ملخص
اختار الرعاة الرحل الاستقرار في ضواحي العاصمة #تونس حاملين معهم خصوصياتهم البدوية من تربية الإبل والأغنام والدجاج ولا تعنيهم الكماليات وتفتقد حياتهم البسيطة إلى المرافق الأساسية من ماء وكهرباء
تونسيون لا يستقرون بمكان، اختاروا الترحال من شمال البلاد إلى جنوبها، يقيمون في خيام بالية، يحطون حيث يوجد الكلأ لمواشيهم، ويكتفون بالحد الأدنى من الضروريات، والكماليات لا تعنيهم كثيراً، فقط كل ما يبحثون عنه هو الماء والحشائش لإبلهم، الخيام التي يقيمون فيها بالكاد تقيهم برد الشتاء، لذلك يغطونها بغطاء بلاستيكي لتحميهم من الأمطار.
إنهم البدو الرحل، قصتهم متأصلة في تاريخ تونس، خصوصاً بالصحراء، عندما كان اقتصاد البلاد قبل الاحتلال الفرنسي في 1881، يقوم على الاقتصاد الرعوي من خلال تربية الإبل بالجنوب، والأغنام والماعز في الوسط، والأبقار بالشمال نظراً إلى وفرة الأمطار.
على تخوم العاصمة، وقرب سبخة السيجومي، تنتصب الخيام في مجموعات، وبينما ترعى النساء الإبل والأغنام، يبيع الأطفال حليب النوق على الطرقات، وأغلبهم لم يلتحقوا بالمدرسة العمومية.
الاقتصاد الرعوي
المؤرخ عبدالجليل بوقرة قال في تصريح لـ"اندبندنت عربية" إن "السلطات الفرنسية في عهد الاستعمار حاولت الحد من ظاهرة تنقل البدو الرحل بين تونس وكل من ليبيا والجزائر لأسباب أمنية، لذلك بدأت بتشييد بعض القرى بالجنوب، ووفرت نقاط مياه، من أجل إرغام هؤلاء البدو على الاستقرار، لكنها لم تفلح في ذلك، وواصل البدو الرحل نمط عيشهم إلى اليوم، وهم يتنقلون بحرية في عمق الصحراء، ويصلون إلى الأراضي الجزائرية والليبية، بينما يعلم حرس الحدود عن تنقلاتهم".
وأضاف بوقرة أن "أسباب تنقلهم تعود إلى ندرة المياه في الجنوب والوسط، لذلك عملت الدولة الوطنية بعد الاستقلال على بناء السدود الجبلية والآبار العميقة من أجل استثمار التساقطات المطرية وحتى يتوفر المرعى لجميع الفلاحين بمن فيهم البدو الرحل".
وأشار إلى أنه "بعد 2011، وفي ظل حال الانفلات التي تعيشها البلاد، تم استنزاف المائدة المائية بحفر الآبار بطريقة عشوائية ومن دون تراخيص، مما أسهم في تراجع المائدة المائية، وتقلص المساحات الرعوية فارتفعت أسعار الأعلاف، مما دفع بالبدو الرحل إلى التوجه شمالاً للبحث عن الكلأ فوصلوا إلى العاصمة ومحافظة بنزرت".
واستغرب المؤرخ من "ارتداد تونس إلى مظاهر الاقتصاد الرعوي الذي كان منتشراً بالبلاد في القرن الـ19 من دون أن تلتفت الدولة إلى القطاع الفلاحي والمناطق الريفية التي تناستها الحكومات المتعاقبة مما أثر في أوضاعها الاقتصادية".
حمل هؤلاء البدو خصوصياتهم البدوية ومواشيهم إلى ضواحي العاصمة، واختاروا الأراضي المحاذية لسبخة السيجومي مقراً لهم.
دفعنا الجفاف إلى هنا
لا يدفعون فواتير للكهرباء ولا الماء، لأن لا ماء لديهم ولا كهرباء، هي مظاهر عيش بدوية على تخوم العاصمة، تشد انتباه كل من مر بتلك المناطق.
محسن الفرجاني شاب في الثلاثينيات من عمره، كان يضع كرسياً أمام الخيمة ليتمتع بدفء أشعة الشمس قبل غروبها ويترشف الشاي، قال إنه "أصيل الحامة" (جنوب تونس)، ثم استدرك بحذر شديد "لا أريد الحديث للصحافة".
فهمنا أنه متوجس من أن يتم التضييق عليهم من قبل السلطات لوجودهم غير القانوني في تلك المنطقة البلدية، وبعد محاولات عدة كشف لنا عن أنه "يعيش وعائلته على هذه الوضعية الترحال منذ سنوات، وقد توارث هذا الوضع على الجدود، "لا أملك منزلاً، منزلي هو الخيمة ومستقري حيث يوجد الكلأ".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعن سبب وجوده في العاصمة، أضاف "نبحث عن مكان فيه المراعي، لقد دفعنا الجفاف إلى هذا المكان، تنقلنا من منطقة إلى أخرى، من شمال تونس إلى أقصى جنوبها".
اقتربت منا شقيقته رافضة بحياء شديد أن تذكر اسمها، فسألناها عن واقع الحال والإقامة في هذا المكان، أبدت امتعاضاً ضمنياً لكنها استدركت بالقول "الحمد لله على أية حال، نحن نتدبر أمرنا في توفير الماء الصالح للشراب من تلك المنطقة"، مشيرة بإصبعها إلى المنطقة الصناعية بالمغيرة، التابعة لولاية بن عروس، التي تبعد نحو كيلومترين عن الخيمة.
ثم تدخل شقيقها طالباً منها المغادرة إلى الخيمة، مؤكداً أن وضعهم طبيعي قائلاً: "نحن لا نطلب أي شيء من الدولة، المهم يتركوننا في حالنا"، وإجابة عن سؤال حول غياب التيار الكهربائي لفت إلى أنه "يتدبر حاله بوسائل بدائية".
محسن ليس وحده في تلك المنطقة، بل توجد مجموعة من الخيام الأخرى تابعة لأقاربه، لأنهم يختارون التنقل في مجموعات خوفاً من السرقة أو من عمليات السطو.
مجتمع الهامش
في المقابل يصف أستاذ علم الاجتماع في الجامعة التونسية بالعيد أولاد عبدالله، في تصريح خاص، هؤلاء الرحل بأنهم "أثرياء، إلا أنهم تعودوا على نمط عيش الرحل"، مشيراً إلى أن "فيهم من يملك العقارات وحتى السيارات رباعية الدفع، لتسهل تنقلاتهم في الصحراء".
يرفض أستاذ علم الاجتماع وصفهم بـ"مجتمع الهامش"، لأنهم "يملكون الإبل والماشية وحياتهم بسيطة، وكلفة العيش في تلك الظروف زهيدة"، لافتاً إلى أن "مجتمع الهامش الحقيقي يوجد في الأرياف المنسية وبعض الأحياء الشعبية، حيث تنعدم مواطن الشغل وينتشر الفقر".
دراسة أصدرها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية حول "سوسيولوجيا الهامش"، كشفت بالأرقام عن أن "مجتمع الهامش في تونس يتكون من 700 ألف معطل عن العمل، و285 ألف عائلة معوزة، و622 ألف عائلة ذات دخل محدود، ونحو 70 ألف عامل حضيرة، و40 في المئة من 950 ألف متقاعد يتقاضون أقل من الأجر الأدنى المضمون (150 دولاراً)، نضيف إليهم آلاف النساء العاملات بالقطاع الفلاحي واللاتي يمثلن 70 في المئة من مجمل اليد العاملة الفلاحية".
كما بينت الدراسة أن "قاعدة الهرم الاجتماعي العريضة تشكو الخصاصة وضيق ذات اليد، حيث يبلغ عدد التونسيين الذين يعيشون الفقر المدقع 320 ألف تونسي، وهم عاجزون عن توفير حاجاتهم الأساسية الغذائية قبل حاجاتهم الأخرى من سكن ولباس".
وبالنظر إلى خصوصيات هذا الواقع، على الدولة أن تعمل على خلق الثروة من خلال منوال اقتصادي يوزع الثروة بعدل بين كل التونسيين، علاوة على تكريس الحق في الصحة والتعليم والمرافق العمومية، لأن من حق ما يسمى "المجتمع المجهري والمغيب" أن يتمتع بحقوقه كاملة كغيرهم من المواطنين، وعلى العرض السياسي المطروح مستقبلاً أن يستوعب هذه الفئات الهشة، ويعمل على إدماجها اقتصادياً واجتماعياً.
ولم تتمكن "اندبندنت عربية" من الحصول على موقف من بلدية فوشانة (محافظة بن عروس)، حول ظاهرة استقرار هؤلاء البدو الرحل على أراض بلدية في ظروف صعبة، لتزامن اتصالاتنا ببلدية المكان مع قرار رئيس الجمهورية قيس سعيد حل المجالس البلدية، علماً بأنه تمت محاصرة هذه الظاهرة قبل 2011، من قبل وحدات الحرس والشرطة في عدد من المدن، لذلك يتخوف هؤلاء البدو من أن تضايقهم السلطات الأمنية مجدداً.