لا أظن أن هناك أمة عليها أن تطرح مثل هذا السؤال مثلما هو بالنسبة لنا نحن العرب، إذ إن تطورات المائة عام الأخيرة منذ "سايكس بيكو" هي سنوات حافلة بالصعود والهبوط، بالانتصار والانكسار، كما أنها السنوات التي شهدت ميلاد الصراع العربي الإسرائيلي وتصاعد التدخل الأجنبي في المنطقة لسببين معروفين، أولهما حماية أمن إسرائيل التي جرى زرعها في المنطقة، لكي تكون قاعدة غربية تؤدي إلى تقسيم العالم العربي وتمزيق وحدته، ثم ظهور النفط في الجزيرة العربية، وما أدى إليه ذلك من فتح شهية القوى الكبرى للسيطرة على منابعه والتحكم في أسعاره، كما أنها العقود الأخيرة التي شهدت أيضاً الخلافات (العربية – العربية) وبروز سنوات المد الناصري ثم إخفاق تجربته القومية بسبب الضغوط الأجنبية ومحاولتها تحطيم المشروع القومي، فضلاً عن أنه فتح جبهات متعددة في وقت واحد، وإذا أردنا أن نفكر في مستقبل الوطن العربي فإننا نطرح ملاحظات ثلاث، يتعلق أولها بالمشروع القومي، ويرتبط الثاني بالمشروع الإسلامي، بينما يهدف الثالث إلى الحفاظ على الدولة الوطنية في مواجهة الرياح العاتية، والمواقف التي تستهدف تقويض بنيانها، والقضاء على وجودها لصالح حالة من الفوضى المسماة خلاقة، بينما هي في حقيقتها محاولة للقضاء على الدولة العصرية الحديثة في المنطقة العربية، وتحويلها إلى كيان هش لا ينهض أبداً، وسوف نتناول هذه الأطروحات الثلاث على النحو التالي:
أولاً: إن المشروع القومي كان بمثابة الحلم الذي يتعلق به العرب خلال القرنين التاسع عشر والعشرين ولكن الحرب عليه جاءت من اتجاهات مختلفة، أولها الوجود العثماني بكل ما يحمل في طياته من تخلف سياسي وقهر سلطوي، ثم دخل الغرب الأوروبي طرفاً فاعلاً ومتواكباً مع مسار الحركة الصهيونية إلى أن اقتحم المنطقة المشروع الأميركي بأطماعه المباشرة ومحاولاته أن يكون بديلاً للنفوذ الأوروبي منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وبذلك دفع العرب الضريبة عدة مرات، مرة للعثمانيين الأتراك، وأخرى للأوروبيين خصوصاً بريطانيا وفرنسا، وثالثة للولايات المتحدة الأميركية حيث أعلن الرئيس الأميركي الأسبق "دوايت إيزنهاور" عن نظرية الفراغ في الشرق الأوسط تحت مسمى "مبدأ أيزنهاور"، ثم كانت المواجهة الحادة بين القوى التقدمية المرتبطة بالاتحاد السوفييتي السابق ويقودها "عبد الناصر" في مصر و"عبد الكريم قاسم" في العراق وقيادات البعث العربي الاشتراكي في سوريا الكبرى، بينما بقي المعسكر الآخر وهو ما نطلق عليه المعسكر المحافظ على علاقة جيدة بالغرب، خصوصاً أن الثروات التي يملكها تدفع الولايات المتحدة الأميركية وحلفاءها إلى الحفاظ على علاقات أفضل معهم، وقد ظل الأمر كذلك إلى أن جرت "النكسة العسكرية" بهزيمة العرب عام 1967، ثم رحيل "عبد الناصر" بعد ذلك بسنوات قليلة، ووصول "أنور السادات" إلى الحكم، وهو الذي أجرى تغييرات فكرية على سياسات المنطقة وتبني مدرسة "كامب ديفيد"، التي لم تتمتع وقتها بجمهور عربي غالب، ولكنه أصر على ما يريد حتى جرى اغتياله في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1981.
ثانياً: لقد ارتبط ميلاد المشروع الإسلامي بإرهاصات مبكرة جسّدتها كتابات "عبد الرحمن الكواكبي" و"شكيب أرسلان" و"محمد رشيد رضا" وغيرهم ممن فتحوا الباب أمام الشيخ "حسن البنا" المصري، ليبدأ دعوته في مدينة الإسماعيلية عام 1928، وهي الدعوة التي سرت كالنار في الهشيم، ووصلت إلى القرى والكفور والنجوع، ثم امتدت إلى أطراف العالم العربي والإسلامي لتقدم نهجاً جديداً في شكل مشروع ظهرت ملامحه بقوة في الأطماع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين والطموحات التي لم تتوقف عند حد، وقد ظل الصدام قائماً بين الجماعة والدولة في العصرين الملكي والجمهوري، وعندما اتجهت الجماعة إلى العنف، واعتمدت عمليات الاغتيال السياسي أسلوباً فإن قياداتها عرفت السجون بل والمشانق، وكانت المواجهة الحادة في عصر الرئيس عبد الناصر الذي حاولوا اغتياله في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1954 مما أدى إلى حل الجماعة للمرة الثانية بعد أن حلها "إبراهيم باشا عبد الهادي" بعد اغتيال "أحمد ماهر" و"النقراشي" رئيسي الوزراء والقاضي "الخازندار" أمام منزله في ضاحية المعادي، وعندما تلطّخ ثوب الجماعة بالدماء فإنها أصبحت طرفاً علنياً في الحياة السياسية، ولم تعد مجرد جماعة دعوية دينية وعندما حدثت نكسة عام 1967 ردد الناس في مصر، بل وفي العالمين العربي والإسلامي أن الهزيمة جاءت عقوبة إلهية على تمرد "عبد الناصر" على المشروع الإسلامي وحربه على الإخوان طوال سنوات حكمه، واستجاب عبد الناصر في سنواته الأخيرة لذلك الطرح الجديد حتى كان أول ظهور له بعد أيام من النكسة في مناسبة دينية جرى اختيارها وكأنما يعتذر لأصحاب المشروع الإسلامي عن ارتباطه الشديد بالمشروع القومي العروبي، الذي جرت هزيمته في 5 يونيو (حزيران) عام 1967، وعندما رحل "عبد الناصر" عام 1970 وتولى "السادات" الحكم من بعده فإنه فتح الأبواب واسعة أمام التيار الإسلامي لكي يضرب به نفوذ بقايا اليسار المصري وحاملي مباخر الناصرية عموماً، ولكن لأن التعامل مع التيار الإسلامي أمرٌ تحوطه الاحتمالات والمفاجآت فإن الزمام أفلت من يده وجرى اغتياله بين ضباطه وجنوده في يوم الاحتفال بعيد انتصاره، ولكن المشروع الإسلامي كان قد ترسخ تماماً وامتدت جذوره في معظم الدول العربية والإسلامية، بل ووجد له مؤيدين ومناصرين بحكم تجذر المشاعر الدينية لدى المسلمين، بل إن الأمر لم يقف عند هذا الحد فقد أحيا ازدهار المشروع الإسلامي المشاعر المسيحية المكبوتة في المنطقة، وظهرت المشكلات الطائفية في مصر عندما اصطدم بابا الأقباط "شنودة الثالث" بالرئيس الراحل "أنور السادات".
ولقد ازدهر المشروع الإسلامي ازدهاراً كبيراً وامتدت تأثيراته إلى الشارعين العربي والإسلامي في وقت تراجع فيه المشروع القومي بحكم الضربات المتلاحقة التي وجهتها له الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها في الغرب بل وإسرائيل مع تشجيعهم المستتر للمشروع الإسلامي.
ويكفي أن نتذكر حماس السلطات البريطانية لميلاد جماعة الإخوان المسلمين ودعم دولة إسرائيل لميلاد حركة المقاومة الإسلامية "حماس" فهم يجدون أن التعامل مع المشروع الديني الإسلامي أيسر وأفضل من التعامل مع المشروع القومي العروبي.
ثالثاً: عرف الوطن العربي موجة ثالثة كادت تقوض أركانه وتحطم دعائم الدولة الوطنية فيه، وأعني بذلك ما سمى بالربيع العربي الذي كان يحمل رياح التغيير ولا يتوقف عند حدود معينة، بل يسعى إلى خلق حالة من الارتباك في النظم القائمة، التي لا ندعي أنها كانت في أفضل أحوالها، بل إن بعضها قد تجاوز عمره الافتراضي وانتهت صلاحيته، ولكن البدائل كانت مخيفة على الجانب الآخر فهي الفوضى وتأليب القوى السياسية على بعضها وإتاحة الفرصة لتمكين جماعة الإخوان المسلمين باعتبارها أكثر التنظيمات السياسية جاذبية واستعداداً حتى خرجت الجماهير ترفض المشروع الذي يدعمه "أردوغان" - السلطان العثماني الجديد - في آخر عاصمة للخلافة الإسلامية، ولقد نسفت الجماهير التي تظاهرت بالملايين في مصر وغيرها المشروع الإخواني التركي ولكن بقيت المواجهة قائمة حتى الآن رغم التوجهات الإصلاحية في بعض الدول العربية وفي مقدمتها ما جرى في السعودية والأطروحات الجديدة لولي العهد الأمير "محمد بن سلمان" والتي يسعى من خلالها إلى عصرنة الدولة واللحاق بركب العالم المتقدم والدولة الحديثة.
هذا طواف حول الملاحظات المرتبطة بالمستقبل العربي، الذي يخرج بالأمة من دائرة الصراع والضغوط الأجنبية والتدخلات الخارجية إلى عصر استقرار وثبات الدولة الحديثة.