليزية - ومن الأمثلة الواضحة على ذلك "لعبة الحبار" (Squid Game) على نتفليكس وفيلم "طفيلي" (Parasite) للمخرج بونغ جون-هو الحائز على جائزة أفضل فيلم لعام 2020. ويشرح بيرغر بأنه "من غير المنطقي تماماً أن نصور هذا الفيلم بالإنجليزية. إنها رواية ألمانية كتبت باللغة الألمانية ويجب أن ترويها مجموعة من صناع الأفلام الألمان بلغتنا".
وفي الحقيقة، صدر فيلم "كل شيء هادئ..." مرتين قبلاً بالإنجليزية. المرة الأولى كانت فيلم لويس مايلستون الحائز على جائزة أفضل فيلم في عام 1930، والثانية فيلم ديلبرت مان الذي صوره للتلفزيون في 1979 وحاز على جائزة غولدن غلوب. بصفته ألمانياً. يقول بيرغر إن "خبرته" في الموضوع المطروح هي السبب الرئيس الذي دفعه إلى إعادة إخراج الفيلم. ويقول "للأسف ألمانيا لديها تاريخ في إشعال حربين عالميتين، هذا أمر متوارث. يمكننا أن نضع هذه البصمة الوراثية في الفيلم".
على رغم وفائه للنص بشكل عام، أدخلت نسخة بيرغر إلى القصة شخصيات جديدة وأزالت أخرى وأضافت حبكات ثانوية جديدة. ولهذا السبب إجمالاً، لم يحتف به النقاد الألمان كما احتفى به النقاد في الخارج. لفتت صحيفة "سودويتش زيتونغ" التي تتخذ من ميونيخ مقراً لها، كما غيرها من وسائل الإعلام المحلية، إلى أن سمعة الكتاب قد استغلت بشكل سيئ لوضع "فيلم يكون طعماً لجائزة الأوسكار". وكتب ناقد الأفلام الغاضب في الصحيفة "148 دقيقة من فن الحرب الهابط الأشبه بالأفلام التجارية الرائجة يحمل عنواناً معروفاً حول العالم ويضمن للفيلم التقدير والمبيعات الجيدة. وربما جائزة أوسكار حتى". لا يهتم بيرغر كثيراً لهؤلاء النقاد. ويقول في رده على الموضوع "إن الألمان يشككون دائماً في الطموح. كلما جربت شيئاً مختلفاً قليلاً عن العادة، يقلقون".
يتمتع فيلم "كل شيء هادئ..." بفرصة حقيقية في حفل توزيع جوائز الأوسكار الخامس والتسعين يوم 12 مارس (آذار) كي يحقق إنجازاً تاريخياً باعتباره أول رابح بجائزة أفضل فيلم في نتفليكس. عندما أذكر هذا الاحتمال أمام كامرير، يسارع أحد متخصصي التسويق في نتفليكس ليخبرني بأن خدمة البث لم تفشل كلياً في الأوسكار حتى الآن: فاز فيلم "روما" بجوائز عن ثلاث فئات من بينها أفضل إخراج لألفونسو كوارون، لكن مرشحهم الأخير يواجه منافسة شديدة من فيلم "كل شيشء في كل مكان في وقت واحد"، وفيلم "جنية إنيشيرين" (The Banshees of Inisherin) لمارتن ماكدوناه و"عائلة فابلمان" (The Fabelmans) لستيفن سبيلبرغ. مهما تكن النتيجة، يرفض كامرير القلق على احتمالات نجاح فيلمه. يقول "سأكون موجوداً لكي أشعر بالامتنان والسعادة والذهول- ما عساك تفعل بتسع جوائز أوسكار على أي حال؟".
أنا متأكد بأن نتفليكس تملك جواباً عن هذا السؤال.
"كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" يعرض الآن على نتفليكس ويمكن مشاهدته في دور سينما محددة
© The Independent