ملخص
كي ينجح #الردع_النووي فإنه يعتمد على عدد من العوامل منها أن يدرك الخصوم أنهم عرضة لعقوبة مهددة إذا تجاوزوا الخطوط الحمراء
مع تعليق روسيا مشاركتها في معاهدة "نيو ستارت" للحد من الأسلحة النووية مع الولايات المتحدة والتهديد باستئناف تجارب الأسلحة النووية، قدم الرئيس فلاديمير بوتين مثالاً آخر على استعداد موسكو للاستفادة من الترسانة النووية استراتيجياً، والدخول في سباق تسلح نووي جديد، بعد أن تبين أن القوة النووية الروسية حالت دون توسع الحرب في أوكرانيا، وتمنع كييف من تحقيق أي انتصار واضح، مثلما كانت الأسلحة النووية السوفياتية فعالة عندما غزت القوات السوفياتية المجر عام 1956 وتشيكوسلوفاكيا عام 1968، فهل يعني ذلك أن سياسة الردع النووي الروسية كانت وستظل فعالة، أم يمكن منع روسيا من استخدام سياسة حافة الهاوية النووية والاستفادة منها؟
ما الردع النووي؟
منذ إسقاط الولايات المتحدة قنبلتي هيروشيما وناغازاكي فوق اليابان عام 1945، ظلت فكرة الاستخدام النووي على مدى أكثر من 77 عاماً نوعاً من المحرمات، ذلك أنه حتى الاستخدام النووي المحدود كان من المتوقع إلى حد كبير أن يؤدي إلى التصعيد وخطر حدوث تبادل نووي واسع النطاق، ولهذا أصبح الردع النووي يتمثل في الاحتفاظ بالسلاح النووي للاستخدام في ظروف استثنائية جداً، وكما يقول اثنان من العلماء الاستراتيجيين في سياسة الردع النووي وهما أليكس جورج وريتشارد سموك، فإن الردع النووي هو اقتناع الخصم من خلال عملية عقلانية لحساب الكلفة والفوائد، بأن كلفة ومخاطر اتخاذ عمل معين تفوق فوائده.
لكن لكي ينجح الردع النووي فإنه يعتمد على عدد من العوامل منها أن يدرك الخصوم أنهم عرضة لعقوبة مهددة إذا تجاوزوا الخطوط الحمراء أو هددوا المصالح الحيوية للدولة، ويتطلب الردع النووي أن تكون تهديدات الردع ذات صدقية، فضلاً عن عدم اليقين في شأن القدرة على التحكم في التصعيد، كما يتوقف الردع النووي على كون الخصم عقلانياً.
ومنذ أن هاجمت روسيا أوكرانيا في فبراير (شباط) من العام الماضي، أصدر القادة الروس عديداً من التهديدات النووية الصريحة ضد كييف وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وتعهد الرئيس بوتين في أبريل (نيسان) 2022، بالرد على أي تدخل خارجي في الصراع بانتقام سريع وخفيف، قائلاً إن لديه كل الأدوات اللازمة، ومع ذلك لم يكن هناك تغيير كبير أو ملحوظ في الاستعداد التشغيلي للأسلحة النووية في روسيا أو في الدول الغربية.
لماذا نجح التهديد الروسي؟
على رغم أن بعض المراقبين يرون أن عدم استخدام روسيا الأسلحة النووية حتى الآن، هو دليل على أنها لن تفعل ذلك أبداً، غير أن هذا التقييم يفترض أن الرئيس بوتين لاعب عقلاني ولن يخاطر بوقوع كارثة أو أن يجد نفسه في وضع المنبوذ دولياً بعد أي نشر محتمل لمثل هذا السلاح من جانب روسيا، كما أنه ليس واضحاً على الإطلاق أن سياسة حافة الهاوية النووية الروسية هي مجرد خدعة، بحسب ما تقول أستاذة الدراسات الدولية بالأكاديمية الدبلوماسية في فيينا نينا تاننوالد، التي ترى أن "الأسلحة النووية في حرب أوكرانيا أسهمت في تأطير الصراع، من خلال ردع التدخل الأكبر لحلف الناتو".
ومن الواضح أن الترسانة النووية الروسية ساعدت على إطالة أمد الحرب وجعل أي حل تقليدي للقتال أكثر صعوبة، بعد أن تبين للجميع أن الصراع في أوكرانيا هو أخطر مواجهة نووية منذ أزمة الصواريخ الكوبية في عام 1962، وأن الأسلحة النووية تتمتع بقوة مدمرة حتى عندما تظل حبيسة صوامعها.
كيف استفاد بوتين؟
في سياق الحرب الأوكرانية، استفاد بوتين من الأسلحة النووية إلى حد كبير حيث استند إلى قوته النووية لردع الناتو عن أي تدخل عسكري نيابة عن أوكرانيا، ونجح هذا الردع في جعل الغرب من الناحية المنطقية غير راغب في الانخراط بشكل مباشر في الحرب أو حتى من خلال منح أوكرانيا قوة نيران بعيدة المدى يمكن أن تصل إلى حدود روسيا، خوفاً من أن تؤدي هذه المساعدة في نهاية المطاف إلى إثارة صراع نووي مروع. ونتيجة لذلك، من المرجح أن تستمر الحرب مع مزيد من القتل والتدمير، لفترة أطول مما كانت لو لم تكن الأسلحة النووية في الحسبان، إذ إنه من دون حسابات الأسلحة النووية الروسية القوية التي تحيد التفوق العسكري التقليدي للغرب، لكانت الولايات المتحدة وحلف الناتو قادرين على استخدام قوتهما النارية التقليدية المتفوقة بشكل أكثر فاعلية في الدفاع عن أوكرانيا لكسب الحرب بسرعة.
ومن الممكن أيضاً أن تكون الأسلحة النووية الروسية شجعت بوتين على شن الهجوم منذ البداية، لأنه لم يكن ليهاجم أوكرانيا لولا تمتعه بوسيلة رادعة تمكنه من إبعاد الولايات المتحدة وحلف الناتو عن الحرب، وهو ما يعكسه إدراك القادة الروس أن جيشهم التقليدي أدنى من مثيله في الغرب، وإصرارهم على إصدار كثير من التهديدات النووية الواضحة التي تشير إلى أنهم رأوا في ترسانتهم النووية وسيلة للتعويض عن هذا النقص بحسب ما يقول موقع "فورين أفيرز".
هل منع الردع النووي حرباً أوسع؟
من المؤكد أن الأسلحة النووية الموجودة في ترسانات عديد من الدول الأعضاء في حلف الناتو منعت روسيا أيضاً من توسيع الحرب لتشمل دول الحلف الغربي مثل بولندا ورومانيا ودول البلطيق الثلاث ليتوانيا وإستونيا ولاتفيا، لكنه أدى أيضاً إلى إطالة أمد الحرب التقليدية، بكلفة أكبر على الجميع، وبخاصة الشعب الأوكراني.
ومع استمرار وجود هذا الردع النووي من الطرفين، يمكن أن تستمر حرب استنزاف طاحنة ووحشية لفترة طويلة من الزمن، مع عدم قدرة أي طرف على توجيه ضربة قاضية نهائية لخصمه على رغم أن روسيا تحتفظ بتفوق كبير على أوكرانيا بفضل تعداد سكانها الأكبر وجيشها الأضخم.
ما عقلانية الاستخدام النووي؟
يضغط بعض المحللين الغربيين من أجل مزيد من الدعم الأميركي والأوروبي لكييف لطرد القوات الروسية من أوكرانيا، مثل إريك شلوسر في صحيفة "ذي أتلانتيك" الذي اعتبر أن أكبر تهديد نووي هو انتصار روسيا، والمؤرخ تيموثي سنايدر الذي رفض التهديدات الروسية باعتبارها مجرد كلام يهدف لجذب الانتباه الإعلامي وتخويف الغرب، ويستند هؤلاء إلى حقيقة أن بوتين لم يستخدم الأسلحة النووية بعد عام من الهزائم العسكرية المحرجة كدليل على أنه لن يستخدم سلاحاً نووياً في المستقبل، وينتقدون الرئيس الأميركي جو بايدن لرفضه إرسال معدات عسكرية متطورة إلى أوكرانيا ويسخرون من الانهزاميين الذين يقلقون في شأن التصعيد.
لكن الكاتبة ماشا جيسن المقربة من الرئيس الروسي، تبدو أقل تفاؤلاً بكثير في شأن عقلانية بوتين وتشير إلى أن الرئيس الروسي لديه نظرة مشوهة للعالم ولهذا يمكن له تبرير استخدام الأسلحة النووية كمسار عقلاني للعمل، ومن هذا المنطلق جاء قرار روسيا بتعليق تنفيذ اتفاقية "نيو ستارت" التي تعد آخر معاهدة متبقية تحد من أكبر ترسانتين نوويتين في العالم مما يزيد من المخاطر النووية.
هل من سباق تسلح جديد؟
نتيجة لتعليق "نيو ستارت" لن تشارك روسيا بعد الآن في نظام التفتيش المتبادل على المواقع النووية ولن تتبادل المعلومات في ما يتعلق بالمخزون النووي، التي تعتبر تدابير حاسمة لبناء الثقة وتشكل واحدة من قنوات الاتصال المنتظمة القليلة المتبقية بين الولايات المتحدة وروسيا حول ترساناتهما النووية، ومع ذلك أكدت وزارة الخارجية الروسية أن روسيا ستستمر في متابعة القيود المفروضة على عدد الرؤوس الحربية النووية التي يمكنها نشرها بموجب المعاهدة وهي 1550 رأساً حربياً استراتيجياً و700 مركبة إيصال استراتيجية، لكن هذا يزيد من احتمالية عدم التوافق على معاهدة جديدة بعد انتهاء صلاحية "نيو ستارت" في عام 2026، ومن دون معاهدة بديلة، لن تكون هناك قيود على الترسانات النووية الأميركية والروسية لأول مرة منذ عام 1972، ما يعد وصفة جاهزة لسباق تسلح جديد وخطر.
ما إمكانية النصر الأوكراني؟
على رغم دعم الغرب لأوكرانيا كي تكسب الحرب، لأن هجوم روسيا يتحدى المعايير الدولية الأساسية لوحدة أراضي الدول، فإن الانتصار الأوكراني لا يزال غير واضح، وفي عالم خال من الأسلحة النووية، قد يكون الانتصار العسكري واضحاً إلى حد ما من خلال استعادة كل أراضي أوكرانيا، بما في ذلك شبه جزيرة القرم كما يعلن الرئيس زيلينسكي مراراً، لكن في ظل وجود الأسلحة النووية لدى روسيا، قد لا يكون هذا النصر قابلاً للتطبيق، وسيكون تحقيق نتيجة جيدة لكييف مسألة أكثر تعقيداً، ولهذا السبب فإن التحدي الذي يواجه المدافعين عن أوكرانيا هو كيفية منع روسيا من الاستفادة من سياسة حافة الهاوية النووية مع الحفاظ على تجنب اندلاع حرب نووية، نظراً إلى ميل الحروب إلى التوسع بشكل ينتج خطراً حقيقياً بالتصعيد.
وفيما يشيد بعض المعلقين في الولايات المتحدة ودول الناتو بالزيادة البطيئة والمطردة للمساعدات الفتاكة التي يقدمونها لأوكرانيا على اعتبار أنها استراتيجية ذكية لتعزيز قوة النيران الأوكرانية تدريجاً بطريقة لا تنطوي على مواجهة علنية مع موسكو، مثل تخليهم الشهر الماضي عن معارضة تزويد أوكرانيا بالدبابات، رفعت كييف على الفور طلباتها للحصول على طائرات مقاتلة غربية، مما سيسمح لها بضرب مناطق بعيدة في الأراضي الروسية.
هل من لحظة خطرة؟
وبالنسبة إلى بعض المحللين، يبدو أن قادة الولايات المتحدة وأوروبا ليس لديهم إحساس واضح بمكان الخطوط الحمراء في أوكرانيا، وكما كتبت المتخصصة في العقيدة النووية الروسية كريستين فين بروسغارد، في مقال نشرته مجلة "فورين أفيرز"، فإن اللحظة الخطرة ستأتي إذا قرر القادة العسكريون أو السياسيون الروس أن المواجهة العسكرية المباشرة مع حلف الناتو أمر لا مفر منه، وهو أمر يمكن أن يحدث إذا أساء القادة الروس تفسير التحركات والدعم لأوكرانيا على أنها استعدادات لعملية عسكرية ضد روسيا، وبخاصة عندما تكون الإجراءات مصحوبة بالحديث عن استعادة شبه جزيرة القرم، على سبيل المثال أو تحقيق نصر كامل لأوكرانيا أو حتى إضعاف روسيا، مما يغذي تصور القادة الروس بأن الغرب المعادي يسعى إلى تدمير بلادهم.
وحتى لو كانت هذه التصورات والآراء لا أساس لها، فإن القادة الغربيين لديهم التزام أخلاقي بأخذ احتمال حدوث سوء فهم كارثي من جانب القادة الروس على محمل الجد، وبشكل خاص من قبل الرئيس الأميركي جو بايدن الذي يعد من صميم وظيفته التأكد من عدم تصعيد الحرب إلى صراع نووي مع روسيا، وعلى رغم رفض الابتزاز النووي الروسي لأسباب أخلاقية واستراتيجية، فإنه لا يزال يتعين على القادة الغربيين التفكير بجدية في احتمال وقوع حدث مفجع، وهذا يعني أنه ستكون هناك حاجة إلى قيود مستمرة على المساعدة الغربية لأوكرانيا.
أين تنتهي المحرمات؟
بينما يحدد مسار الحرب مصير الخيارات الصعبة رغم المعيار الدولي الذي يحظر المبادرة باستخدام أسلحة نووية، أضرت التهديدات الروسية بالمحرمات النووية لأنها توحي بأن استخدام هذه الأسلحة المدمرة على نطاق واسع أمر مشروع وجزء معقول من الحرب، ومع ذلك لعبت استجابة العالم للتهديدات النووية الروسية دوراً حاسماً في تعزيز المحرمات، حيث أوضح قادة العالم من جميع القارات، بمن فيهم أصدقاء روسيا في الصين والهند، أن الاستخدام النووي سيكون غير مقبول، وندد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش والدبلوماسيون في عديد من اجتماعات الأمم المتحدة بالتهديدات النووية الروسية في خطاباتهم وبياناتهم، حتى أصبح من الواضح لبوتين أن انتهاك المحرمات سيؤدي على الأرجح إلى عزل روسيا بحيث ستصبح منبوذة على الفور، ووعد المسؤولون الأميركيون برد عسكري تقليدي ساحق، وليس بالرد بالمثل.
ومع ذلك، لا يزال الخطر قائماً من أن تستخدم روسيا سلاحاً نووياً في أوكرانيا، مع ميول المجتمع الروسي إلى التشدد النووي، وبخاصة على التلفزيون الروسي الذي تسيطر عليه الدولة، حيث يحث نجوم الإعلام بانتظام على استخدام الأسلحة النووية ضد الغرب، مما يعتبره مراقبون في الولايات المتحدة نوعاً من التعصب النووي الذي يهدد المحرمات.
من المخطئ؟
وعلى رغم أنه من المستحيل القول بشكل قاطع ما إذا كان الدعم الغربي الأوسع لأوكرانيا سيؤدي إلى رد روسي نووي، فإن المخاطر النووية في هذه الحرب كبيرة، حيث يستمر الناتو في الانخراط بشكل أعمق في الدفاع عن أوكرانيا بينما تبدو روسيا أقل تحفظاً كما يظهر في تعليق مشاركتها في معاهدة نيو ستارت.
ومع ذلك، يمكن أن يفشل الردع بطرق متعددة، إما من خلال الأفعال المتعمدة أو الحسابات الخاطئة، وسينظر إلى الاستخدام الروسي لسلاح نووي على نطاق واسع على أنه فشل لسياسة الولايات المتحدة، لأن قادتها سيتحملون مسؤولية الفشل في اتخاذ جانب الحذر لتجنب مثل هذه النتيجة الكارثية.