مع اندلاع "العملية العسكرية في أوكرانيا"، عادت العلاقات بين البلدان السلافية إلى صدارة الجدل الذي لم ينقطع منذ سنوات ما قبل انهيار الاتحاد السوفياتي السابق.
وفي الوقت الذي كان فيه الرئيس فلاديمير بوتين، يواصل تأكيده أن مواطنيه من الروس، شعب واحد مع الأوكرانيين ممن تربطهم معاً كثير من أواصر التاريخ واللغة والعقيدة، كانت بيلاروس تقف على مقربة، تأكيداً من جانبها أيضاً على أصولها السلافية الشرقية التي تربطها بكل من الشعبين "الشقيقين". بيد أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يظل يقف على النقيض من ذلك كله، مؤكداً عدم ارتباط بلاده بأي من روسيا أو بيلاروس بأي أصول سلافية، إلى جانب دحضه لكثير مما كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استعرضه من وثائق وقرائن في مقالته الأكاديمية "الوحدة التاريخية بين الشعبين الروسي والأوكراني" التي نشرها في 12 يوليو (تموز) 2021.
ليتوانيا
وما بين هذا وذاك، يقف التاريخ شاهداً على كثير من الوقائع التي تنطق بغير ما يقوله القادة الأوكرانيون، حيث تؤكد الوثائق التاريخية أن بيلاروسيا كانت تخضع اعتباراً من القرن الثامن وحتى القرن الـ18 لإمارة ليتوانيا، قبل انضمامها في عام 1796 كإحدى "محافظات"، الإمبراطورية الروسية التي كانت تضم أراضي غرب أوكرانيا بعد تحررها من التبعية البولندية خلال الفترة 1772-1795.
وقد ظل الحال على ذلك النحو، حتى إعلان قيام "جمهورية بيلاروسيا الشعبية"، في 25 مارس (آذار) 1918 ضمن أراضي
الإمبراطورية الروسية التي كانت ألمانيا احتلتها إبان سنوات الحرب العالمية الأولى. ويذكر التاريخ في هذا الصدد أيضاً، أن أوكرانيا وعاصمتها خاركوف آنذاك، ارتبطت بالإمبراطورية الروسية لما يزيد على 350 سنة، قبل أن تعود لتعلن استقلالها في ديسمبر (كانون الأول) 1917، بعد انهيار الإمبراطورية الروسية في 20 نوفمبر (تشرين الثاني) 1917.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولم يمض من الزمن سوى بضع سنوات حتى عادت "بيلاروسيا" ومعها الجمهوريتان السلافيتان روسيا وأوكرانيا لتجتمع حول أصولها المشتركة، وتبادر مع جيرانها القوقازيين، في مطلع عشرينيات القرن الماضي إلى لم شمل ما بقي من شتات الإمبراطورية الروسية بإعلانها قيام "اتحاد الجمهوريات السوفياتية الاشتراكية" في عام 1922، الذي دامت مسيرته ما يقرب من 70 سنة.
وما أن سقط بعض أقطاب "هذه الجمهوريات الثلاث" فريسة فكرة التخلي عن هذا "الاتحاد" سعياً وراء مآرب ذاتية "انفصالية" الطابع والتوجه، حتى عادوا إلى الاجتماع حول فكرة "التوحد" ثانية لإعلان سوية خروجهم من ذلك الاتحاد في نهايات عام 1991، مما كان البداية العملية لانفراط عقد "الاتحاد السوفياتي" السابق.
الإرث والمكاسب
ومع الفرقة ظهرت الاختلافات والصراعات على "الإرث والمكاسب"، وما تلاها ويتلوها من اقتتال، يتابع العالم بعضاً من مشاهده في ما يدور اليوم من معارك بين روسيا وأوكرانيا، في الوقت الذي تقف ثالثتهما بيلاروس حائرة بين "أشقاء الأمس"، حتى عادت لتحسم موقفها مع بدايات الأزمة الأوكرانية في عام 2014، من واقع مقتضيات والتزامات ما سبق توقيعه مع روسيا من إعلان مشترك حول "الاتحاد" في الثاني من أبريل (نيسان) 1996. وفي تاريخ مواكب للذكرى الثامنة لتوقيع معاهدات بيلوفجسكويه في الثامن من ديسمبر (كانون أول) 1991، عادت جمهوريتا
روسيا وبيلاروس إلى توقيع معاهدة إنشاء "دولة الاتحاد"، في الثامن من ديسمبر 1999.
ومن اللافت أن بيلاروس ومنذ بدايات اندلاع الأزمة الأوكرانية في عام 2014، ظلت تتمسك بحيادها بين "أشقاء الأمس"، لما يزيد عن ثماني سنوات، حاولت خلالها رأب الصدع بين جارتيها روسيا وأوكرانيا، منذ استضافتها لمفاوضات مينسك بين الأطراف المتصارعة، "تحت رعاية روسية، ألمانية، فرنسية" مع نهايات عام 2014 وما بعده، وحتى اضطرت إلى العودة ثانية إلى سابق تضامنها مع روسيا، رداً على تورط أوكرانيا في "المؤامرة" التي استهدفت الإطاحة برئيسها ألكسندر لوكاشينكو في صيف عام 2020.
ميخائيل غورباتشوف يتحدث مع سكان من ليتوانيا عام 1990 للضغط من أجل عكس قرار الحزب الشيوعي المحلي بالانفصال عن موسكو (أ ب)
آنذاك فقط، حسمت بيلاروس أمرها، وأعلن رئيسها "الطلاق" بغير رجعة، مع من كان يتوسم فيهم الدعم والعون حين كانت الغيوم تخيم على علاقاته مع "الشقيقة الكبرى".
أعلن ألكسندر لوكاشينكو ضرورة سرعة العودة لما اتفق حوله مع روسيا بشأن تعميق التحالف الاستراتيجي بين البلدين، والتحول نحو تنفيذ اتفاقاتهما الاتحادية لتحقيق كل عمليات التكامل الاقتصادي والإنساني استناداً إلى ما جرى توقيعه من اتفاقات بلغ عددها زهاء 300 اتفاق، تندرج جميعها في إطار معاهدة الاتحاد بين البلدين، التي دخلت حيز التنفيذ اعتباراً من عام 2000. وذلك إلى جانب ما يربط كلاً منهما مع كثير من بلدان الفضاء السوفياتي السابق من معاهدات واتفاقات في إطار رابطة الدول المستقلة (الكومنولث)، منذ عام 1991، ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي منذ عام 2002، والاتحاد الجمركي منذ عام 2010، والتكامل الاقتصادي المشترك منذ عام 2012.
وذلك إضافة إلى الاتحاد الاقتصادي الأوراسيوي، الذي يضم أيضاً قازاخستان وأرمينيا وقيرغيزستان، اعتباراً من 2015، فضلاً عن إقرار وحدة التحالف، وتحديث العقيدة العسكرية المشتركة وتقنين حرية التنقل والحركة والعمل اعتباراً من 2021 .
كارثة
ولعل استعراض ما جرى ويجري من مشاريع مشتركة بين البلدين "الشقيقين" خلال الأعوام التي تقترب من الأعوام الـ20، شهدت صحوتهما المشتركة تجاه "كارثية" ما دبره ونفذه الرئيسان السابقان الروسي بوريس يلتسين، والبيلاروسي فياتشيسلاف شوشكيفيتش من "جريمة" إسقاط الاتحاد السوفياتي في عام 1991. وبحسب تعبيرات كل من بوتين ولوكاشينكو، يقال ضمناً إن البلدين في طريقهما إلى إحتمالات إعلان الوحدة الاندماجية "الاضطرارية" في المستقبل القريب.
وكان البلدان قطعا شوطاً هائلاً على طريق التعاون والتحالف الاستراتيجي، شمل مجالات التعاون العسكري بكل أطيافه، والتكامل الاقتصادي في كل المجالات ومنها الطاقة النووية، إلى جانب الانتقال إلى سياسات صناعية موحدة، وإقرار نظام الدولة، وتوحيد التشريعات الجمركية والضريبية، وإلغاء التجوال الهاتفي بين البلدين. وذلك فضلاً عن إبرام الاتفاقات بشأن إقرار التشريعات المشتركة في مجالات العمل والتأمينات الاجتماعية.
وكان الرئيسان بوتين ولوكاشينكو اتفقا حول تشكيل الهيئات القيادية لدولة الاتحاد في إطار المجلس الأعلى للدولة، الذي يضم رئيسي جمهوريتي بيلاروس وروسيا الاتحادية، ورئيسي حكومتيهما، وكذلك رئاسة البرلمان المشترك للجمهوريتين.
أما عن رئاسة دولة الاتحاد، فيجرى إقرارها على أساس التناوب "ما لم يتفق الطرفان على غير ذلك". وقد جرى عقد الاجتماع الأول للمجلس الأعلى لدولة الاتحاد في 26 يناير (كانون الثاني) 2000، بموجب معاهدة إنشاء الدولة الاتحادية، التي دخلت حيز التنفيذ في 26 يناير 2000، وتشمل هيئات دولة الاتحاد ل
بيلاروس وروسيا الاتحادية، كلاً من المجلس الأعلى للدولة، والبرلمان، ومجلس الوزراء، والمحكمة العليا، وهيئة الرقابة الإدارية.
وفي هذا الصدد قد يكون من المناسب العودة لتذكر ما كانت عليه الأوضاع في روسيا في تسعينيات القرن الماضي، وما كان في صدارة ضروريات البحث عن السبل اللازمة لإنقاذ الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين الذي كانت شعبيته في انخفاض مستمر بلغ ما هو دون 5-6 في المئة، فضلاً عن تصاعد غضب الشارع الروسي وتزايد سخطه واحتجاجه ضد الحرب الشيشانية واستمرار تدهور الأوضاع الاقتصادية. وذلك كله ما دفع موسكو للعودة إلى فكرة الاتحاد مع بيلاروسيا، في محاولة لوقف انهيار الدولة قبيل الانتخابات الرئاسية التي كان قرر يلتسين خوضها متكئاً إلى توقيع وثيقة التحالف بين روسيا الاتحادية وبيلاروس في الثاني من أبريل (نيسان) 1996، للفوز بولاية ثانية في مواجهة تصاعد شعبية ونفوذ الشيوعيين.
الوحدة
وعلى رغم كل ما جرى من اتصالات ولقاءات على مختلف المستويات، تأرجحت علاقات البلدين إبان مسيرتهما "الاتحادية" بين الصعود والهبوط، ما حال عملياً دون بلوغ الأهداف المرجوة.
وعلى رغم ذلك فقد ظلت فكرة "الوحدة" بمثابة "طوق النجاة" الذي لطالما تشبثت به كل من الدولتين لحل كثير من قضاياهما الداخلية، بل والخارجية في بعض الأحيان. ويذكر المراقبون كثيراً من المشكلات التي صادفتها الدولتان خلال السنوات القليلة الماضية، وشهدت ضمن ما شهدت كثيراً من "الغزل" بين الرئيس لوكاشينكو مع
الأوساط الغربية، ومنها ما بلغ حد محاولة الاتفاق حول أشكال التعاون بين بيلاروس والناتو، فضلاً عن محاولات "تنويع" الاتصالات الخارجية، بكل ما كانت تتضمنه من "لمحات متعمدة" لإثارة غضب موسكو.
ونذكر ما تناوله مراقبون كثيرون داخل روسيا وخارجها من قرارات اقتصادية لموسكو، كانت بيلاروس ترى فيها كثير من محاولات الضغط من جانب روسيا، في الوقت الذي كانت موسكو تعتبرها بمثابة التحذير من مغبة جنوح قيادة بيلاروس، صوب ما لا يتفق مع المصالح الاستراتيجية لدولة الاتحاد.
وثمة من يؤكد من المراقبين داخل روسيا وخارجها، على أن ما شهدته علاقات البلدين من توتر بلغ حد إلقاء القبض على ما يقرب من 30 مقاتلاً من أعضاء منظمة "فاغنر" قبيل الانتخابات الرئاسية في بيلاروس، بتدبير من المخابرات الأوكرانية تحت رعاية غربية، كاد يطيح بما بقي من وفاق واتفاق بين الدولتين، وهو ما أعقبته محاولة الإطاحة بالرئيس لوكاشينكو من منصبه في أعقاب إعلان المعارضة رفضها لنتائج الانتخابات الرئاسية في أغسطس (آب) 2020.
وذلك ما دفع قيادتي البلدين إلى تجاوز "خلافاتهما"، والتعجيل بتنسيق المواقف والسياسات لمواجهة "العدو المشترك"، بما تيسر معه سرعة إعادة العلاقات بين القيادتين والبلدين إلى ما هو أقرب إلى نصابها الطبيعي.
وكانت روسيا هبت لتقديم كل أوجه الدعم والمساعدة بما فيها العسكرية إلى الرئيس لوكاشينكو الذي حسم أمره منذ ذلك التاريخ، صوب ضرورة الكف عن "غزله" مع الغرب، وتناسي خلافاته مع من يسميه "الشقيق الأكبر" فلاديمير بوتين، والحد من الإفراط في نزعاته "الاستقلالية"، وتصريحاته التي لطالما لوح بها في كثير من المناسبات العامة.
وها هي "العملية العسكرية الروسية الخاصة" في أوكرانيا تدفع مع كل يوم جديد إلى المضى قدماً نحو مزيد من الجهود الرامية إلى وضع كل ما جرى توقيعه من اتفاقات "اتحادية" بين البلدين حيز التنفيذ، بما في ذلك ما يتعلق بالتعاون العسكري.
وذلك إلى جانب مزيد من التنسيق المشترك لمواجهة ما يتصاعد من تهديدات وأخطار ليس فقط من جانب أوكرانيا المجاورة، بل وأيضاً من جانب بلدان الناتو التي تستضيف عديد من عناصر المعارضة التي تظل ترفع شعار الإطاحة بالرئيس لوكاشينكو، في صدارة مطالبها منذ إعلانها عدم الاعتراف بنتائج الانتخابات الرئاسية التي جرت في صيف عام 2020.