ملخص
ماذا يفعل روائي في #ساحة_القتال؟ هذا السؤال يجيب عنه #أرتيم_شاباي وهو الاسم المستعار لأنطون فاسيليوفيتش فودياني، أكثر الروائيين الأوكران شهرة وترجمة، الذي يقاتل ويكتب بحثا عن معنى الحياة.
يعتبر أرتيم شاباي، وهو الاسم الأدبي المستعار لأنطون فاسيليوفيتش فودياني، من أكثر الروائيين الأوكران شهرة وترجمة إلى اللغات الأجنبية. لكنه على رغم موهبته وشهرته قرر هذا الكاتب، دفاعاً عن بلاده، التطوع في الجيش الأوكراني، بعيد اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية.
في مقابلة أجراها معه الصحافي الفرنسي بيار سوتروي، يروي شاباي لمجلة "لا كروا" أسباب تجنده، متحدثاً عن دور الأدب والكتابة في العثور على معنى الحياة، على رغم الحرب وتبعاتها من يأس ومآس لا تحصى.
هذا الكاتب والمترجم والناشط السياسي والمراسل الصحافي الذي غطى أحداث الحرب في الدونباس، الذي وصل اسمه أربع مرات إلى نهائيات جوائز صحافية عديدة، ومنها جائزة "بي بي سي" أوكرانيا لكتاب العام 2018، عاش وعمل لفترة في الولايات المتحدة الأميركية وفي أميركا الوسطى.
ولد أرتيم شاباي في مدينة صغيرة تدعى كولوميا تقع في غرب أوكرانيا سنة 1981. لكنه قضى معظم سنوات حياته في العاصمة الأوكرانية كييف. برز اسمه عندما أسس مع مجموعة من الناشطين السياسيين والاجتماعيين حركة هدفت إلى إنقاذ تراث مدينة كييف القديمة وحمايته من البناء العشوائي الذي بدأ بالظهور على يد كبار المطورين العقاريين. وقد عرف عنه أيضاً دعمه للأفكار اليسارية ومناهضته الاستبداد.
بعد الغزو الروسي لأوكرانيا سنة 2022، نجح شاباي بإخراج عائلته الصغيرة من العاصمة الأوكرانية والتحق بالقوات المسلحة. لكن هذا الكاتب الذي بدأ حياته بدراسة الفلسفة الذي حاز على زمالة الكتاب المقيمين في سلوفينيا، وزمالة بول سيلان للمترجمين في النمسا، كان قد نشر منذ عام 2011 عدداً من الروايات. غير أن شهرته الروائية ارتبطت بوصول روايته "مامايوتا: البحث عن أوكرانيا" إلى القائمة النهائية لجائزة بي بي سي أوكرانيا لكتاب العام، وبتكريمه عام 2014 بعد نشره عدداً من الروايات، لا سيما "المنطقة الحمراء"، التي تنتمي إلى أدب الديستوبيا أو أدب "المدينة الفاسدة" التي يحكمها الشر المطلق.
الرواية الرائجة
لكن روايته الأكثر شهرة في أوكرانيا تبقى "بعيداً من هنا، بالقرب من لا مكان"، التي ترجمت إلى عدد كبير من اللغات، ومنها الفرنسية والإنكليزية. فيها يستحضر شاباي حياته كعامل مهاجر في الولايات المتحدة الأميركية. تحكي هذه الرواية مصائب عائلة تكاتشوك التي أجبرت على مغادرة أوكرانيا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، بغية تأمين مستقبل أفضل لأبنائها.
تقدم هذه الرواية صورة قاتمة عن بلاد غارقة في الفساد والعنصرية. لكن كاتبها يخلص في النهاية إلى أن جحيم الوطن يبقى بالنسبة إلى كثيرين أكثر رحمة من جنة المنفى.
غير أن شهرة شاباي العالمية كانت مع كتابه "أوكرانيا" الذي صدر عام 2018 وهو عبارة عن مجموعة من القصص القصيرة. وهي شهرة مدينة أيضاً لاشتراكه مع الصحافية كاترينا سيرهاتسكوفا في تأليف ونشر كتاب "حرب الأحرف الثلاثة"، المؤلف من مجموعة من التقارير التي تم إعدادها في الدونباس خلال غزو المدينة. وقد رشح شاباي وسيرهاتسكوفا لنيل جائزة كورت شورك للصحافة الدولية.
تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن شاباي هو مترجم كتاب إدوارد سعيد "الإنسنية والنقد الديمقراطي" إلى اللغة الأوكرانية، وهو كذلك مترجم كتب للمفكر الأميركي نعوم تشومسكي والمهاتما غاندي.
وفي عودة إلى الحوار الذي أجري معه في مجلة لاكروا، يتعرف القارئ على أفكار شاباي المسالم والناقد لللامساواة والمنفى. فيه يتحدث عن وطنه الجريح، من خلال سرد يومياته كجندي عادي ليس لديه مؤهلات عسكرية، يقضي وقته في التدريب والمراقبة والمشاركة في الدوريات الاستطلاعية في الشوارع والأنفاق ومحطات القطارات، هو الذي لم يرسل بعد إلى الجبهات القتالية. ولعل قصته هي قصة كل أوكراني رأى حياته تتلاشى بسبب الحرب وويلاتها.
التطوع في الجيش
من حافة الهاوية إذاً يستعيد أرتيم شاباي في هذا الحوار قصة اتخاذه قرار التطوع في الجيش، هو الذي لم يتخيل يوماً المشاركة في أية معركة حربية لرفضه العنف وسفك الدماء. غير أنه، في استرجاعه لسيرة حياته، يكتشف القارئ الوجه الآخر لهذا الكاتب الذي التحق في بداياته بالأكاديمية الوطنية لأمن أوكرانيا. لكنه سرعان ما انسحب منها، مفضلاً دخول السجن على مواصلة الحياة العسكرية. لكن أحداث الحرب والانفجارات المخيفة التي ترددت أصداؤها ذات ليلة بالقرب من منزله، التي أجبرته على اصطحاب عائلته الصغيرة المؤلفة من زوجته وطفليه الذي لم يتجاوز كبيرهما التاسعة من العمر، إلى غرب البلاد في رحلة جحيمية استغرقت ثلاثة أيام على وقع الحصار والقصف الدائم، وفرار آلاف من المدينة مجتازين طرقاً وعرة، هي التي كانت وراء قراره هذا.
يقول شاباي إنه حين يواجه المرء تقطع أوصال بلده ويصير الانتقال من مكان إلى آخر محفوفاً بالمخاطر، وحين تصبح المعاناة والأوجاع والخوف من الموت خبز الناس اليومي، لا تعود الكلمات مناسبة للتعبير عن هول ما يحصل. فحين يستيقظ الإنسان مع أطفاله تحت وابل من القنابل، لا يعود يملك إلا خيار القتال.
وشاباي المشكك ككاتب، بفكرة صراع الخير والشر، يقول إن الأوكرانيين لا يجسدون بنظره الخير، بل هم أناس عاديون مسالمون يتعرضون للقصف كل يوم. ولعل هذه الحرب القذرة هي بنظره حرب الناس العاديين ضد الشر.
في هذا الحوار يعبر الكاتب الأوكراني أيضاً عن إعجابه بأدب همنغواي وكل الأدب الكلاسيكي الذي يتحدث عن السلام والإنسانية وحرية الاختلاف ورفض الأحقاد والضغائن والتوحش.
الناس المسالمون
ولئن كانت الحروب كلها بنظره سخيفة، إلا أن الحرب الروسية - الأوكرانية تبقى عنده مختلفة، لأنها حرب حكمت بالموت على أناس مسالمين عاديين. من هنا كان خياره تلبية نداء التعبئة العامة والالتحاق بالجيش والبقاء إلى جانب مواطنيه، لشعوره أنه إن لم يقم بذلك، فلن يحترم نفسه مطلقاً. ويقول شاباي إن قراره هذا كان قراراً وجودياً، لعله يشبه في كثير من الأوجه قرار جان - بول سارتر حينما اختار الانخراط في صفوف المقاومة السرية، يوم احتلت ألمانيا النازية فرنسا، معترفًا بصعوبة اختياره، متسائلاً عن مدى صحة قراره من خلال التفكر في مسألة وجود خيارات صحيحة وأخرى خاطئة.
ويتطرق الحوار كذلك إلى حياة الجندية واختبار شعور الضيق والخوف من الموت والبكاء والبعد عن العائلة والاتصال الدائم بها بواسطة الهاتف الخلوي، الذي أصبح لكل جندي أوكراني من أكثر الأشياء تعلقاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإذ يجيب أرتيم شاباي على أسئلة الصحافة الفرنسية يتطرق إلى مسألة أساسية تتناول موضوع التعلم والكتابة في زمن الحرب، من خلال تدوينه ليومياته منذ التحاقة بالجيش على هامش قيامه بمهمات بسيطة كالحراسة والمراقبة، وهو غير المدرب على استعمال الأسلحة الثقيلة وقيادة الدبابات والراغب بمشاركة أكثر فاعلية في الحرب الدائرة على الجبهات.
نكتشف في هذا الحوار أن الجندي - الكاتب يكرس أوقات فراغه لتعلم اللغة الألمانية وكتابة بعض الأفكار والذكريات والأحداث الشخصية، علماً أنه لم يكتب أي نص روائي منذ بداية الحرب. فالكلمات تبدو له هشة ومتواضعة حيال ما يحصل من أهوال، وهي برأيه بحاجة إلى راحة حتى تخرج إلى العلن. لكن القراءة والكتابة هما بالنهاية السلاح الوحيد للتعبير عن النفس ومواجهة العنف المدمر. لذلك تابع شاباي تدوين مشاعره وأحاسيسه والاكتفاء بوصف مشاهد الطبيعة من حركة الريح في الشجر، ونور الشمس وضوء القمر والنجوم، ومتع الحياة الصغيرة كالنزهة في الغابة وتأمل الغيوم الآتية من الأودية وزرقة السماء، وقراءة كتب بريمو ليفي عن معسكرات الاعتقال النازية، وكتاب الطبيب النفسي فيكتور فرانكل، وغيرها من الكتب التي تستحضر تجارب حياتية مماثلة وتحفر في عمق الذات، مضيفاً أنه على المرء اختبار المعاناة مع الآخرين حتى يكون قادراً على الشهادة عليها.
في النهاية يأمل أرتيم شاباي أن تنتهي هذه الحرب القذرة. وحتى يكون ذلك يستعين الروائي الأوكراني بقول ميلان كونديرا أنه سيبقى يكتب قدر الإمكان عن غزو أوكرانيا حتى لا ينسى الناس قضيتها.