Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الشرقيات" لهوغو... "انتهازية" العنوان لم تلغ الشعرية

الشاعر الشاب يناصر الثورة اليونانية ضد العثمانيين

تمثال لفكتور هوغو (1802 – 1885) (متحف لوكسمبورغ)

ملخص

الحقيقة أن مجموعة #"الشرقيات" أحدثت ثورة في عالم #الشعر_الفرنسي ذلك أن #هوغو غض الطرف فيها عن كل ما كان متعارفاً عليه بالنسبة إلى الأساليب والمناهج الشعرية السائدة

كان لافتاً في متحف "غريفن" للتماثيل الشمعية وسط العاصمة باريس أن إدارة المتحف، وقد جعلت من اقتراب نهايات القرن العشرين مناسبة يمكن التوقف عندها، خصتها بمجموعة من عروض شديدة الخصوصية، واختارت فكتور هوغو، الذي كانت الذكرى المئوية لرحيله قد مرت منذ حين وسط صخب إعلامي ووطني، ليكون هو، بل تمثاله الشمعي بالأحرى، من يتولى ختام المعرض بخطبة رائعة عن مجيء الأزمان المقبلة المأمول بها أن تحقق أعز أمنيات الجنس البشري. ونعرف أن تلك الخطبة إنما أخذت من لغة هوغو نفسه ومواقفه التقدمية المستقبلية، ونعرف أن الخطبة لقيت قبولاً عاماً وقوبلت بتعليقات تؤكد مكانة هوغو السياسية والفكرية والأخلاقية، حتى وإن لفتت أن قرناً بأكمله قد مر ولم يتحقق كثير من أمنيات صاحب "البؤساء" وغيرها من أعمال أدبية شامخة طاولت كل الأنواع، لكن ذلك القرن كان قد أعطى هوغو حقه من حب مواطنيه وعامة الأوروبيين واحترامهم بل اعتباره مثالاً أخلاقياً ونضالياً يحتذى.

 

انتهازية ما

ومع ذلك لم يفت يومها الصائدون في الماء العكر أن يذكروا للمناسبة بما اعتبروه، على سبيل المزاح إلى حد ما، "سقطة أخلاقية بسيطة" وقع فيها كاتب الأمة الكبير، ولكن حين كان بعد في الـ27 من عمره، لمناسبة صدور ثاني مجموعة شعرية له، بل المجموعة التي ستكرسه شاعراً كبيراً منذ تلك السن المبكرة بعد أن كانت واحدة من مسرحياته التاريخية الأولى "كرومويل" قد أبرزته ككاتب مسرحي كبير، ولكن فتحت عيون السلطة واسعة عليه، بالنظر إلى أن تعاطفه في مسرحيته كان مع الثائر "الجمهوري" الذي كاد يغير وجه التاريخ بانقلابه على الملكية البريطانية، بالتالي قد يمكن الموافقة بسهولة على ما قاله أولئك الذين لم يفتهم أن يلمحوا "شيئاً من الانتهازية" في ذلك العنوان الذي اختاره هوغو لمجموعته الشعرية المبكرة التي كان أصدرها في عام 1829، والمجموعة هي "الشرقيات"، وكانت مجموعته الشعرية الثانية بعد "أناشيد وأغان" التي كان جرؤ فيها على إخراج الشعر الفرنسي من كلاسيكيته القاتلة.

 

التحاقاً بالاستشراق الرائج

ففي نهاية الأمر لا شك أن استخدام عنوان "الشرقيات" للمجموعة كان فيه شيء لا بأس به من الانتهازية، لأن قراءة معمقة لكل قصائده لا تدل على أنه يتحدث حقاً عن أي شرقيات، كل ما في الأمر أن الموضة الاستشراقية كانت رائجة في ذلك الحين، وكان الرسامون يلقون رواجاً حينما يرسمون لوحات تمت إلى الشرق بصلة، وكذلك كانت حال المسرحيين والروائيين ولا سيما مبدعي بعض الأعمال الأوبرالية الكبيرة الذين كانوا يسيرون في ذلك على خطى موتسارت، مستقين بعض أعمالهم إما من حكايات العهد القديم وإما من حكايات "شرقية" متداولة تحاكي "ألف ليلة وليلة" أو تستقي منها في شكل مباشر.

أما الانتهازية التي أدخلها الشاعر على ذلك الحراك كله إذاً فكانت اختباءه خلف أوهام الشرق الساحر الغريب، وفقط لمجرد الإيحاء بأن الحديث في تلك المجموعة الشعرية التي ستتخذ أهميتها التاريخية الكبرى بعد ذلك، يجري عن نساء ذلك الشرق الساحر، لكي يجر قارئه إلى الإقبال على الديوان، وهكذا كان، حيث منذ ذلك الحين لم ينفصل العنوان عن الكتاب، وظلت مجموعة "الشرقيات" تعتبر الأشهر بين جميع المجموعات الشعرية التي أصدرها هوغو طوال مساره الأدبي الذي زاد على 65 عاماً، وهو الذي مات عن عمر ناهز الـ83.

سياسة وشعر وتجديد

والحقيقة أن مجموعة "الشرقيات" بصرف النظر عن المضمون "الاستشراقي" المفترض فيها، سواء أكان ذلك المضمون حقيقياً أم شبه حقيقي، أحدثت ثورة في عالم الشعر الفرنسي، ذلك أن هوغو غض الطرف فيها عن كل ما كان متعارفاً عليه بالنسبة إلى الأساليب والمناهج الشعرية السائدة، ليخوض، في جرأة مدهشة، لغة شعرية جديدة، تجدد في الأوزان والقوافي وفي استخدام المفردات، ناهيك بما تمتلئ به من صور شعرية وصفية وتعبيرية يمكن القول إن معظمها كان جديداً على الشعر. وهو أمر تأخر التنبه إليه على أية حال، بالنظر إلى أن المهتمين لم يروا في المجموعة أول الأمر سوى بعدها الاستشراقي، ناهيك بأنهم رأوا فيها ما يستكمل ويعكس، في الوقت نفسه، تجربة الشاعر البريطاني لورد بايرون الذي كانت أعظم قصائده تلك "القصيدة العملية" التي تمثلت في ذهابه إلى اليونان مساهماً في حرب شعبها التحررية ضد العثمانيين. والواقع أن جزءاً من مجموعة "الشرقيات" يخوض في مثل هذا الأمر ويشكل تحية إلى النضال اليوناني، من دون أن ننسى أن اليونان كانت تعتبر في ذلك الحين جزءاً من الشرق، من ناحية بسبب موقعها في شرق أوروبا، ومن ناحية ثانية بسبب احتلال العثمانيين لها. وكان من الطبيعي لهذا كله أن يكشف مبكراً عن نزعة فكتور هوغو الرومنطيقية، بل يضعه في الصف الأول بين الرومنطيقيين، إذ إن النضال في اليونان نفسه كان يعتبر منطلقاً من نزعة رومنطيقية.

بين هوغو وديلاكروا

إذاً يمكننا أن نقول إن "الشرقيات" جعلت هوغو واحداً من أساطين النزعة الرومنطيقية، هو الذي قدم في طريقه، وفي السياق نفسه إلى اللغة الفرنسية أعمالاً شعرية تضاهي، في الأقل، أعمال ديلاكروا في مجال الرسم. والحال أن الموازاة بين الاثنين قد تصل بنا إلى حدود مدهشة: فديلاكروا اهتم بنضال اليونانيين لكنه رسم أيضاً مشاهد الحياة الشرقية، لا سيما على أثر زيارته شمال أفريقيا، وديلاكروا، أيضاً، مثل هوغو، دنا من موضوعه من دون أي أفكار سياسية مسبقة، أي إنه أبداً لم يعتبر نفسه بالنسبة إلى مثل هذه القضية أنه يشغل موقعاً يتيح له أن يقف موقفاً منحازاً في صراع يفترض أن الشرق فيه يجابه الغرب، أو أن الغرب يدافع عن قيم معينة خوفاً من "تدمير" الشرق هذه القيم.

اقرأ المزيد

بالنسبة إلى هوغو كان الموقف المعبر عنه هو موقف الانتصار لقيم التقدم والثورة، ضد قيم الجمود، لا أكثر ولا أقل ومن دون أن يكون واضحاً لديه أن ثمة من يمثل ذلك التقدم صراحة في مواجهة من يمثل الجمود، ويقيناً أن ثمة من بين قصائد "الشرقيات" ما يعبر عن هذا كله، ناهيك بتعبيره عن مناصرة النضال اليوناني، ومهما يكن من أمر، فإن التقدم والثورة لم يكونا يعنيان لهوغو، الانفصال عن الماضي، ذلك أن نزعته الرومنطيقية كانت تجعل الماضي حاضراً، أو ضروري الحضور. أفلم يكن هو، على أية حال، من كتب يطالب للأدب الفرنسي، وللشعر خصوصاً، بأقصى درجات التحرر من دون أن يفوته أن يعلن إيمانه بأن الأدب المنشود إنما هو ذلك "الأدب الذي تمكن مقارنته بمدينة من مدن العصور الوسطى"؟

سحر الشرق وأوهامه

وكما أشرنا فإن حرب التحرير اليونانية ضد الاحتلال العثماني أوحت لهوغو بعدد لا بأس به من قصائد المجموعة، وفي مقدمتها "كاناريس" و"رؤوس السرايا" و"نافارين"، ولكن لا بد من الإشارة هنا إلى أن معظم هذه القصائد، على رغم راهنية مضامينها، طغى عليها نوع من التشبث بالماضي: الحرية يجب الحصول عليها في اليونان، ليس من أجل بناء مستقبل أفضل لشعبها، بل من أجل بعث ماضيها العظيم. ولما كانت الحرب في اليونان أعادت إلى الواجهة ذلك الاهتمام العميق بالشرق وسحره، كان من الطبيعي لفكتور هوغو أن يكرس بقية القصائد، وهذا ما يبرر العنوان على أية حال، للحديث عن الشرق، وسحره وقصوره، وحريمه وحكاياته وأجواء "ألف ليلة وليلة"، من دون أن يهتم هنا بالحرب الطاحنة التي كانت في خلفية القصائد الأخرى، بل نجده يمد اهتمامه حتى يشمل إسبانيا الأندلسية كجزء من الشرق، إذ نجده في كثير من القصائد يهتم بها. وهنا في مثل هذه القصائد لا بد من أن نلاحظ أن هوغو لا يعود يرى الحرب نصب عينيه، فيروح غائصاً في الغرب الاستشراقي التقليدي وسط الديكورات المتخيلة الساحرة، ودائماً بعناوين يمكن اليوم أن تحيلنا على أعمال استشراقية أخرى مثل "المستحمة" و"المارش التركي" و"لازارا" وغيرها. ونعرف على أية حال أن فكتور هوغو (1802-1885) بدا دائماً من خلال إبداعه مفكراً ذا نزعة اشتراكية وجمهورية، في لحظات متألقة من حياته، كما كان أحد كبار مبتدعي الروايات التي تنشر مسلسلة في الصحف.

المزيد من ثقافة