أوصلت حرب أوكرانيا، منظومة #العقوبات الغربية الأميركية والأوروبية ضد روسيا إلى مستويات غير مسبوقة بالنسبة إلى دولة كبرى، فقد استهدفت الأفراد والمؤسسات وشملت مجالات متعددة من التجارة و#البنوك والنقل والطيران والفضاء، إلى الطاقة والتكنولوجيا ووسائل الإعلام.
فهل أثبتت العقوبات فعاليتها في التأثير على الطرف المستهدف وفي أن تكون ذراعاً سياسية لمن يفرضها، وهل أرهقت العقوبات روسيا أم إنها تمكنت من التغلب عليها والالتفاف حولها، وإلى أي مدى لا تزال أميركا والغرب عازمين على استمرار استخدام سلاح العقوبات أم أن لديها حدوداً وحسابات؟
سلاح قديم جديد
على مدار حقبة الهيمنة الأميركية التي ازدهرت منذ الحرب العالمية الثانية وحى الآن، أنشأت واشنطن قدرة غير مسبوقة على إلحاق الأذى بما تعتبره جهات فاعلة مارقة في النظام الدولي، إذ يمكن لمجموعة أدواتها الخاصة بالعقوبات والتدابير من الدرجة الثانية والثالثة أن تعزل البلدان أو الشركات عن التجارة العالمية، ويمكن أن يكون لهذه القوة بالتوازي مع جهود شبكة من حلفائها، تأثيرات عميقة على الجغرافيا السياسية وسلوك الدول؟
ولكن على النقيض من ذلك، إذا أفرطت الولايات المتحدة في استخدام قدرتها على معاقبة دول أثقل وزناً، فإن فعالية هذه الإجراءات يمكن أن تتآكل، حيث يمكن لبعض
الاقتصادات الكبرى أن تسعى إلى إيجاد بدائل للأنظمة المالية الغربية والدولار الأميركي نفسه.
ومنذ بدأت حرب أوكرانيا قبل عام، شنت الولايات المتحدة وأوروبا وحلفاؤهما عقوبات متصاعدة لإلحاق الضرر بالكرملين، ومع ذلك لم تمنع هذه التحركات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من شن حرب في أوكرانيا، وبدا أن الاقتصاد الروسي سينمو بنسبة 0.3 في المئة خلال العام الحالي 2023، وفقاً لتوقعات من صندوق النقد الدولي، في حين أن دولة مثل المملكة المتحدة شاركت في فرض العقوبات، يتوقع أن ينكمش إجمالي ناتجها المحلي، فهل يعني هذا أن العقوبات لم تنجح؟
الإجابة عن هذا السؤال تبدو متباينة بين الخبراء، فهناك من يرى أن العقوبات لم تحدث تأثيرها المطلوب وأن موسكو تمكنت من استخدام أدوات بديلة خففت من تأثير العقوبات، بينما اعتبر آخرون أن العقوبات أحدثت ضرراً بالغاً في الاقتصاد الروسي وحققت هدفها المنشود، وأن أكبر الأثر سيظهر على المدى البعيد بينما لا تزال في جعبة الغرب كثير من
العقوبات الأخرى التي يمكن أن تزيل من الألم لدى الكرملين، فما أوجه التباين هنا وما الدليل الذي يستند إليه كل طرف في تحليله؟
تأثير محدود
من بين الذين يرون تأثيراً محدوداً للعقوبات الأميركية والغربية، أستاذ التاريخ المساعد بجامعة كورنيل ومؤلف كتاب "السلاح الاقتصادي نيكولاس مولدر: صعود العقوبات كأداة للحرب الحديثة"، الذي يرى أن العقوبات التي استهدفت شل الاقتصاد الروسي لم تنجح، لأن موسكو تعلمت من الغرب كيفية محاربة
الأزمات المالية واستخدمت صندوق الأدوات الذي مكنها في النهاية من تجنب أزمة مالية واقتصادية كبيرة.
وفي عام من الاضطرابات الاقتصادية العامة التي تعافت من الوباء، أعطى موقع روسيا كمصدر كبير للسلع الأساسية قدراً معيناً من النفوذ على البلدان الأخرى، وأبرمت اتفاقات تجارية أكثر مما توقع الغرب، ووجدت قنوات خلفية لتلك التجارة، ما يفسر كثيراً من الأسباب التي جعلت العقوبات تعمل بكفاءة أقل مما كان متوقعاً.
ومع تكيف روسيا مع العقوبات ودخول الحرب إلى عامها الثاني وتحولها إلى معارك استنزاف، فقد تصبح العقوبات حملة طويلة الأمد لجعل الأمور صعبة على روسيا، لكن ذلك قد يتطلب من الولايات المتحدة والغرب فرض مزيد من العقوبات حتى تنجح العقوبات.
إعادة توجيه الاقتصاد
وفي حين كان يفترض أن تؤدي العقوبات الأوروبية والأميركية المشددة، إلى عزل الاقتصاد الروسي، إلا أن نصف العالم لم يشارك في هذه الإجراءات، ما جعل الواقع دائماً أكثر تعقيداً بينما عادت روسيا إلى الوسائل البدائية للتغلب على العقوبات، حيث أسهم التجار في الدول الصديقة لروسيا مثل تركيا وكازاخستان والهند والصين في تسهيل استيراد البضائع التي تحتاج إليها البلاد مقابل ثمن.
بلغت عائدات صادرات النفط الروسية 12.6 مليار دولار في ديسمبر الماضي (أ ف ب)
ومع انتهاء الخريف الماضي تجاوزت
الواردات الروسية بالدولار متوسط قيمتها الشهرية لعام 2019 وفقاً لمجلة "إيكونيميست"، واستحوذت هذه البلدان أيضاً على حصة كبيرة من صادرات المواد الخام التي كانت روسيا ترسلها إلى أوروبا وبخصومات كبيرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وسمح ذلك للكرملين تجنب كارثة اقتصادية، حيث تراجع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 2.2 في المئة فقط العام الماضي، محطماً توقعات عديد من الاقتصاديين خلال ربيع 2022 بانخفاض قدره 10 في المئة أو أكثر، بينما لا تزال البطالة منخفضة، وتوقفت أسعار المساكن عن الارتفاع، ولا يوجد ما يشير إلى حدوث انهيار، كما أن تراجع إنفاق المستهلكين لم يضغط بدرجة كبيرة على الاقتصاد، الأمر الذي فشل في إعاقة جهود الرئيس فلاديمير بوتين الحربية في أوكرانيا.
دور التكنوقراط
وعلاوة على ذلك، وفرت عزلة روسيا الفرصة لفرض حزمة من الإجراءات المتطرفة التي أدخلها التكنوقراط الروس لتحقيق الاستقرار في الاقتصاد خلال الأشهر التي أعقبت الهجوم الروسي على أوكرانيا، فقد كانت الشركات الأوروبية والأميركية تمتلك استثمارات مباشرة في روسيا تبلغ قيمتها نحو 350 مليار دولار.
لكن مرسوماً صدر يلزم الشركات الغربية بإغلاق أبوابها في روسيا للحصول أولاً على تصريح، ويمكنهم بعد ذلك بيع أصولهم فقط بالأسعار التي تحددها الحكومة، التي كانت تقل النصف أو أكثر من قيمتها السوقية، وبهذا نجح التكنوقراط بشكل أفضل بكثير مما كان يأمل الغرب، فقد منع هؤلاء البنوك من السقوط في أزمة مالية كاملة وتمكنوا من السيطرة على التضخم.
وبغض النظر عن مقدار الضرر الذي يمكن أن يلحق بالاقتصاد في زمن الحرب، فإن الطبقة الحاكمة تدرك أنه لا عودة إلى الوراء، خصوصاً مع استمرار وجود الرئيس بوتين في الحكم، الذي أعلن أنه لن تكون هناك حدود للموارد المتاحة للقوات المسلحة الروسية، ما قد يعني خفض الإنفاق من الميزانية في مكان آخر مثل الصحة والتعليم وفقاً للخبيرة الاقتصادية في جامعة موسكو الحكومية ناتاليا زوباريفيتش، وكلما ساءت الأمور، أصبحت الحرب أكثر ضرورة كما يقول أحد كبار الموظفين السابقين في موسكو.
ارتباك أهداف العقوبات
لكن في حين تعالت أصوات كثير من السياسيين في أوروبا وبخاصة من اليمين المتطرف واليسار المتطرف بأن الأوروبيين فقط هم أكثر المتضررين بالعقوبات التي لا تؤذي روسيا ولم تمنع الرئيس بوتين من تصعيد هجماته على أوكرانيا، فإن هناك في المقابل من يرى أن الأشخاص الذين يزعمون أن العقوبات غير فعالة مخطئون، لأن العقوبات تضغط بالفعل على قدرة موسكو على شن الحرب، وهذه ليست سوى البداية حيث تعد العقوبات بمثابة سباق ماراثون طويل الأمد أكثر منه سباقاً قصيراً أو سريعاً، ولهذا ستزداد فعالية العقوبات بمرور الوقت.
وتقول مديرة التنبؤات العالمية في مركز المعلومات الاقتصادية أغاثا ديماراي، إن الارتباك حول فعالية العقوبات ينبع من عدم وضوح أهدافها، إذ لم تنو الدول الغربية أبداً استخدام العقوبات لإجبار بوتين على التراجع والانسحاب من أوكرانيا، كونهم يعلمون أن بوتين يعتقد أنه يشن حرباً من أجل بقاء روسيا ضد الغرب المنحل، كما أن هدف العقوبات لم يكن التحريض على تغيير النظام في موسكو، لأن العقوبات المفروضة على كوبا وكوريا الشمالية وسوريا تظهر أن هذا لا ينجح أبداً، ولا يوجد سبب للاعتقاد أن خليفة بوتين المفترض يمكن أن يغير المسار في أوكرانيا.
بدأ الحظر الأوروبي على استيراد المنتجات النفطية الروسية مطلع فبراير 2023 (أ ف ب)
وإضافة إلى ذلك، ليس الهدف من العقوبات هو إحداث انهيار للاقتصاد الروسي على غرار فنزويلا، لأن ذلك إما أن يكون مستحيلاً عندما يكون الهدف هو الاقتصاد الـ11 في العالم أو لأن انهيار اقتصاد روسيا يعني دخول الاقتصاد العالمي في حالة ركود بسبب التوقف المفاجئ لصادرات كثير من السلع الروسية، بما في ذلك الحبوب والأسمدة والطاقة والمعادن.
العقوبات مثمرة
وعلى رغم أن أهداف العقوبات الغربية على روسيا، لم تذكر صراحة، فإن حزم العقوبات التي نفذتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلفاؤهما تشير إلى أن لديهم ثلاثة أهداف بحسب أغاثا ديماراي، أولها أن الدول الغربية تحاول إرسال إشارة قوية بالتصميم والوحدة إلى الكرملين، وثانيها أن الدول التي تفرض العقوبات تأمل في إضعاف قدرة روسيا على شن الحرب، وثالثها أن الغرب يراهن على أن العقوبات ستخنق الاقتصاد الروسي ببطء، وبخاصة قطاع الطاقة في البلاد، وعند الحكم على أساس هذه المعايير، سيكون من الواضح أن العقوبات تعمل وتثمر.
ومن ناحية أخرى، أثبت التعاون عبر الأطلسي في شأن العقوبات قوته خلال العام الماضي، مع وجود القليل من الخلافات بين واشنطن والعواصم الأوروبية، وأدى هذا إلى إرباك توقعات بوتين المحتملة بأن الغرب سيظل ضعيفاً ومنقسماً.
في المقابل، إن الهدف الرئيس للعقوبات، إضعاف قدرة روسيا على شن الحرب، حيث دفعت الاقتصاد الروسي إلى ركود، حيث كان الناتج المحلي الإجمالي لروسيا أقل بنسبة 4.4 في المئة مما كان عليه في الشهر نفسه من عام 2021 وكان الإنتاج الصناعي، بما في ذلك استخراج النفط والغاز، أقل بنسبة ثلاثة في المئة مما كان عليه في عام 2021، كما انهارت تجارة التجزئة بنحو 10 في المئة على أساس سنوي وكانت الأمور ستكون أسوأ بكثير بالنسبة إلى الكرملين إذا كانت أسعار الطاقة في متوسطها التاريخي.
وتشير البيانات الخاصة بقطاع السيارات التي تعتبر رائدة في اقتصاد روسيا إلى أرقام مقلقة، حيث خفضت شركات السيارات الروسية الإنتاج بنسبة 64 في المئة مقارنة بعام 2021 بسبب نقص الطلب ونقص المكونات المستوردة.
معادلة مستحيلة
وفي مواجهة هذا الوضع الاقتصادي الصعب، ستحتاج موسكو إلى حل معادلة مستحيلة لتمويل الحرب في أوكرانيا مع الحفاظ في الوقت نفسه على الدعم الاجتماعي بما يكفي لتجنب الاضطرابات الاجتماعية التي قد تجعل الكرملين على المحك، ولن يكون هذا بالأمر الهين إذا حدثت تعبئة عسكرية ثانية لجنود الاحتياط، وعلى رغم من أنه لا يزال لدى الكرملين احتياطات مالية، لا سيما من صندوق ثروته السيادية، فإنه من دون تجديد الموارد، فمن المحتمل أن تجف في مرحلة ما.
ومع اتساع مدى العقوبات الغربية من المجال الاقتصادي إلى القطاع التكنولوجي، يصبح لدى الولايات المتحدة ورقة رابحة في جعبتها، إذ إن جميع رقائق أشباه الموصلات المتقدمة المستخدمة في المعدات الإلكترونية والعسكرية، مصنوعة باستخدام تكنولوجيا الشركات الأميركية، ومع فرض واشنطن ضوابط على الصادرات تحد من وصول روسيا إلى هذه الرقائق، تواجه موسكو مشكلة ملحة، ليس فقط لأن الصواريخ الروسية مليئة بأشباه الموصلات التي لا تستطيع الدولة صنعها بنفسها.
ولكن أيضاً لأنه في مواجهة انخفاض بنسبة 90 في المئة من واردات الرقائق الدقيقة، يحاول الكرملين إنشاء شبكات تهريب أشباه الموصلات، لكن من المحتمل ألا يكون أي تسرب للرقائق كاف لروسيا لتجديد مخزونها من الصواريخ، بخاصة إذا استمرت الحرب بلا هوادة في الأشهر المقبلة.
أما الهدف الثالث والأخير للعقوبات فهو الخنق البطيء طويل الأمد للاقتصاد الروسي، حيث تسعى واشنطن وبروكسل إلى تحقيق هذا الهدف من خلال حرمان شركات النفط والغاز الروسية من التمويل والتكنولوجيا الغربيين، وقد يستغرق الأمر عقوداً حتى تنجح.
مزيد من العقوبات
وما يمكن أن يزيد الطين بلة بالنسبة إلى روسيا، أن الدول الغربية لم تستنفد جميع الخيارات في ترسانة عقوباتها، إذ لا تزال تحت تصرفهم ثلاثة إجراءات من دليل عقوبات إيران، فعلى سبيل المثال يمكن لواشنطن وبروكسل فصل جميع البنوك الروسية عن نظام سويفت، الأمر الذي من شأنه أن يضع البلاد في عزلة مالية، ويمكن أن تحظر الولايات المتحدة أيضاً روسيا من استخدام الدولار الأميركي، مما يعقد بشكل كبير صادرات الطاقة.
بينما يبقى الخيار الأقوى مطروحاً، وهو العقوبات الثانوية الأميركية التي تجبر جميع الشركات، سواء كانت أجنبية أو محلية، على الاختيار بين الأسواق الروسية والأميركية، ومن ثم سيكون شراء النفط أو الغاز الروسي محظوراً في جميع أنحاء العالم، مما يضر بشكل خطر بالجوانب المالية للكرملين، ولهذا فإن الأسوأ بالنسبة إلى الكرملين ربما لم يحدث بعد.