ملخص
#كتاب يبحث في الشعور السلبي إزاء #الأمومة من خلال شهادات جريئة
قلة هن النساء اللاتي يتجرأن على المساس بتابو الأمومة وخدش قدسيتها، بيد أن التابو الأعظم هو البوح بهذا الشعور، لا سيما شعورهن بالندم على الإنجاب. فهذا البوح يكسر التابو الأكثر قدسية في المجتمع، ويضع المرأة التي تقوم به في موقف صعب، فيساء فهمها لدرجة قد تتعرض لتنكيل عاطفي مروع من الجميع. وربما هذا ما يمنع كثيرات ممن يحملن هذا الشعور من البوح والاعتراف، ليس فقط خشية من المجتمع، بل خشية من الشعور نفسه الذي يعمق إحساسهن بالذنب، الذي تحمله الأم كشيء لصيق بعاطفة الأمومة مهما قدمت من تضحيات أو بذلت من جهد من أجل أولادها. فالثقافة الذكورية تحاصر المرأة في أعمق أعماقها وتكبل قدرتها على العيش بسلام مع نفسها، مهما ارتقت إلى المثال الأرقى في أمومتها.
في كتابها الجريء الذي قد يبدو صادماً ومروعاً، تنبش ستيفاني توماس في أعماق العلاقات الحميمة والزوايا المظلمة للأمومة، في كتاب فريد من نوعه حمل عنوان "الندم على الأمومة"، صدرت ترجمته حديثاً عن دار نوفل. تلقي الكاتبة الضوء "على إحساس مزعج ولكن أكثر شيوعاً مما نتوقع"، بحسب مجلة "فام أكتويل" الفرنسية. فهو الكتاب الأول الذي يبحث في شعور الندم على الإنجاب من خلال 10 شهادات لأمهات يساعدننا على فهم موضوع رغم جاذبيته، فلم يسبق أن تجرأ أحد على الحديث عنه، بحسب "راديو فرانس". هي 10 شهادات تمزج فيها ستيفاني توماس تساؤلات متعلقة بحياة المرأة، والأم، والفتاة، بل أعتقد أن أحداً لم يجرؤ على الاقتراب من هذا الموضوع لما تنطوي عليه الصورة النمطية للأم، من قداسة ورمز للحب غير المشروط. كم هي صورة جميلة.
طبعاً حين يعمينا تعميمها عن رؤية الحقائق كما هي في الواقع. وإن كانت بعض الحقائق ستكون صادمة، فلا يلغي ذلك جمالية هذه الصورة في الغالب الأعم، رغم الكلفة الباهظة والقيود التي تكبل النساء حين يقمن بأدوارهن بكل حب وتفان". يجري ذلك على حساب رغباتهن وتقدمهن المهني والتخلي عن ذواتهن الطليقة. ذاك لما يتطلب دور الأم من جهد متواصل لأمد طويل، بل ربما لنهاية الحياة ونهاية وقتها كله.
أثر كبير
في مقدمة كتابها تعترف ستيفاني توماس أن فكرة كتابها أتت من مقالة نشرت في جريدة "ليبراسيون" الفرنسية حملت عنوان "الندم على الأمومة، التابو الأعظم". أشارت فيها المقالة إلى دراسة عالمة الاجتماع أورنا دوناث "الندم على الأمومة" التي نشرت عام 2015، وكانت الأولى من نوعها على مستوى العالم. أحدثت الدراسة حينذاك أثراً مدوياً في البلدان التي ترجمت فيها، لا سيما في ألمانيا.
في مقدمة كتابها تقدم ستيفاني توماس لمحة تاريخية عن تطور وضع الأمومة في المجتمعات وعبر العصور في أوروبا، وذلك تبعاً للتعاليم الكنسية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية. تختص ألمانيا بقدر كبير من هذا التطور التاريخي الذي لا يزال يحيط بالأمومة حتى يومنا هذا، ويضعها موضع القداسة بغية خدمة المجتمع، من غير أن تقدم ألمانيا- بحسب ستيفاني- الكثير، خصوصاً للأمهات العاملات. وهو ما يخلق أوضاعاً تدفع النساء للإحجام عن الإنجاب تجنباً للندم على الأمومة، بما هو شعور مؤلم جداً. وتستفيض ستيفاني بأسباب الندم من خلال تلك الشهادات الحية، وعواقب الالتزام بكل ما تتطلبه الأمومة من بذل للذات وإنهاك جسدي ونفسي، وأعباء هائلة تتطلبها رعاية طفل منذ لحظة ولادته وحتى أمد طويل.
وهو ما تبينه أكثر من شهادة، بيد أن هذا الندم قد يرتبط أيضاً بالامتيازات الذكورية التي تمنح للآباء وتعفيهم ضمناً من دور الرعاية. أقله على مدار الساعة، هذا إذا لم يتم الحديث عن الملل والإنهاك وتخلي الآباء حتى عن أدوارهم في الرعاية المادية والمعنوية التي قد تصل حد الغياب التام، وترك الأمهات يعانين وحدهن رعاية أطفالهن، ليس كمتعة بل كمحنة يقاسين منها الأمرين، هذا خصوصاً إذا كانت الأم مجبرة على العمل، والدولة لا توفر لها دور حضانة غير باهظة
المنظومة الثقافية
وتدخل الشهادات في تفاصيل كثيرة تكتنف حياة الأمهات وترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمنظومة الثقافية السائدة التي تلقي بمشاق رعاية الأطفال كلها على أكتاف النساء. يحدث ذلك رغم التبدل الذي طرأ على أدوار النساء في المجتمع بوصفهن حصلن على استقلال اقتصادي، تتفاوت نسبته من امرأة إلى أخرى، ووصلن إلى مستويات تعليمية عالية ومناصب قيادية في القطاعين الخاص والعام. وإن تمعنا عميقاً في هذه الشهادات، يصبح لزاماً علينا أن نفكر حقاً بتخصيص حقل معرفي لدراسة الأمومة أقله في الجامعات والمؤسسات الأكاديمية. فالأمومة حقل واسع يلهم بدراسات كثيرة، تتصل بحقول معرفية متنوعة لا تبدأ بالتاريخ ولا تنتهي بالسياسة أو الثقافة أو الدراسات الجندرية. فهو حقل يستحق البحث المعرفي لأنه يقع في مركز الحياة، فضلاً عن أنه حقل معرفي معقد، متشابك، وثري.
لعل الندم على الأمومة لم يكن ليكون، لولا الظروف المظلمة التي تحيط بحياة النساء منذ ولادتهن وحتى مماتهن. تبدأ ستيفاني شهاداتها بسرد حياة جدتها إيفون في فصل خاص حمل عنوان "إيفون، المرأة والأمومة في فرنسا". وعلى خلفية قولها لحفيدتها الطفلة: "إنجاب الأطفال أمر صعب جداً. ويتضمن تضحيات كثيرة. أعطيت كل شيء لوالدك". وهو ما جعل ستيفاتي تتساءل لاحقاً "لماذا أخبرتني بذلك؟ وماذا أعطته؟ فرص قضاء العطلة على شاطئ البحر، وإمكانية التخصص بالهندسة؟ لكن بأي ثمن؟ فلطالما سعى والدي ليكون الأفضل حتى تفخر به وتخبره بذلك... عبثاً". فهل كانت ستسعد من دونه؟ وماذا كانت ستفعل في حياتها؟". وتشير إذ ذاك إلى حياة جدتها الشاقة. فهي ولدت في باريس من أم بريتانية عاملة تنظيف، وأب من البيري، نجار يصنع الأثاث الخشبي .تعارفا في حفلة راقصة عام 1913 لكنهما لم يتزوجا، ورفض ليو والدها الاعتراف بطفلته إيفون، وهو ما وسمها كلقيطة، هذا ما عرض الجدة إيفون لازدراء المجتمع حين كانت تنادى باللقيطة بدلاً من اسمها، فضلاً عن إطلاق ألفاظ بذيئة عن أمها. وإن لم تعبر ستيفاني عن حقيقة ندم جدتها صراحة، فقد روت كيف أرسلت ابنها ليتربى بعيداً عنها، فيما هي مجبرة على العمل بعيداً عنه، لتعيله وتمنحه مستقبلاً آمناً. في المقابل تحكي ستيفاني كيف بدأت إيفون العمل وهي في الـ14 من عمرها، ولم تكن قد أنهت دراستها الابتدائية. تروي كيف جهدت وترقت حتى أصبحت مديرة الشركة التي تعمل فيها، وبنت مكانتها لتتخلص من وصمة عارها كلقيطة، وكي تمنح ابنها حياتها، الحياة التي يستحقها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن ظروف حياتها عرجت ستيفاني على الوضع القانوني للأم العزباء الذي لم يكن مقبولاً في فرنسا. واعتبر في نهاية القرن الـ16 الإنجاب خارج الزواج كفراً وعاراً، في سعي مجمع ترنت الكنسي لتعزيز قدسية الزواج. وتوالت القوانين تماشياً مع توجهات الكنيسة وأهمها المرسوم الملكي الذي يلزم جميع النساء إعلان حملهن للسلطات وإلا عوقبن بالإعدام، إذا توفي الطفل من دون معمودية. كانت النية منع الإجهاض أو قتل الأطفال وضمان ألا يحكم على الرضيع بالبقاء خارج الجنة إلى الأبد، لكن في الغالب كان سعياً من السلطات للتحكم بالإنجاب. وشكلت الحرب العالمية دافعاً سياسياً للإنجاب في دول أوروبا كلها، فيما اعتبر تعويضاً للأرواح التي أزهقت في الحرب. وفي ظل حكومة فيشي احتل الرحم مكانة بارزة في الخطاب السياسي. وفرض على النساء الإنجاب في خضم عالم في حالة حرب. وبهذا شكلت الحرب العظمى بداية "تأميم" أرحام النساء لخدمة الوطن. وعوضاً عن وقف الحرب أو تجنبها، فضل الساسة تسخير النساء للإنجاب. وغني عن القول إن الإنجاب حمل دوافع اقتصادية عبر العصور حين كان يهدف إلى توفير الأيدي العاملة لحراثة الأرض وزراعتها وحصاد المزروعات في زمن الإقطاع، ولرفد المصانع بهذه الأيدي إبان الثورة الصناعية، فضلاً عن المساهمة في نفقات الأسرة.
والحال أن القدسية التي سبغت على الأمومة هي الثقافة التي تتطلبها تغطية الدوافع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والدينية لقدسية الأمومة التي شكلت بدورها- بحسب ستيفاني- الدوافع الشخصية للإنجاب ورعاية الأطفال، حتى لو كان الإنجاب لا يناسب جميع النساء. وتستعرض ستيفاني من خلال تلك الشهادات الندم على الأمومة بما هو ندم على الإنجاب، وإن هو ندم لا يلغي حب الأمهات لأبنائهن وبناتهن. ومع أن الندم بحسب ستيفاني، شعور أخلاقي وإنساني ومرحب به، ولكن باستثناء الشعور بالندم على الأمومة، لأنه شعور بغيض.
لذلك حرصت بعض النساء اللاتي قدمن شهاداتهن الحية، ألا تُذكر أسماؤهن الحقيقية، خشية من سوء فهم اعترافاتهن. وإن قامت بعضهن بمناقشة هذا الندم مع أبنائهن وبناتهن، لكن بعضهن حرصن على توضيح "أن هذا الندم ليس ندماً على أمومتهن بل هو ندم على الإنجاب". وقد اعترفت إحداهن في شكل لا لبس فيه، أن الأمومة لا تناسبها، ولكن ليس بسبب المشاق وسنين العمل الدؤوب. وعلى رغم إنجاب "فيكتوريا" لابنتها، فهي لم تستطع أن تعانقها أو تفرح بها، بل غلب عليها شعور مروع منفر، لم تتمكن طوال حياتها من التخلص منه، وإن تمكنت من التخفيف منه والتحكم به حرصاً على طفلتها. وعلى رغم صغر حجم الكتاب، فإن الندم على الأمومة عنوان كبير لا تكفيه هذه الصفحات 132، وبما هو فاتحة كبيرة للحوار والنقاش والصدق والواقعية بعيداً من المبالغات والأسطرة.
يبقى أن هذا الكتاب الجريء بشهاداته وموضوعه، فرصة للتفكير ربما في شكل مختلف، وتحرير صورة الأمومة من قدسيتها. ربما حينها قد ننقذ كثيراً من جماليات الأمومة بعيداً من الوهم والمشاعر الزائفة.