لكونها الجنس الأدبي الأكثر انفتاحاً على غيره، كانت الرواية وسيلة كثيرين من #الكتّاب للولوج إلى دروب بعيدة من التاريخ، ربما تعبيراً عن الحاجة الدائمة إلى استعادة الماضي وإعادة تأمله، لا سيما أن #الحياة لا تنفك تعيد الوجوه والأحداث والخطايا، ولا تنفك تأتي بأيام وليالٍ أشبه ما تكون بالأمس والبارحة. "أسير البرتغاليين، حكاية الناجي" (دار ميم – الجزائر)، سلكت المسلك نفسه، إذ عمد كاتبها المغربي محسن الوكيلي إلى الانتقال لحقبة من تاريخ المغرب، شهدت أحداثاً جسيمة، تنوعت بين جوع وقحط ووباء، وبين مطامع عثمانية وبرتغالية أسفرت عن حروب ومعارك ومواجهات، أسهمت بدورها في إعادة كتابة تاريخ هذه البقعة من العالم.
ومن ثم مزج الوكيلي بين ما ساقه من أحداث واقعية وشخوص حقيقية، وما نسجه من مساحات واسعة من التخييل. وعلى رغم تنوع شخوص الرواية بين مغاربة وأتراك وبرتغاليين، وما أتاحه هذا التنوع من ثراء للنسيج الروائي، فإن الكاتب اتخذ من مدن المغرب فضاء مكانياً للأحداث، يتسق مع القضايا المحلية التي أراد إضاءتها، فتوزع السرد بين فاس والحصن وآسفي ومراكش ومكناسة وتارودانت وسجلماسة والقصبة.
تحيل بداية السرد إلى نظرية الصدمة، فقد قرر الكاتب أن يبدأ رحلته السردية بصوت الأسير المغربي لدى جيش البرتغاليين في الحصن، والذي استعاد ماضيه كاشفاً عن كونه الناجي الوحيد من بين سبعة أطفال، ذبحهم أبوهم في قبو بيته، لعجزه عن إطعامهم -في زمن القحط والوباء- بعد أن ماتت زوجته جوعاً.
السرد مقابل الحياة
تدفق السرد في نسق أفقي عبر راوٍ عليم. وتخللته ومضات من الفلاش باك، وجدت طريقها عبر الديالوغ المسرحي، الذي دار بين "الناجي" و"بيدرو". وعبر الحوار نفسه أخذ "الناجي" مقعد شهرزاد "ألف ليلة وليلة"، فكانت حكايته سبباً في منحه مزيداً من الوقت حياً، على رغم موت كل من كانوا معه في كتيبة الإعدام، بينما جلس "بيدرو" في مقعد شهريار يستمع للحكاية، ويقرر إرجاء قتل الناجي رغبة في استماع المزيد. هذه اللعبة التي تحمل في نهايتها احتمالات الحياة أو الموت، أطلت برأسها في كل زاوية من النسيج، لا سيما مع تعدد أشكال الصراع الذي اندلع بعضه بين الشخوص وطبيعة غاضبة، تجلى غضبها في ما دفعت به من جوع وقحط ووباء، فحصدت ما حصدت من الأرواح، بينما تجسد بعضه الآخر عبر الحروب، التي نشبت بين السعديين والمرينيين، من أجل حكم المغرب والاستحواذ على السلطة، وبين السعديين والعثمانيين طمعاً في السيطرة على المغرب الأقصى، وإنهاء كل طرف نفوذ الطرف الآخر، وبين السعديين والبرتغاليين، الذين أرادوا السيطرة على المغرب لتأمين طرق التجارة إلى بلاد التوابل والعبيد.
وعلى مستوى العامة تجلى الصراع بين بعضهم بعضاً، على الطعام والمال وأيضاً على الثأر والنساء، والعقيدة. أما الصراع في العوالم الداخلية للشخوص فقد تجلى مراراً مضيئاً تناقضات النفس الإنسانية، وتراوحها بين خيرها وشرها، نوازعها الرديئة وجوانبها الطيبة، الإنصات لصوت الضمير والانزلاق إلى بئر الخطيئة، لذا لم تتورع "أم الغيث" التي أحبت زوجها من خيانته كي تحظى بالأمومة، وتزيل شجون زوجها وتزيد من تعلقه بها. ولم يتورع "العياط" الذي أحاط "غيثة" بأبوته أثناء غياب زوجها عن اشتهائها، ولم يمنع حب "الناجي" زوجته من معاشرته امرأة أخرى.
واتسقت رغبة الكاتب في سبر أغوار النفس الإنسانية وتعرية تناقضاتها وانقساماتها وما يعتمل في عوالمها الداخلية، مع استخدامه المونولوغ الداخلي وتيار الوعي، ومثلما أضاء تناقضات النفس الإنسانية أضاء كذلك تناقضات المدينة التي تناوب عليها النظام والفوضى، العلم والجهالة، الإيمان والمجون، الكد واللهو، وكذا تقلبات الطبيعة التي جعلت من أرض واحدة صحراء قاحلة في زمن، ووادياً خصيباً في زمن آخر، وعبر هذه التقلبات بدا التحول تيمة رئيسة للطبيعة والفضاءات المكانية وللشخوص أيضاً، فالأب الطيب الذي نزل البئر لينقذ قطة استحال إلى شيطان وذبح أبناءه تحت وطأة الجوع. و"الناجي" المسالم ثار على البرتغاليين انتقاماً لمقتل قرده، والعامة الموالون لحكامهم تحول ولاؤهم للحكام الجدد بعد أن دخلوا مدنهم منتصرين.
المرأة والحب
عبر ما أتاحه الكاتب للمرأة داخل النص من أدوار أسهمت بشكل مباشر في تحريك الأحداث، مرر رؤاه التي وضعتها في مكانة الوطن، فالابتعاد عن كليهما غربة، وضياع أي منهما شتات، فحين ماتت "نعيمة" أفرج "إبراهيم" عن شيطان يأسه وأقدم على ذبح أبنائه. وعندما رحلت "أم الغيث" أصبحت نوائب الدهر أشد وطأة على زوجها، وحين رفضت "صوفي" عودة القبطان استسلم راضياً للموت. وقد أبرز الكاتب تماثلاً بين المرأة والأرض، وبين الحب والماء. فالأرض بلا ماء تجف وتتشقق، والمرأة بلا حب تتيبس وتبور. هكذا أعلى الوكيلي من قيمة الحب وأثره، فجعل منه زاداً للأيام الصعبة وطاقة تسرب منها الأمل إلى "الناجي" في محبسه، وإلى "غيثة" في محنتها، وإلى "أيهم" العالق في حرب لا تعنيه، وإلى "أحمد السبتي" في رحلته الشاقة للثأر من قاتل معلمه، وكان كذلك نجاة للأسير من القتل، وعتقاً لـ"صوفي" من مصير السبي والبيع في أسواق النخاسة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والحب في النص لم يكن من نصيب الشخوص وحسب، وإنما كان أيضاً للبيوت وللمدن، التي مارست سحرها وغوايتها، فدفعت "بيدرو" إلى التمسك بالحصن ورفض الجلاء عنه، على رغم تغير ميزان القوة لصالح السعديين، ودفعت "البشير" وصديقه "أحمد السبتي" إلى الافتتان بمدينة فاس... "فاس وجدت منذ الأزل، فكر البشير في صباه، ومنها تناسلت المدن ونشأ العمران في بقية الأرض. مثل حواء فاس هي الأم" (صـ93).
وعبر تجسيده فتنة الأماكن مرر الكاتب بعض الرؤى الصوفية التي تدرك السعادة بعيداً من الملك، والسلطان والقصور... "اكتشف أن الجمال يسكن بعيداً من زعيق المدن، وهرج الأسواق وبذخ قصور السلاطين، شرب من مياه ينبوع أسفل جبل، ماء لم يتذوق مثله، وبات في كوخ راعي غنم... اطمأن لسرير القش، وشعر بالدفء محاطاً بخراف القطيع".
من الموروث الشعبي
استدعى الوكيلي في رحلته السردية صوراً متنوعة من الموروث الشعبي المغربي، يتصل بعضها بالزي مثل البرنس، ويتصل بعضها بالأكلات التقليدية مثل "الرفيسة"، وهي نوع من الثريد يعد من الدجاج ونتف الخبز المسقي بمرقه والحلبة والفول اليابس والعدس والبصل، كما استدعى من التراث المغربي بعض المهن الشعبية مثل مهنة الحكاء وتدريب القرود للتكسب منها، ووظفها في خدمة الأحداث، فكان مقتل القرد "همام" دافعاً إلى محاولة "الناجي" الانتقام له، مما تسبب في وقوعه في الأسر. كذلك استدعى عادات النساء في ارتياد الحمامات الشعبية، وبعض الاعتقادات مثل التفاؤل بفيض وانسكاب الحليب من الطست، وكذلك اللجوء إلى السحر والتنجيم، إضافة إلى موروث من العلاقات الاجتماعية الوثيقة التي تتصل بالجيرة، والتي كانت تدفع جاراً إلى كفالة جارة بلا زوج والذود عنها. وإلى جانب الموروث طعم الكاتب نسيجه ببعض المفردات المحلية واللهجة العامية المغربية، التي أنعشت السرد وزادت من واقعيته وصدقيته: "فين الناجي يا خاي؟ علاش رجعت وحدك؟" (صـ67).
مقارنات ومفارقات
عقد الكاتب مقارنات بين الشرق والغرب، مررها عبر نسيجه صراحة، ليفسر الهوة بين الجانبين والتي اتسعت لصالح الغرب... "يلاحظ رضوان ذلك الفرق الذي ما فتئ يتعاظم بين العالمين، أول غربي يجيد البناء، ويتقن الصنائع ويبدع العجائب، وثان شرقي يتراجع إلى الخلف ويغرق أكثر في صراعات الحكم والقبيلة والعرق وأحكام الطهارة وأنواع النكاح"، لكنه مرر بالمقابل مقارنات أخرى -ضمناً وصراحة- كانت في صالح الرجل العربي، أبرزت قوته ومروءته وشجاعته. أما المفارقات التي بدت عبر الأحداث فدارت في فلك فكرة رئيسة هيمنت على النص، وتشي بعجيب صنع القدر في ما يتصل بالحياة والموت، فـ"الناجي" ظفر بالحياة على رغم ملاحقة الموت له، مرة بالجوع ومرة بالوباء ومرة بالذبح ومرة بالأسر. و"أحمد السبتي"، الذي نجا من معارك شداد قتله قاطع طريق، و"أيهم" التركي الذي تركه رفاقه -نكاية- في قلب الخطر نجا وحيداً، بينما حصد الموت رقابهم جميعاً. ووشت تلك المفارقات برؤى الكاتب حول حياة لا تنفك تعيد تدوير الدهشة، وتجافي المنطق، وتواصل إنتاج المفاجآت.