ملخص
يخوض المسرحي اللبناني #روجيه_عساف، مغامرة مسرحية - كوريغرافية تختلف عن مساره الفريد، المتعدد المراحل، وإلى جانبه شريكته الممثلة حنان الحاج حسن، في إدارة المخرج والكوريغراف علي شحرور
يخوض روجيه عساف المسرحي المؤسس والرائد، مغامرة مسرحية - كوريغرافية تختلف كل الاختلاف عن مساره الفريد، المتعدد المراحل، بين "محترف بيروت للمسرح" (1968) ومسرح الحكواتي الشهير، وإلى جانبه شريكته الممثلة حنان الحاج حسن، في إدارة المخرج والكوريغراف علي شحرور الذي يعد من أبرز الأسماء في عالم الكوريغرافيا اللبنانية والعربية الراهنة. أما هذه المغامرة فتتمثل في مسرحية "إذا هوى" التي تجمع بين الأداء التمثيلي والأداء الراقص المختزل في التعبير الحركي، الجسدي والايمائي، المفتوح على فضاء من التأويل الرمزي، انطلاقاً من لقاء بين شخصيتين، هما الزوج والزوجة أو بالأحرى روجيه وحنان، اللذان يطلان من غير قناع، شخصيتين حقيقيتين تعيشان في بيروت بل تعيشان خراب بيروت التي هي "المسرح والمسرحية" كما يقول روجيه نفسه.
شاء علي شحرور المخرج ومصمم العرض أو مبدعه، ألا يجعل من روجيه وحنان ممثلاً وممثلة يؤديان دورين، بل أرادهما كما هما، أي بحضورهما الحقيقي والواقعي، كي يجعل الواحد منهما مرآة للآخر، في لعبة تماه وتقاطع والتحام وتعبير، راسماً من خلال حركتهما المفتوحة، صورة متعددة لأحوال المدينة وناسها. ومهما بالغ شحرور والممثلان في مداهما التعبيري، الطقسي والحركي، شبه الخالي من الكلام، فهو(شحرور) تمكن من تجذيرهما في أرض التراجيديا اللبنانية، التي أضحى فيها المرء حياً وميتاً، كما قال روجيه في إحدى جمله "لست بميت ولست بحي"، وكأن المدينة أو الوطن بعامة، يمثل حالاً "مطهرياً" إذا عدنا إلى "كوميديا" دانتي.
كوريغرافيا الفراغ
مسرح شبه فارغ أو "فقير"، جعلت منه الإضاءة التعبيرية البديعة (غيوم تيسون)، فضاء معتماً ومضيئاً في آن واحد، يتحرك فيه روجيه وحنان ومعهما علي شحرور وشادي عون بحضورهما الخفر. فالممثلان أو الشخصيتان، هما عماد اللعبة المسرحية "الراقصة" القائمة في وسط كوريغرافيا الفراغ، الفراغ الذي لا يشعر به الجمهور بتاتاً، حتى في لحظات الصمت أو الاستكانة التي يعيشها الممثلان. بل الفراغ الذي، كما تملأه الإضاءة الشفافة والمنحوتة نحتاً تعبيرياً، تملأه أيضاً الموسيقى الحية (عبد قبيسي) المعبرة، المرافقة، الآتية من عمق الخشبة والطالعة من الذاكرة المهيضة، يشفعها حيناً تلو آخر صوت قبيسي الذي كأنه ينشج غناءه.
الفسحة إذاً هي فسحة روجيه وحنان، يتحركان، يمشيان، ينحنيان، يجلسان، يرقدان أرضاً، يرقصان أقل ما يفترض الرقص هنا. روجيه على الأرض تسحبه ستارة سوداء، توحي بأنها ستارة مسرح كان ذات يوم. حنان بدورها تسحبها هذه الستارة، وعندما تنهض تؤدي رقصة تذكّر برقصة الدراويش الدائرية، بخفة وبالقليل من الإشارات المعبرة، تدور حول نفسها كما لو حول الفراغ، تحرك يديها لتقول بصمت ما تختزنه ذاكرتها ويطفح به وجدانها. وفي أحد المشاهد تطلق صرخة صامتة، قوية بصمتها، فاتحة فمها على طريقة الشخص الصارخ في لوحة ادوارد مونخ، مما يضفي مزيداً من البعد التعبيري على العرض. وفي مشهد آخر، يبدو روجيه وحنان كأنهما يؤديان مسرحيا تمثال "لا بيتاً" عندما يستندان إلى حضن المرافقين المنحنيين فوقهما، وهما شبه ممدين على الأرض. وفي مشهد آخر يؤدي الأربعة ما يشبه الدبكة، الدبكة المأسوية، دبكة الأشخاص المتعبين أو "المنهوكين" بحسب صموئيل بيكيت، التي كأنها تقوم على أرض الموتى الذين ذكرتهم حنان في كلامها القليل.
سخرية سوداء؟ ربما. ولكن موجهة نحو الأنا والنحن والآخر، في وقت واحد. فالعرض أصلاً يوحي بأنه يستعيد ذكرى عرض لم تبق منه سوى هذه المشهدية التراجيدية. حتى الكلام الذي يتبادله الممثلان، روجيه وحنان، الحبيب والحبية، الزوج والزوجة، هو بقايا نص أو ذكرى نص، بضع جمل مبعثرة ولكن يربطها خيط هو خيط الذكريات، خيط الماضي، خيط الأمل الواهي الذي يحاول الممثلان أن يرتقاه، لئلا تسقط الذاكرة نهائياً، ذاكرة الحب القادر وحده على إنقاذ ما تبقى. ولعل عنوان العرض "إذا هوى" يستخدم كلمة هوى، في معنييهما السلبي والإيجابي، في معنى السقوط ومعنى الحب، المتناقضين ظاهراً والمتآلفين باطناً.
تجربة جديدة
يخوض روجيه عساف وحنان إذاً مغامرة يمكن وصفها بالجديدة تماماً في مسارهما، وبخاصة في مسار روجيه، فالممثلة أنجزت أعمالاً خارج الرؤية العسافية في الآونة الأخيرة، ومنها مسرحية "جوكينغ"، أما روجيه فصورته مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بأعماله الطليعية السابقة، مخرجاً وممثلاً، ملتزماً وصاحب قضية، ومناضلاً "إنسانوياً" (اومانيست)، يواجه الاستبداد والفساد من أجل حقوق الإنسان والجماعة. وفي هذا العرض يبدو روجيه وحنان كما هما، إنسانين، ممثلين، مبدعين، خارج أي سياق سياسي أو أيديولوجي. وأجمل جملة قالها روجيه في هذا القبيل: "أشاهد التلفزيون وأسمع خطاب أحد أولئك السياسيين وأتقيأ".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كم أصاب علي شحرور، المصمم الكوريغرافي التجريبي، المتفرد، في اختيار هذا الثنائي المسرحي، روجيه وحنان، ليجعل من عرضه "إذا هوى" عرضاً مسرحياً وكوريغرافياً راقصاً في آن، ولكن في شكل أو مظهر، جديد تماماً، بل حديث وما بعد حديث. لم يعد الرقص في حسبانه أسير معجمه الرائج والمعروف، كما لم يعد المسرح وقفاً على معطياته الثابتة، بل إن شحرور أخرج من كليهما عرضاً مسرحياً راقصاً غير مألوف كثيراً، إلا في بعض المسارح العالمية الجديدة. الكوريغرافيا مفتوحة هنا على المسرحة، على السينوغرافيا "الفارغة" (بيتر بروك)، على الإضاءة التعبيرية المفعمة بالأبعاد التعبيرية والجمالية، على الموسيقى المتنوعة الإيقاعات والجمل الميلودية. إنها "الطبخة" السحرية التي نجح علي شحرور في تركيبها تركيباً عضوياً، منصهر العناصر، متماسكاً، ومبنياً بقوة وسلاسة، برقة وعنف.
وكم نجح في جعل مشهديته الساحرة مشهدية مقروءة بتفاصيلها وأسرارها ومعانيها. عرض واقعي، حلمي، استيهامي، تراجيدي، طقوسي، حسي، ماورائي، جمالي، رمزي... يخاطب العين كما يخاطب المخيلة والذاكرة والوجدان والوعي واللاوعي... عرض يعيد النظر في مفهوم العرض المشهدي مرتكزاً إلى المقدرات التي يتمتع بها علي شحرور، بصفته مصمم رقص أو كوريغرافياً وراقصاً ومسرحياً، وبصفته أيضاً صاحب مدرسة فريدة، شرقية الجذور، عالمية، رسختها عروضه البديعة السابقة التي قدمت في بيروت والعالم العربي وفي المهرجانات العالمية الكبيرة ومنها مهرجان أفينيون، ومنها على سبيل المثل: "كما روتها أمي"، "نوم الغزلان"، "ليل"، "فاطمة"، "موت ليلى" وسواها.