حرب سوريا هي "مختبر" التوجّهات في الصراع الجيوسياسي الدائر في الشرق الأوسط وعليه، وكلما طال زمن الحرب، تكشّف أكثر فأكثر نوع الترابط بين الخطوط على الخريطة السورية والخيوط التي تُدار بها اللعبة في الداخل ومن الخارج، فالصراع الإقليمي والدولي المحتدم مع إيران هو في جزء منه صراع على "الجسر السوري" للمشروع الإيراني إلى البحر المتوسط، والخلاف مع تركيا التي لديها هواجس بما تسمّيه "الخطر الكردي" والممتلئة بأوهام السلطنة واستعادة الجغرافيا "من حلب إلى الموصل" هو في جانب منه خلاف مع مشروع الإسلام السياسي الذي سلّحته ودعمته أنقرة في سوريا وبقية بلدان "الربيع العربي" في رهان على أن يحكم الإخوان المسلمون المنطقة بقيادة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
حرب سوريا كشفت بالملموس تراجع الدور الأميركي وخفض أهمية الشرق الأوسط في الاستراتيجية والمصالح الحيوية الأميركية.
وهي أعطت روسيا الفرصة التي استغلّها الرئيس فلاديمير بوتين لاستعادة دور القوة العظمى وفرض المشاركة الروسية في إدارة النظامين الإقليمي والدولي.
وهي كانت أيضاً مسرحاً أعطى حزب الله فرصة لكي يلعب ويكرّس نفسه لاعباً إقليمياً، فضلاً عن أنّ التفاهمات والخلافات والصراعات الثابتة والمتنقلة في لبنان مرتبطة بأمور عدة، بينها المواقف من سوريا ومستقبلها ومعاودة دورها في لبنان.
حرب سوريا أضعفت الجيش المعد لقتال إسرائيل وسمحت للعدو بضمّ الجولان المحتل وللرئيس الأميركي دونالد ترمب بالاعتراف بالضم، وكانت نافذة مفتوحة لتشنّ إسرائيل غاراتها على القوات الإيرانية والميليشيات المرتبطة بها والأسلحة المتطوّرة المرسلة إلى حزب الله.
وبالطبع لمزيد من التفاهم والتنسيق بين موسكو وتلّ أبيب ضمن الحرص الروسي على "أمن إسرائيل" والنظام السوري.
ولكن، ماذا عن الوضع الداخلي السوري في فصول الحرب المتبدلة؟ ماذا بقي من سوريا للسوريين المطلوب "أن يقودوا عملية التسوية السياسية" بحسب البيانات الدولية؟ ما هو مصير نصف السوريين من الذين نزحوا في الداخل ولجأوا إلى الخارج؟ وماذا عن الوضع الإنساني التراجيدي للباقين في بيوتهم والنازحين واللاجئين، إذ تفيد أرقام الأمم المتحدة بأنّ 80 في المئة من السوريين تحت خط الفقر، و70 في المئة منهم تحت خط الفقر الشديد، وأنّ نسبة البطالة وصلت إلى 60 في المئة.
ومن طبائع الأمور في هذا الوضع المعقّد أن تصطدم مساعي التسوية السياسية بجدران الرهانات على الحلول العسكرية والحسابات الاستراتيجية للقوى التي تدير الحرب وتشارك فيها.
وهكذا فشل الموفدون الدوليون كوفي أنان والأخضر الإبراهيمي وستيفان دي ميستورا واضطُروا إلى الاستقالة.
ولا شيء يوحي إلى أن ظروف الموفد الحالي غير بيدرسون أفضل، فهو رأى، منذ البدء، "نصراً عسكرياً ناقصاً لا ترجمة سياسية له"، إذ 60 في المئة من الأرض مع النظام و30 في المئة مع الأكراد و10 في المئة مع تركيا، واعترف بأنّ "جذور الصراع لا تزال موجودة"، بصرف النظر عما حدث في الحرب وتبدّل في المعارك.
وبعد أشهر من الدرس والحوار مع النظام والمعارضين والدوران في عواصم المنطقة والعالم، أحدثها زيارات لموسكو ودمشق وأنقرة، أعلن بيدرسون عن "تقدّم"، بماذا؟ ببداية حلّ الخلاف على ستة أعضاء من أصل 150 عضواً في "اللجنة الدستورية" التي يراها "الباب إلى التسوية"، لكن اللجنة الدستورية التي تتحمّس لها موسكو، تسمّيها دمشق "لجنة مناقشة الدستور"، أي لجنة تنقيح الدستور الحالي لا أكثر، وليس من المفاجآت قول الرئيس السوري بشار الأسد "إنّ الدستور هو مصير البلد وغير خاضع لأي مساومة أو مجاملات، وأي تهاون فيه قد يكون ثمنه أكبر من ثمن الحرب."
والواقع أنّ الحروب التي أساسها صراع على النظام محكومة بفوضى مستمرة أو بواحد من تطوّرين: إما التوصل إلى تسوية تنهي الحرب، وإما أن تنتهي موازين القوى إلى تسوية، لكن حرب سوريا تبدو خارج هذه المعادلة.
فلا نهاية للحرب في المستقبل المنظور، كما توحي مصاعب معركة إدلب. ولا ظروف التسوية ناضجة، ودمشق ليست جاهزة لتسوية كبيرة. والمعارضون ليسوا في موقع القادر على التوصل إلى تسوية كبيرة ولا حتى إلى تسوية جزئية، واللعبة ليست بين السوريين وحدهم.
فماذا عن روسيا وإيران وتركيا وأميركا وسواها؟ وماذا عن التطوّرات التي تجاوزت "مسار جنيف" وتركته وراء "مسار أستانا سوتشي"، والمرشحة لتجاوز المسار الأخير؟
موسكو متفائلة، وهي تتصوّر أنّ معظم اللعبة في يدها.
ومن مهام بيدرسون أن يتفاءل وإلاّ كان عليه أن يستقيل، لكن التراجيديا الإنسانية في سوريا أعمق من التصوّر، ومن الصعب أن تتبلور خطوط الجغرافيا وخيوط التاريخ في المنطقة قبل أن يكتمل المشهد في حرب سوريا.