ملخص
المحك في #اتفاق_بكين ليس في #التوقيع ولكن في الالتزام به والبناء عليه وسط رؤيتين متصادمتين أولهما سعودية والأخيرة إيرانية
شغل اتفاق المبادئ السعودي - الإيراني الذي تم التوصل إليه برعاية صينية في 10 مارس (آذار) الحالي وسائل الإعلام الدولية والإقليمية، واليوم بعد مضي أسبوع من إبرام ذلك الاتفاق في بكين نستطيع القول إن العالم بات يترقب تداعيات ذلك الاتفاق، وما يمكن أن يتمخض عنه من إجراءات تنفيذية خلال الأسابيع، وربما الأشهر المقبلة، والتي ربما تسهم في إعادة صياغة النظام الإقليمي.
الاتفاق الذي شمل استئناف العلاقات الدبلوماسية وتفعيل الاتفاقية الأمنية لعام 2001 والاتفاقية الاقتصادية والتجارية والاستثمارية لعام 1998، وأكد مبدأ أساسياً في القانون الدولي، ألا وهو احترام سيادة الدول وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، لم يتطرق بالنص لحل الأزمة اليمنية، إلا أن الموضوع اليمني، كان ولا يزال، حاضراً وبقوة في المفاوضات السعودية - الإيرانية في مختلف جلسات الحوار الخمس التي عقدت ما بين بغداد ومسقط بين عامي 2021 و2022، وهي جهود كللت جميعها أخيراً في بكين.
وكنت في مقالات سابقة أبرزت المكانة المتعاظمة للسعودية في الساحة الدولية وحجم تشابك مصالحها شرقاً وغرباً، مما منحها القدرة على إيجاد بدائل للإشكاليات التي تواجهها بطريقة غير متوقعة وبحلول من خارج الصندوق.
وحينما أطلقت السعودية مبادرتها في مارس 2021 "لإنهاء الأزمة اليمنية، والتوصل لحل سياسي شامل"، وما تلاه من مخرجات "مؤتمر الرياض2" لإعادة ترتيب وضع الشرعية، وتحريك ملف الهدنة في الحرب اليمنية وصمودها حتى اليوم، على رغم فشل المبعوث الدولي بإقناع الحوثيين بأهمية تمديدها، وما ترافق من حديث عن اتصالات سعودية حوثية في مسقط، قلت في كتاباتي إن تلك الخطوات التي تقودها السعودية لإغلاق ملف الحرب في اليمن سيكون لها ما بعدها.
وأكدت أن الأمر متصل برؤية سعودية شاملة للحل تتبدى ملامحه تباعاً مع نضوج ظروفه الموضوعية والذاتية. ويتفق كثير من التحليلات على أن التقدم في الملف اليمني يواجه ممانعة من اتجاهات شتى، بخاصة تلك التي ترغب أن ترى السعودية غارقة في مستنقع اليمن، أو من أمراء الحرب الذين يتكسبون منها على حساب دماء اليمنيين ومعاناتهم.
إيران... الشيطان في التفاصيل
منذ وصول رئيسي إلى رئاسة إيران في أغسطس (آب) 2021 سعت الحكومة الإيرانية القريبة من المرشد بمختلف السبل لعلاقات سلام مع السعودية، وأرسلت عديداً من الرسائل بهذا الصدد، سواء تلك الإيجابية أو السلبية، وكان دافعها إدراكها العميق أن ثمن معاداة السعودية باهظ لما للسعودية من مكانة قيادية في العالمين العربي والإسلامي، وجاءت هبة الشعب الإيراني لإسقاط نظام الملالي لتدق ناقوس الخطر وتعزز حقيقة استحالة بقاء النظام الإيراني في حال عداء مع العالم والإقليم ومع شعبه.
جاء البحث الإيراني عن مخارج منقذة تحت الضغوط المتعددة، فمن ناحية الضغط الشعبي، وفشل جهود التقارب مع الغرب، وتبخر آمال العودة إلى الاتفاق النووي، والعقوبات الدولية لتزيد من عزلة النظام، وتدهور الاقتصاد الإيراني إلى مستويات غير مسبوقة، وكعادة نظام الملالي الذي لا يستجيب إلا تحت مطرقة الضغط اندفع للبحث عن مخرج، وكانت السعودية تترقب تلك اللحظة التي يقبل فيها النظام الإيراني النزول من بروجه العاجية إلى أرض الواقع.
وفي تقدير المراقبين فإن المحك في اتفاق بكين ليس في التوقيع، ولكن في الالتزام به والبناء عليه، فهناك رؤيتان في تصادم، الأولى هي رؤية السعودية لمستقبل زاخر بالأمن والأمان والرخاء بدأت ورشه بالتحرك، وبدأ خيره العميم يشمل شعوب المنطقة، ورؤية إيرانية خبرتها شعوب المنطقة منذ الثورة الخمينية 1979، والقائمة على تصدير الثورة، والتوسعية، وتمويل الميليشيات العميلة في اليمن، ولبنان، والعراق، وسوريا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وخلال السنوات الماضية، وعلى رغم سيل الإمدادات العسكرية واللوجيستية من صواريخ ومسيرات ومختلف أدوات الموت والخبراء العسكريين من إيران ولبنان للميليشيات الحوثية، والذي لم يتوقف حتى اليوم، والاعتداءات المتكررة على الأعيان المدنية في السعودية والإمارات، لم تقدم السعودية على التدخل في الشؤون الداخلية لإيران، ولا تمتلك إيران دليلاً واحداً على أن موارد السعودية أسهمت في زعزعة الأمن والاستقرار في إيران.
وفي الوقت الذي يترقب فيه العالم الخطوات التنفيذية لاتفاق بكين، واللقاء المرتقب بين وزيري خارجية البلدين لاتخاذ الترتيبات التنفيذية لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما، يبقى التحدي في أن تبدي إيران حسن النوايا في الضغط على الحوثيين للانتهاء من ملف الأسرى والمعتقلين في المفاوضات الجارية حالياً في جنيف، والتحرك بخطوات جادة نحو إعلان نهاية الأعمال العدائية تحت رعاية الأمم المتحدة، والأهم من كل هذا أن تتوقف فوراً عمليات الحرس الثوري الإيراني من قواعده في بندر جاسك، وبندر عباس، جنوب إيران لنقل الأسلحة والصواريخ، والمسيرات، والأسمدة ذات الاستخدامات العسكرية مثل اليوريا، وفوق كلورات الأمونيوم، وتهريب المخدرات إلى اليمن.
وفي الموضوع اليمني ثمة بون شاسع في رؤية البلدين لمقاربة الحل، فالرؤية الإيرانية تتحدث عن وقف لإطلاق النار، وبدء الحوار اليمني، وتشكيل حكومة وطنية شاملة، ولا تتحدث عن المرجعيات الأممية الراسخة في الأزمة اليمنية، وهو ما أشارت إليه المبادرة السعودية "لإنهاء الأزمة اليمنية، والتوصل لحل سياسي شامل"، والتي حددت مرجعيات قرار مجلس الأمن 2216، والمبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، ومخرجات الحوار الوطني الشامل. وربما كان المدخل الجامع هو التوصل لإنهاء العدائيات باتفاق ملزم أولا.
الاختبار الصيني الأول
يكتسب الاتفاق السعودي - الإيراني برعاية صينية أهمية استثنائية، فهذا هو أول امتحان لنفوذ الدبلوماسية الصينية في منطقة الشرق الأوسط. وكان وانغ لي عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي الصيني، وزير الخارجية السابق، والمدير الحالي لإدارة الشؤون الخارجية في الحزب، قد وضع منذ عامين الخطوط العريضة لرؤية الصين للأمن الإقليمي في الشرق الأوسط.
ولمحت الرؤية الصينية إلى أهداف بكين كلاعب دولي لحل الأزمات الإقليمية في المنطقة. وقدم وانغ يي الصين كشريك مسؤول ونزيه، وإيجابي من حيث المقاربة، وقوة دولية سلمية في سعيها لإيجاد حلول مستدامة وبناءة، وأن الصين باتت على جهوزية لتحريك المياه الراكدة لمصلحة استقرار وأمن شعوب المنطقة، معرباً أن لدى الصين خطة سلام بديلة للمنطقة في تلميح لمناقضتها لخطط الغرب في المنطقة.
وهذه هي المرة الأولى التي تتحرك فيها الصين في ملف استراتيجي ينقل الصين من زمن البحث عن الشراكات الاقتصادية إلى زمن تبحث فيه الصين عن نفوذ دبلوماسي بالمنطقة، وربما يليه البحث عن نفوذ استراتيجي قد يشمل التوسع العسكري.
لم تكن الصين خلال السنوات الماضية تتطلع لزيادة رأسمالها السياسي، وانصب جل اهتمامها لتعميق علاقاتها الاقتصادية، وفتح الأسواق للمنتجات الصينية الرخيصة، وضمان إمدادات الطاقة اللازمة لاقتصادها العملاق، فهي تتزود بأكثر من 50 في المئة من حاجاتها من دول المنطقة. ويترتب على نجاح أو فشل تنفيذ الاتفاق السعودي - الإيراني، حجم التأثير الصيني المقبل في منطقة الشرق الأوسط.
وفيما كانت السعودية تقلب البدائل حيال عجز شركائها التقليديين بالغرب في الإسهام بحلحلة مشكلات المنطقة، وتحديداً تلك المتصلة بالأزمة اليمنية (وهو مجال البحث في هذا المقال)، بسبب غياب القدرة على الوصول، وممارسة النفوذ الدبلوماسي على إيران أو على الميليشيات الحوثية، وبقية ميليشياتها في المنطقة التي تهدد بشكل يومي الوجود العسكري الأميركي في العراق بلا رادع، وفي ظروف انشغال روسيا الاتحادية بحربها في أوكرانيا، وانشغال الغرب بالمواجهة مع روسيا، تلقت السعودية الإشارات الواضحة حول استعداد القيادة الصينية للانخراط الإيجابي في البحث عن السلام، ووجدت فيه ضالتها.
ووجدت الصين أن الوقت قد حان لها كي تسعى إلى الحصول على موطئ قدم راسخ في منطقة تتوفر على موارد الطاقة، وعلى خطوط الاتصالات الدولية الاستراتيجية بما يمكن مشروع الصين المعروف بـ"مبادرة الحزام والطريق" من تحقيق عوائد كبيرة في منطقة تشهد ورشة عمل ونهوض شامل في جميع المجالات، كما أن الصين تتطلع لدور أمنى في منطقة جنوب البحر الأحمر من خلال وجود قاعدتها العسكرية في جيبوتي، ولم تخف خلال السنوات الماضية، وعينها شاخصة نحو اليمن، اهتمامها بمشاريع إعادة الاعمار والاستثمار في اليمن في جميع المجالات بعد بلوغ السلام، وتحويلها إلى امتداد فاعل لـ"مبادرة الحزام والطريق" يربط الممرات المائية الحيوية بأفريقيا.
وتظل حكمة السياسة السعودية وانفتاحها لإنجاح اتفاق بكين يترافقان مع مراقبة التحدي الأكبر الذي يواجه إيران الملالي من منطلق قناعات عقدية راسخة، فمن غير المنطقي أن توقف إيران دعمها لميليشيات الحوثي التي جهزتها خلال عقود من الزمن لنشر أيديولوجية تصدير الثورة، وما هو المقابل الذي تطلبه طهران حال افترضنا قبولها بإعادة إنتاج الظاهرة الحوثية لظروف السلام القادم في اليمن، وهل تتخلى إيران عن ميليشياتها في اليمن والعراق ولبنان وسوريا. أما التحدي الثاني فهو الامتحان الصعب للدبلوماسية الصينية في تنفيذ بنود الاتفاق، والضغط على إيران لتنفيذ التعهدات التي قطعتها على نفسها، في ضوء تجربة تاريخية إيرانية غنية بإبرام العهد ونكثها.