ملخص
رواية #رحيمي الفرنسية عنوانها أفغاني "سنغي صابور" وهي تتحدث عن أسطورة شعبية أفغانية موضوعها #حجر_سحري يمتص الكلام ليستخدمه ترياقاً ضد كل أنواع الشرور
إلى فترة قريبة قبل ذلك كان اسم خالد حسيني هو الاسم الوحيد المتداول في العالم بوصف صاحبه "الكاتب الأفغاني" بامتياز، ولقد أتت روايته "طائرات ورق في كابول" ثم الفيلم الذي اقتبس منها، وحقق نجاحاً عالمياً، ليعززا تلك المكانة. أما عتيق رحيمي، مواطنه المبدع بدوره، فإنه، إذا كان قد عرف على نطاق واسع، فإنما عرف أولاً كمخرج سينمائي بفضل فيلمه "أرض ورماد" الذي كان فاز بجائزة أساسية في دورة عام 2001 لمهرجان "كان" السينمائي الفرنسي. قلة أدركت يومها أن الفيلم مأخوذ عن رواية لرحيمي نفسه الذي كانت تجهل أنه روائي قبل أن يكون سينمائياً، وكتبت أصلاً بالفارسية وطبعت مرات عدة في إيران بعد أن محت الرقابة مقاطع عدة منها.
يد المتطرفين
في تلك المناسبة إذاً، عاد اسم عتيق رحيمي إلى الواجهة بوصفه أديباً هذه المرة. والأكثر من هذا: أديباً يكتب في الفرنسية ويفوز بجائزة "غونكور"، وهي أرفع جائزة أدبية في فرنسا (وكان سبق أن فاز بها الطاهر بن جلون، وأمين معلوف العربيان اللذان يكتبان بدورهما في الفرنسية، قبل أن تفوز بها كاتبة بالفرنسية أيضاً، كما أنها مغربية الأصل ليلى السليماني). واللافت أن رحيمي يكتب هنا للمرة الأولى في الفرنسية، مع أنه تعلمها منذ صغره في مدرسة فرنسية في كابول، وقبل أن يضطر إلى الهرب من بلاده بعد استيلاء حركة "طالبان" على السلطة، وتدمير حياته العائلية على يد أولئك المتطرفين، منتقلاً إلى فرنسا لاجئاً سياسياً.
رواية رحيمي الفرنسية عنوانها أفغاني "سنغي صابور" (حجر الصبر)، وهي تتحدث عن أسطورة شعبية أفغانية موضوعها حجر سحري يمتص الكلام ليستخدمه ترياقاً ضد كل أنواع الشرور، قبل أن ينفجر بدوره. هذه الرواية فتنت، كما هو واضح، لجنة تحكيم الجائزة الفرنسية العريقة. أما رحيمي نفسه، فإن أول ما فعله، بعد أن أعلن فوزه بالجائزة، وصار اسمه على كل شفة ولسان في فرنسا وخارجها أيضاً، كان كتابته مقالاً أحيا فيه ذكرى الشاعر الأفغاني الكبير برهان الدين مجروح، الذي اغتيل في باكستان على أيدي المتطرفين الأفغان والباكستانيين، قبل حصول رحيمي على جائزته بما لا يقل عن عقدين من الزمن، حين كان لاجئاً هناك هرباً من أولئك المتطرفين أنفسهم. وقال رحيمي في مقاله عن مجروح، إنه قرأ ملحمته الكبرى "آجداهاي خودي"، في وقت كان طالباً في جامعة "روان"، وهو في الوقت نفسه علم بأن هذا الشاعر الكبير قد اغتيل فـ "قلب هذا حياتي بأسرها".
الوجه الآخر لبلد شهيد
والحقيقة أن تلك المقالة التي كتبها رحيمي عن ذاك الذي قلب حياته رأساً على عقب، اعتبرت لفتة نبيلة من كاتب ينتمي إلى جيل شاب ويملك نظرة إلى العالم شديدة المعاصرة والانفتاح، بالتالي تتناقض مع الجلادين الذين اغتالوا الشاعر وهو في عز عطائه، وبالكاد أن العالم قد تعرف حينها على أفغان آخرين ينتمون إلى الإبداع فيما كان لا يعني كل ما يلامس أفغانستان سوى التطرف والحروب والإرهاب، فإذا انقلبت الأوضاع بات حديث أفغانستان حديث المخدرات التي كان الهيبيون منذ الستينيات يقصدون هذا البلد للحصول عليها! بالتالي، كانت ثمة حاجة دائمة لأن يتعرف العالم على وجه آخر من وجوه هذا البلد، وتحديداً من خلال شاعر كبير سقط ضحية لإرهاب المتطرفين. وبالنسبة إلى عتيق رحيمي لا شك أنه وجد انتشار اسمه في العالم مرة أولى كسينمائي، وبعد ذلك كروائي ذي موقف منصف ضد قاتلي بلاده، مناسبة تمكنه من أمرين معاً: من ناحية فضح أولئك الجلادين المتطرفين كجزء من الحرب الوحيدة التي يتقنها ضدهم: الحرب بالإبداع. ومن ناحية ثانية، إعادة الاعتبار لبرهان مجروح كرمز لإشعاع ثقافي عرفته أفغانستان يوماً، وكنموذج لـ"مبدع شريف وضع طاقاته ومواهبه في خدمة تلك البلاد التي أحبها" كما قال رحيمي وردد في حوارات صحافية أجريت معه وسط فضول صحافي عام يتساءل من أين جاء المبدع الشاب بهذا الوجه الكريم، ولكن أيضاً من أين جاء بكل ذلك النبل الذي جعله يبدي سلفه على نفسه في مناسبة، كان من شأن غيره أن يستخدمها للتركيز في الحديث عن "نفسه وعن ريادته وفرادته في الساحة الإبداعية الأفغانية".
بلا رحمة تجاه المبدعين
على هذا النحو، وسع رحيمي بالتدريج دائرة حديثه عن مجروح وعن نضال هذا الرجل وكتابته وتنويريته التي دفع ثمنها غالياً في مجتمع لا يريد للإبداع أن يكون له مكان في عالم الظلام الذي فرضه على تلك المنطقة من العالم، وراح بفرضه من جديد كلما أتاحت له الظروف العودة إلى الحكم. ولعل ما زاد من فداحة استشهاد مجروح اغتيالاً، في بيشاور الباكستانية التي كان قد لجأ إليها هرباً من مطاردة "طالبان" له يوم 11 فبراير (شباط) 1988، أي تحديداً عشية العيد الستين لمولده، بمعنى أنه، وهو المولود يوم الـ12 من الشهر نفسه عام 1928، كان يوم اغتياله مناسبة يحتفل الناس بها عادة. ومن هنا لم يراع القتلة لا سن الرجل ولا "حرمة" المناسبة وعاطفيتها. وطبعاً كما حدث في وقت متقارب مع مبدع آخر، هو هذه المرة المفكر اللبناني حسين مروة الذي اغتاله في بيروت متطرفون لا يختليفون مع قتلة مجروح إلا في هوية قادتهم، ومصدري الأوامر لهم بألا يرحموا المبدعين المشاكسين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكان مجروح، الذي كانت حال قتلته كحال قتلة حسين مروة، كحال محاولي اغتيال نجيب محفوظ في مصر، جهلة بالطبع، لا يعرفون شيئاً عمن أمروا بقتلهم. ومن هنا كان "منطقياً" جواب من حاول قتل نجيب محفوظ حين سئل عما إذا كان يعرف شيئاً عن "ضحيته" أو قرأ شيئاً من كتاباته أنه لم يعرف ولم يقرأ. صدر له الأمر فنفذه من دون أن يسأل.
ذكرى شاعر ومناضل
والحقيقة أن قاتل، أو بالأحرى قتلة مجروح، لو طرح عليهم السؤال نفسه لكان لهم الجواب نفسه. فهم ما كان من شأنهم أن يعرفوا أن من قتلوه غيلة كان كاتباً وشاعراً وفيلسوفاً وعالم فولكلور ومناضلاً سياسياً ينتمي إلى قبائل "البشتون"، لكنه ينظر إلى بلاده وشعب بلاده نظرة كونية ووطنية تتجاوز الإثنيات والعصبيات الضيقة والإيمان بما يسميه أمين معلوف "الهويات القاتلة". والحال أن مجروح كان، وعلى غراره سيكون "تلميذه" عتيق رحيمي الذي لن يتوقف عن تذكير العالم به، فرانكوفونياً نال شهادة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة "مونبيلييه" الفرنسية، ليدرسها لاحقاً في جامعة "كابول" ويصبح عميداً لكلية الآداب في الجامعة نفسها قبل انخراطه في العمل السياسي عضواً في مجلس الشيوخ وحاكماً لإقليم كابيسا، سائراً على خطى والده سيد شمس الدين مجروح الذي كان من أعلام التنوير والفكر السياسي الحر في بلده، ولا سيما حين تواكب لدى هذا الوالد العمل كعضو في البرلمان ووزير للعدل، ثم للشؤون القبلية، قبل أن يعين باختياره سفيراً لبلاده في مصر، حيث بقي في ذلك المنصب بين عام 1950 و1973.
حب وجمال وحرية
لكن ما يبقى من مجروح، ودائماً بحسب رحيمي، إنما هو كتاباته، وتحديداً كتابه الرئيس "الأنا – الوحش" (آجداهاي خودي) الذي، خلال ما لا يزيد على خمس سنوات لإصداره بالفارسية كما كتبه للمرة الأولى، ثم بلغة "البشتو"، وبدل من طبعاته واحدة بعد الأخرى حتى صدر بالفرنسية عام 1984، فاستقبل فيها، وفي لغات أوروبية أخرى، بوصفه كتاباً أسطورياً رمزياً يحكي عن الشعب الأفغاني بلغة صوفية وبأسلوب الحكاية التعليمية عبر حكايات تدور من حول وحش خرافي يسيطر على الناس مسمماً حياتهم وأفكارهم. والكتاب الذي يتمايز في نهاية المطاف عن عدد كبير من كتب فكرية وسياسية وقصصية أصدرها مجروح خلال حياته القصيرة (1928 -1988)، سرعان ما اعتبر حينها "كتاب أفغانستان، بامتياز، ثم لاحقاً الكتاب الذي "قتل صاحبه" بواسطة متطرفين يقدمون الصورة الأكمل لذلك الوحش. والحقيقة أن عتيق رحيمي، حين ركز حديثه في تكريم أستاذه على هذا الكتاب إنما كان يقدم مرافعة قوية، تتسم بالوفاء، للأقانيم الثلاثة التي شكلت دائماً محور حياة مجروح وفكره: الحب والجمال والحرية. وهي الأقانيم نفسها التي كانت دائماً محور حرب هذا الشاعر والمفكر ضد "الوحش" وأقانيمه: الأنانية والقسوة والتعاظم والعدمية التي ها هي لا تزال تحكم أفغانستان اليوم بعد ثلث قرن من اغتيال الشاعر.