انهالت الأسئلة عليَّ في واشنطن من الإعلام ومراكز الأبحاث ومن مهتمين بالقضايا الخارجية، ولا سيما الشرق أوسطية، بمجرد أن أعلنت بكين عن توقيع اتفاق إعادة السفارات وتطبيع العلاقات بين "الجمهورية الإسلامية" في إيران والسعودية، مستفسرة، مستوضحة، ومبدية شيئاً من القلق. ومن بين أهم الأسئلة تلك المتعلقة بخيارات المملكة تجاه إيران وأيضاً تجاه الولايات المتحدة، وعبرت غالبية هذه التساؤلات التي غذتها التحاليل الصحافية المتوترة عن خشية الرأي العام الأميركي والغربي من المجهول، ومما يدبر "وراء الكواليس". والذي صدم الناس المتسائلة أن الأمر لم يكن مهيئاً في الإعلام، وظل في طي الكتمان حتى ساعة الإعلان، مما أشاع موجة هوليوودية فجرت إشاعات بكل الاتجاهات، وزاد موقف الإدارة شبه الصامت ضياعاً في ما يتعلق بسبب هذا الاتفاق المباشر. فتلخص يوم الإعلان في بكين بعبارة واحدة في حلقات واشنطن؟ What's is going on "ماذا يجري؟".
إذا تذكر قرائي مقالاً نشرته في "اندبندنت عربية" في 28 فبراير (شباط)، بعنوان "المحور الصيني – الروسي والقلعة الآسيوية"، سيلاحظون الكلام التالي في المقطع الأخير:
"إن حرب أوكرانيا أنتجت أزمة اقتصادية عالمية، ولا سيما على صعيد الطاقة، مما أدى إلى تطور ملحوظ على صعيد سياسات الدول المعتدلة في آسيا، التي اتجهت لمواقع أكثر حيادية بين واشنطن وموسكو، فرأينا كيف صوتت بعض هذه الدول المهمة باتجاه متأنٍّ ودقيق، كل على قياس أجنداته. فنمت الكتلة الآسيوية المحايدة بشكل كبير، كما شاهدنا الدبلوماسية الخليجية تتنقل بين موسكو وكييف للعب دور الحكم بقدر المستطاع".
وهذا كان لب التحليل في مقاربتي لتطور الموقف العربي والخليجي، وفي قلبه الموقف السعودي، وكنت قد حذرت من أراد الاستماع في واشنطن عبر مقالات ومحاضرات، ومنذ سنوات، بخاصة في السنتين الماضيتين، أن تعاطي الإدارة مع الحلفاء العرب لا بالمستوى المطلوب ولا بالعمق اللازم، إذ إن إدارة باراك أوباما ذهبت بعيداً في شراكتها مع إيران و"الإخوان"، رامية الدول والمجتمعات العربية والمشرقية خارج الملعب، بهدف إقامة الشراكات مع الإسلاميين في المنطقة، وهذا أدى إلى أزمة الثقة الأولى بين واشنطن والمنطقة، ثم جاءت سنوات الرئيس السابق دونالد ترمب وأطلق تحالفاً لا مثيل له بين الطرفين من "قمة الرياض"، حيث تقرر عزل إيران وإنهاء الميليشيات وضرب تنظيم "داعش". واستمر الحلف العربي - الأميركي أربع سنوات والتزمت المملكة وشركاؤها الأجندة المشتركة على جميع الجبهات، بدءاً بمواجهة الحوثيين ودعم المجتمعات التي واجهت طهران، إضافة إلى اقتلاع تنظيمي "القاعدة" و"داعش"، والأهم نزع شرعية الأيديولوجيات الإسلامية المتطرفة.
ونفذ التحالف والسعودية موجباتهما كاملة إبان رئاسة ترمب، على رغم حملة قاسية شنها الإعلام الأميركي ضد القيادة السعودية في عام 2018 بهدف عزلها من دون نجاح، ولكن التقلب في السياسة الخارجية الأميركية بعد انتهاء إدارة ترمب وتولي إدارة الرئيس جو بايدن، وضع السعوديين ومعهم سائر العرب في موقع صعب. فهم استمروا بالتزامهم بالسياسة المتفق عليها مع ترمب، إلا أن إدارة خلفه انقلبت عليها. فكان أن إدارة بايدن عادت وانقلبت على السياسة الأميركية التي تم الاتفاق عليها مع معظم المنطقة منذ عام 2017، وكوعت عنها إدارة بايدن. فوجد التحالف العربي نفسه في عام 2021 ذاهباً إلى الحرب مع إيران، بينما الإدارة الأميركية ذاهبة إلى السلم مع طهران! وبات الأمر غير طبيعي على القيادات العربية، فكان لا بد من مراجعة الحسابات وإعادة تنظيم الاستراتيجيات.
الاستراتيجيات العربية الجديدة
وبعد استمرار سياسة إدارة أوباما عبر إدارة بايدن بتجاهل التحالف العربي وقلق العواصم العربية من الأخطار التوسعية والإرهابية للراديكاليين في المنطقة، ومشاهدتهم تسليم أفغانستان لحركة "طالبان" بعد 20 عاماً من الدعم، وبعد أن صدموا من رؤية الهرولة الغربية باتجاه طاولة المفاوضات مع الإيرانيين من دون دعوة التحالف العربي المعني الأول بالبعد الإقليمي، بدأت تتكون اتجاهات لدى بعض الدول العربية أن مصالحها الوطنية يجب أن تأتي قبل التحاقها الدائم بسياسات واشنطن، لا سيما بعد أن بات واضحاً أن إدارة بايدن ماضية في وضع مصالحها المرتبطة بالاتفاق فوق أي اعتبار، بما فيه الأمن القومي لشركائها العرب والشرق أوسطيين. من هنا، كما شعرنا بها من واشنطن، بدأنا نرى ملامح عقيدة مصلحة "الأمن الوطني السعودي"، والأجندات الوطنية للإمارات ومصر، وغيرها من الدول النافذة في المنطقة التي باتت تضع أولوياتها الوطنية أولاً، ومن ثم مصالحها القومية الإقليمية، وبعد ذلك تختار المواقف الدولية التي تناسبها، وليس ما يفرض عليها من أية عاصمة قوى كبرى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقد أشرت إلى ذلك في لفتات عدة في مقالاتي ومقابلاتي، أن الدول العربية ما بعد "قمة الرياض" لم تعد دول ما قبلها، وأن التعاطي معها يجب أن يأخذ في الاعتبار عينه أمنها القومي ومصالحها الاستراتيجية الحيوية، إلا أن إدارة بايدن استمرت في محادثاتها الأحادية مع النظام الإيراني من دون شركائها الإقليميين. ومن ناحية ثانية استمرت البيروقراطيات الأميركية بتفضيل الإسلاميين و"الإخوانيين" عن غيرهم في برامجها للتنمية والمساعدات الإنسانية و"نشر الديمقراطية"، فباتت الحاجة إلى استراتيجية عربية دولية بديلة مسألة وقت، وانفجرت حرب أوكرانيا.
أوكرانيا الفتيل للبديل
ومع اجتياح روسيا أوكرانيا العام الماضي تغير العالم. وضع الغرب عقوبات قاسية على موسكو وسلح الأوكرانيين لإجبار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على الخروج "منهزماً"، فوقفت الصين إلى جانب الاتحاد الروسي، وانقسم مجلس الأمن، وانفجرت أزمة الطاقة العالمية. صعد بايدن وفريقه "الحرب البترولية" ظاناً أن "الخليج" سيتبع "الإرشادات" عبر زيادة الإنتاج النفطي لكسر هيمنة موسكو على السوق الأوروبية، ولكن ذلك لم يحدث، بالعكس عرضت السعودية ودول خليجية أخرى مبادرات وساطة بين الدولتين السلافيتين. فسافر بايدن ليلتقي القيادة السعودية والعربية في قمة في جدة ليضغط عليها لتعويم السوق بالمحروقات وتعبئة "أوبك" "لتضبط" الأسعار، من دون أن يستشير شركاءه العرب في وضع أية استراتيجية بديلة "لضبط" الأعمال الإيرانية. فأرادت الإدارة أن يشن التحالف العربي حرباً نفطية كونية على روسيا، ويتعرض لضربات إيرانية انتقامية بينما الإدارة تمرح وتسرح في فتح أبواب التجارة مع طهران الحليفة لموسكو، تنفيذاً "للاتفاق!" وعلى هذا المفترق بات منطقياً من موقع التحالف أن يعيد تموقعه دولياً، من تابع أعمى لواشنطن إلى موقع المستقل المتوازن التابع لنفسه.
نمو السعودية
وبينما إدارة بايدن والغرب منهمكون بالحرب الأوكرانية الطويلة، ومصرون على تمويل "الجمهورية الإسلامية" لإقناعها بالتعاون، يمر الزمن على الشرق الأوسط وعلى حياة شعوبه من المحيط إلى الخليج، والخيار عندها بات بين اللحاق بسياسات الغرب الحالية الرافضة حسم الأمر مع الراديكاليين من جهة، أو اتباع منهج مستقل يؤمن لها مصالحها حتى عودة التكامل والتناغم مع الكتلة الغربية، والأمر هو أكثر إلحاحاً بالنسبة إلى المملكة التي أطلقت قيادتها أكبر مشروع للتنمية في تاريخها بعد إنجاز خطوات كبيرة في الإصلاح السياسي والاجتماعي، وقد بدأت بثورة اقتصادية تحديثية واسعة النطاق في مناطق عدة من السعودية. لذا فالسؤال الأساسي الذي يطرح منطقياً، هل تخاطر الرياض بكل ذلك وبمستقبل الأجيال الآتية لتستمر بحروب عالمية ضد الإرهاب خارج نطاق الدفاع عن أمنها القومي؟ لماذا تضحي المملكة بقدرات خارج أمنها المباشر إذا ما اختفت أميركا وأوروبا عن الساحة لأنهما تستفيدان مالياً من اتفاق أبعدت السعودية وشركاؤها عن مفاوضاته؟
وبالتالي فالرياض اختارت طريقاً (ولو أنه لا يزال اختبارياً) آخر للتموقع، يحيد الخطر المباشر عن المملكة، ويلجم إيران عبر الصين، ولا يقطع العلاقات التاريخية مع الغرب. وأدخلت الدبلوماسية السعودية كلاماً ثقيلاً عن ضرورة الكف عن دعم الميليشيات الإيرانية في أربع دول عربية، أكان ذلك سيتحقق أم لا، يبقى من المسؤولية الإقليمية والدولية ومسؤولية شعوب المنطقة. بالمقارنة فشروط القيادة السعودية على إيران لإعادة العلاقات الطبيعية هي أقسى بكثير من شروط أوباما - بايدن على طهران، إذ لا التزام بتمويل طهران وإرسال أضخم الشركات لتعويمها، بل تطبيق مبادئ "حسن الجوار". فالمقياس الأكبر لنجاح الآلية سيكون وقف الحرب الحوثية في اليمن، والتزام عدم الاعتداء على الخليج، وعدم التعبئة ضد المملكة. فإذا التزمت إيران ذلك كان به، وإذا لم تلتزم فلكل حادث حديث. لذا، فالسؤال الآن يتحول إلى طرفي إعلان بكين الثلاثي: ما أجندة إيران وراء التطبيع مع جارتها عبر الخليج وما حساباتها؟ وفي الوقت نفسه ما خطة الصين في الشرق الأوسط ما بعد التطبيع إذا حصل؟ وبعدها نستعرض ردود فعل الأطراف الأخرى من عرب وإسرائيليين وأميركيين، ولكن في مقالات آتية.