انعكاسات احتجاز إيران الناقلة البريطانية "ستينا إمبيرو" لن يضع فقط طهران في مسار تصادمي مع لندن، بل سيمتد إلى الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، حيث سيجد الرئيس الأميركي دونالد ترمب نفسه مضطراً إلى عدم تجاهل التصعيد الإيراني. وسيقوي الحادث الأخير شوكة تيار الصقور بين مستشاري البيت الأبيض خصوصاً مستشار الأمن القومي جون بولتون ووزير الخارجية مايك بومبيو، في وقت ترددت أنباء نقلتها صحيفة "بوليتيكو" ونفاها ترمب بعد ذلك، عن فتح قناة خلفية للتفاوض بين محمد جواد ظريف وزير خارجية إيران الموجود في نيويورك، والسيناتور الجمهوري راند بول.
وبعدما أعلن ترمب أن احتجاز إيران الناقلة البريطانية يكشف عن حقيقة الإيرانيين، وأن إيران في مشكلة كبيرة الآن لأن اقتصادها معوّق بالعقوبات الأميركية، مؤكداً التواصل المستمر مع المسؤولين البريطانيين، يتوقع مراقبون في واشنطن أن يعير الرئيس الأميركي اهتماماً أكبر هذه المرة لمستشاره للأمن القومي جون بولتون الذي يطالب الرئيس ترمب دوماً بعدم السماح لإيران بمزيد من الصلف والغرور في محاولاتها أن تثبت للعالم استعدادها لتحدي الولايات المتحدة وحليفتها الأولى بريطانيا إلى آخر مدى.
ويعزز موقف بولتون وبومبيو سيناريو التصعيد الإيراني المتواصل، فخلال الأيام القليلة الماضية، أسقطت البحرية الأميركية طائرة مسيرة "درون" إيرانية بعدما اقتربت من قطع بحرية أميركية، وقبلها أحبطت الفرقاطة البريطانية "مونتروز" محاولة ثلاثة زوارق عسكرية إيرانية اعتراض سبيل ناقلة بترول تحمل العلم البريطاني في مضيق هرمز، كما احتجزت إيران سفينة تحمل علم بنما الأحد الماضي (14-7-2019) بدعوى أنها تهرّب نفطاً لدول أجنبية، في وقت تواصل إيران انتهاك الاتفاق النووي بتجاوز حدود تخزين اليورانيوم وتخصيبه، وتهدد بخروقات أكبر إذا لم تجد أوروبا وسيلة لتخفيف العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة.
طريق الخطر
وبينما اعتبر وزير الخارجية البريطاني جيريمي هانت أن إيران سلكت طريق الخطر بعد احتجازها الناقلة البريطانية، إلا أنه كشف أن لندن لا تبحث عن خيارات عسكرية حتى الآن بل عن طريقة دبلوماسية لحل الموقف، وأنه إذا تم تقييد الملاحة فستكون إيران هي الخاسر الأكبر، مشيراً إلى أن الرد البريطاني سيكون بطريقة مدروسة لكنها قوية.
وكان هانت قد ألمح إلى أن المملكة المتحدة قد تطلق سراح الناقلة الإيرانية "غراس 1" التي احتجزتها عند جبل طارق في الرابع من يوليو (تموز) الحالي بعد الاشتباه في أنها تحمل نفطاً إلى النظام السوري، بما يخالف العقوبات الأوروبية، إذا تعهدت إيران أن الشحنة التي تحملها الناقلة الإيرانية لن تصل إلى النظام السوري، إلا أن محكمة في جبل طارق مددت فترة احتجاز السفينة الإيرانية 30 يوماً.
استعراض عضلات
الجانب الأميركي من ناحيته بدا مدركاً أن الإيرانيين يستعرضون عضلاتهم باستخدام سياسة حافة الهاوية، فخلال تصريحاته للصحافيين على هامش منتدى "آسبن" الأمني في ولاية كولورادو الأميركية، قال الجنرال روبرت آشلي وهو ضابط استخبارات عسكرية رفيع المستوى، "إن إيران تسعى للبحث عن رد مماثل لاحتجاز بريطانيا ناقلة بترول إيرانية، مشيراً إلى أن الإيرانيين لا يسعون للحرب ولكن يستعرضون قوتهم".
وفي تحذير واضح من استمرار لعبة المخاطرة الإيرانية في أعالي البحار، عززت القيادة المركزية الأميركية من الدوريات الجوية فوق مضيق هرمز وتكثيفها بعد حادث احتجاز طهران الناقلة البريطانية، حيث أوضح الكولونيل إيرل براون المتحدث باسم القيادة المركزية الأميركية، أن عدداً من الدوريات الجوية الإضافية تحلق في المجال الجوي الدولي لمراقبة الوضع، كما أن القيادة البحرية الأميركية على اتصال بالسفن الأميركية العاملة في المنطقة للتأكد من سلامتها وجاهزيتها.
العملية "Sentinel"
قبل ساعات من احتجاز الناقلة البريطانية، كان بريان هوك الممثل الخاص الأميركي لإيران يفسر موقف الولايات المتحدة لعدد من الدبلوماسيين في واشنطن، حيث شرح لهم مبادرة الإدارة الأميركية لتحقيق الأمن البحري في مضيق هرمز، مشيراً إلى أن التوتر ارتفع بشدة مما يستدعي بالضرورة الحاجة إلى تشكيل تحالف دولي من قوات بحرية متعددة الجنسية، تعمل تحت اسم "العملية Sentinel" بهدف تعزيز الاستقرار لعمليات الشحن البحري، وتوفير ضمان للمرور الآمن وخفض التوترات في المياه الدولية في البحر العربي وعبر مضيق هرمز وأيضاً في خليج عُمان ومضيق باب المندب.
وأضاف هوك أن هذا الإطار الأمني البحري، سيمكن الدول من توفير حماية ترافق السفن التي ترفع علمها وتستفيد من التعاون بين الدول المساهمة في هذه القوة من أجل التنسيق ودعم نظم المراقبة ومتابعة حركة السفن في البحار.
وفي حين يُتوقع أن ترحب لندن بالمقترح الأميركي، وتستعد إلى مزيد من التنسيق العسكري المشترك مثلما تجلى في حرب العراق قبل سنوات، إلا أنها قررت سلفاً تعزيز وجودها العسكري البحري في المنطقة، فإضافة إلى أربع كاسحات ألغام بريطانية في الخليج والفرقاطة "مونتروز"، ستصل المدمرة "دنكان" إلى مضيق هرمز خلال أيام لحماية مصالح الشحن البحري البريطانية.
وكان المتحدث باسم الحكومة البريطانية قد صرح بأن الوجود العسكري البريطاني في الخليج مستمر منذ الثمانينيات كما توجد قواعد عسكرية بريطانية في المنطقة.
حسابات إيران
ينظر الإيرانيون إلى بريطانيا كأقرب حلفاء واشنطن، ولكنهم يعتبرونها أيضاً وسيطة لهم مع الأوروبيين، فبريطانيا لم تدعم القرار الأميركي بالانسحاب من الاتفاق النووي أو بفرض عقوبات اقتصادية على طهران، وكانت تعمل مع فرنسا وألمانيا وهي الدول الموقعة على الاتفاق النووي، لإنقاذ هذا الاتفاق من الانهيار، لكن نظرة إيران حيال بريطانيا تغيرت وربما اختلت، بحسب تعبير مراقبين في واشنطن، خلال الأسابيع الأخيرة.
مبعث هذا التغير لم يشكله فقط احتجاز بريطانيا للناقلة الإيرانية، وإنما عوامل عدة أخرى، منها المشاكل التي تعانيها بريطانيا في خروجها من الاتحاد الأوروبي، واستقالة رئيسة الوزراء تيريزا ماي، وانغماس البريطانيين في معركة التنافسات حول من سيخلف ماي، فضلاً عن انتقاد عدد من المسؤولين الأوروبيين خطوة احتجاز الناقلة الإيرانية، وهو ما أثار شكوكاً حول مدى صلابة التضامن الغربي في وجه إيران، ما جعل المملكة المتحدة هدفاً سهلاً للاستفزازات الإيرانية، خصوصاً بعد الخلاف الذي نشب مؤخراً بين ماي وترمب، الذي كرس فكرة الانقسام بين أهم حليفين على شاطئي الأطلسي.
لكن الإيرانيين يغفلون أن كل هذا الخلاف بين الولايات المتحدة وأوروبا كان دائماً يتعلق بالوسيلة الفضلى من أجل احتواء إيران، هل يكون ذلك عبر العقوبات أم عبر الاتفاق النووي؟ فلا أحد في أوروبا يدعم إيران، وهذا ربما ما يدركه العقلاء في طهران، لكن المتشددين ومن يدعمونهم في الحرس الثوري والجيش، ربما أساؤوا فهم الوضع على حقيقته، إذ إن ما يقوم به الحرس الثوري الإيراني من اعتراض السفن في الخليج يشكل مخاطرة كبيرة تستدعي إعادة الحسابات الإيرانية، ذلك أن قوتين عسكريتين مثل الولايات المتحدة وبريطانيا لن تسمحا لإيران بأن تملي شروطها وتضع قواعد الملاحة في الخليج.
حرب وشيكة أم استمرار للمناوشات؟
وبينما يبدي محللون سياسيون في واشنطن تفهمهم لبعض الدوافع الإيرانية في التصعيد المتواصل، ومنها محاولة كسب شعبية في الداخل الذي يئن تحت وطأة الأزمة الاقتصادية، إلا أنهم يبدون دهشتهم من إصرار إيران على زيادة الوضع سوءاً بتصرفاتها الاستفزازية بدلاً من انتهاج سياسة المواقف اللينة في وجه العقوبات الأميركية، ذلك أنها تُغذي الشكوك الغربية بأن هدف إيران البعيد كان دوماً دعم قوتها العسكرية وصولاً إلى التسلح النووي، وهي وسيلة غريبة لكسب الأصدقاء الدوليين.
ويشير مراقبون إلى أن سياسة إيران دفع العقوبات بالهجوم والتصعيد تخاطر باندلاع حرب إذا واصلت إيران استفزازاتها ووصلت الأمور إلى أزمة أكبر، حينئذ قد تكون تلك هي لحظة القرار للحلفاء الغربيين، خصوصاً أن الاحتجاز الأخير للناقلة البريطانية سيعوق استراتيجية إيران لدق إسفين بين الولايات المتحدة والقوى الأوروبية الأخرى التي لا تزال أطرافاً في الاتفاق النووي الذي ترغب إيران بالحفاظ عليه.
قبل احتجاز الناقلة البريطانية بساعات، كان وزير الخارجية الإيراني يقدم عرضاً دبلوماسياً لإنهاء الأزمة وهي توفير مساحة أوسع في تفتيش المنشآت النووية الإيرانية إذا خففت أميركا من عقوباتها على إيران، وهو أمر كان من المقرر أن تفعله إيران وفقاً للاتفاق النووي عام 2023، بالتالي لم يكن العرض الإيراني سوى تسريع في الجدول الزمني داخل الاتفاق النووي في حيلة مكشوفة لإحداث تغيير بسيط في الاتفاق بما يسمح بصك اسم الرئيس ترمب عليه ليصبح "اتفاق ترمب"، غير أن الحيلة الإيرانية لن تمر في ظل وجود مستشاري ترمب من الصقور الذين يعارضون فكرة تخصيب اليورانيوم في إيران بكل تفاصيلها.
ومع ضعف الطرح الإيراني واستمرار المواجهات، ينتظر البعض مزيداً من المناوشات والمغامرات بين إيران من جانب والولايات المتحدة وبريطانيا من جانب آخر.