ملخص
أثارت كتبها غيرة #فيرجينيا_وولف و#كتاب جديد عنها يكشف كل أسرارها
يشهد هذا العام الذكرى المئوية لرحيل الكاتبة والشاعرة النيوزلندية كاثرين مانسفيلد هي التي مرت حياتها كالومضة قبل أن تلقى الاستحقاق الكافي، وهي التي رحلت في الرابعة والثلاثين من عمرها، ونشرت أكثر من 100 رواية وقصة مليئة بالمغامرة والشغف والثورة على الشكل التقليدي واعتبرت واحدة من أكثر كتاب الحركة الحداثية تأثيراً وأهمية، وإن ظلت دائماً على الهامش، بينما يزداد أندادها في مضمار الحداثة تألقاً وانتشاراً بمن فيهم جيمس جويس، فيرجينيا وولف، عزرا باوند، تي أس إليوت، دي أتش لورانس.
ولدت كاثرين مانسفيلد في وشامب عام 1888 لعائلة ثرية ذات نفوذ اجتماعي في ثورندون، بنيوزلندا، وانتقلت إلى ضاحية كاروري الريفية وهي في الخامسة من عمرها لأسباب صحية، فقضت هناك أسعد سنوات طفولتها، وطوعت تلك الذكريات في روايتها القصيرة والأكثر طموحاً "مقدمة" التي ترصد حياة أسرة نيوزيلندية تنتقل من بلدها، وكانت إرهاصاً لتيار الوعي غير المعروف بهذا الاسم آنذاك. هذه الرواية العابرة للنوع تحمست لها فيرجينيا وولف ونشرتها في مطبعة هوغارث، واستفادت من تقنيات مانسفيلد المذهلة والحداثية بامتياز. وتعتبر مانسفيلد الكاتبة الوحيدة التي اعترفت وولف بأنها تغار منها، وعندما ماتت الأخيرة، في التاسع من يناير (كانون الثاني) 1923 بنزف رئوي، وصفت وولف مشاعرها بقسوة في مذكراتها بأنها "صدمة ارتياح" بعد أن فقدت أخطر منافس لها.
حياة بوهيمية
في فترة المراهقة تنقلت مانسفيلد بين بلدان أوروبا لتدرس أولاً الموسيقى وأظهرت براعة خاصة في عزف التشيلو، لحد أنها اعتقدت أنها تمثل موهبتها الأساسية، لكن الكتابة راودتها حين بدأت في المساهمة في جريدة الكلية في إنجلترا حتى أصبحت في النهاية محررة لها. بعد الانتهاء من دراستها عادت إلى نيوزيلندا، وعندها فقط بدأت في كتابة القصص القصيرة بجدية وملأها الشغف بأن تصبح كاتبة محترفة. بيد أن الحياة في نيوزيلندا أصابتها بخيبة أمل بسبب قمع شعب الماوري التي أظهرت كتابتها تعاطفاً شديداً معهم، ولم يمض وقت طويل حتى عادت إلى أوروبا وعاشت هناك حياة بوهيمية "خاضت كل أنواع التفاهة"، كما لاحظت وولف باستنكار، في سعي محموم إلى التجربة، من دون إدراك لتباعاتها فإذا بها تجرب الحمل والإجهاض وتعاني المرض والرفض من أسرتها، وهو ما انعكس تلقائياً على قصصها عن فتيات يعانين الفقر والنبذ والحرمان.
عقب تلك التجربة سافرت مانسفيلد إلى بافاريا في ألمانيا وهناك تعرفت على أعمال أنطون تشيخوف وتأثرت بطريقته في سرد أحداث عادية والتغيرات الطفيفة في السلوك البشري، لدرجة أن اتهمها بعض كتاب السير بسرقة تشيخوف في إحدى قصصها المبكرة المنشورة في أول مجموعة قصصية لها "المعاش التقاعدي الألماني" عام 1911 التي تتأمل فيها عادات الألمان واستغلال الرجال وقمعهم.
نشرت مانسفيلد مجموعتها الثانية "النعيم" عام 1920 وحققت لها نجاحاً كبيراً، وجاءت مجموعتها الثالثة "حفلة الحديقة وقصص أخرى" في عام 1922 لتصبح آخر ما نشرته قبل رحيلها. احتوت هذه المجموعة على قصة العنوان "حفلة الحديقة" وتدور حول حفلة عائلية تروى من منظور الفتاة الشابة لورا شيريدان، التي تحاول فعل الشيء الصحيح عندما تهدد حادثة مأسوية بتعطيل الحفلة. ويتلخص في أن شاباً صغيراً قتل جاره بطريق الخطأ، وهو ما يذكرنا بحفلة السيدة دالاوي التي يتهددها انتحار أحد الجيران المفاجئ، وحتى الورود التي ملأت بها أمها الارستقراطية الحفلة، ذهبت السيدة دالاوي بنفسها لتشتريها، لندرك إلى أي مدى كان تأثير مانسفيلد في معاصريها.
نصائح لقراءة مانسفيلد
في الذكرى المئوية لرحيلها صدرت سيرة مضيئة لمانسفيلد بعنوان "الحياة بكل أنواعها: كاثرين مانسفيلد وفن المخاطرة بكل شيء" لكاتبة السيرة كلير هارمان، وهي عبارة عن بورتريه موجز يشمل حياتها وأعمالها ومكانتها وشخصيتها الملهمة الفريدة. في هذه الدراسة الديناميكية تتخذ هارمان نهجاً مختلفاً تماماً، فتلقي نظرة جديدة على حياة مانسفيلد وإنجازاتها بالتوازي، من خلال عشرة أعمال محورية، قسمتها إلى عشرة فصول تبدأ بالقصة نفسها موضع البحث، وتستمر في تحليها ببصيرة ثاقبة ثم تربطها بالأحداث والمراحل المختلفة في حياة مانسفيلد.
لم يفت هارمان بالطبع أن تقترح بعض الطرق الجيدة للتعرف على الكاتبة التي لم تنل الاستحقاق الكافي، بدءاً من باب الولوج إلى كتابتها السهلة المنال التي جعلتها تنتقد كتابة جويس المعقدة، وهي تشعر بالذهول من تعمده التداخل والتشابك. وتدل هارمان على طرافة مانسفيلد وقدرتها على الإضحاك من خلال قصة "بنات العقيد الراحل". تقول: "واحدة من أكثر خصائص مانسفيلد إثارة للإعجاب هي افتقارها إلى الرضا عن الذات. لقد أرادت دائماً التطور والتحسين، وهو ما نلمسه بقوة في يومياتها. حيث كانت تقضي ساعات في كتابة فقرة في شكل صحيح".
نشر زوج مانسفيلد جون ميدلتون موري، يومياتها بعيد وفاتها، وكان لها تأثير هائل في القراء، على رغم أنه تعرض لانتقادات واسعة النطاق لفضح كثير من حياتها الخاصة الحميمة التي شملت الجنسين كليهما. في فترة المراهقة فتنت مانسفيلد بأرنولد تروويل، عازف التشيلو، لكنه لم يبادلها المشاعر فتورطت في علاقة مع شقيقه غارنت وحملت منه، ولما لم يرض آل تروويل عن تلك العلاقة، فاضطرا إلى الانفصال. وتحت وقع الصدمة تزوجت على عجل بجورج بودين، مدرس الغناء الذي يكبرها بـ11 سنة، وتركته في الليلة نفسها قبل إتمام الزواج، مولية وجهها شطر بافاريا لتجهض حملها. وأثناء رحلتها إلى باريس أقامت علاقة قصيرة مع الكاتب الفرنسي فرانسيس كارو يتردد صداها في قصتها "رحلة غير متحيزة".
في الوقت نفسه انتبهت مانسفيلد لميولها المثلية وحاولت قمعها ولكنها لم تفلح ونتج من ذلك علاقات عدة منها علاقتها مع ماتا ماهوبوكو (المعروفة أحياناً باسم مارثا غريس)، وهي امرأة ماورية ثرية. كتبت في يومياتها تقول: "أريد ماتا في شكل رهيب. مشاعر غير طاهرة أعرف ذلك ولكنها حقيقية".
مراجعة الذات
في أكتوبر 1915، قتل شقيق مانسفيلد الأصغر ليزلي بوشامب عن عمر يناهز 21 سنة، أثناء تدريب على استخدام قنبلة في الحرب العالمية الأولى. هنا تغيرت حياتها وعملها إلى الأبد وراحت تستدر ذكريات طفولتهما في نيوزيلندا، البلد الذي أحبته وازدرته في الوقت نفسه، لكنها لم تستطع أبداً الرجوع إليه. كتبت في قصيدة تصف حلمها بعد وفاته بوقت قصير: "عند الجدول المحفوظ في الذاكرة يقف أخي - ينتظرني بحبات التوت في يديه... هذا جسدي. خذيه يا أختي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
سرعان ما دخلت مانسفيلد في أكثر فتراتها غزارة في الكتابة بعد أن شخص مرضها بالسل. خلال تلك الفترة كتبت آلاف الرسائل من كل بلد كانت تسافر إليه بحثاً عن أطباء أفضل ومناخ ملائم، وعاشت فترة مع صديقتها آن إستل رايس، الرسامة الأميركية في كورنوال على أمل الشفاء، وهناك رسمت رايس صورة لها وهي ترتدي اللون الأحمر المرتبط بالحياة. هذه اللوحة محفوظة الآن في متحف نيوزيلندا. أما الرسائل فقد نشرت بعد وفاتها في منشورات جامعتي أكسفورد وإدنبره، وتشكل نوعاً رائعاً من السيرة الذاتية المليئة بالأوصاف الرائعة للأماكن والألوان والأصوات والضوء. يقول عنها فيليب لاركين: "إن رسائل مانسفيلد رائعة، هذه الهدية تجعلك تشعر كما لو كنت هناك معها وأن هذه الرسائل موجهة إليك".
إلى جانب الرسائل واليوميات قام موري بنشر مجموعتين من القصص القصيرة "عش الحمامة" عام 1923، و"شيء طفولي" عام 1924. إضافة إلى ديوان شعر وكتاب نقدي "الروايات والروائيون"، يكشف عن موهبتها الفريدة في النقد، فضلاً عن قصة "الكناري" أخر ما كتبته قبل رحيلها بوقت قصير.
في التاسع من يناير (كانون الثاني) 1923، عانت مانسفيلد من نزف رئوي مميت بعد صعودها عدداً من درجات السلالم أفضت إلى موتها في غضون ساعة، ودفنت في سيميتيير دافون، أفون، بالقرب من فونتينبلو. وعلى رغم قصر حياتها استطاعت مانسفيلد "تسييل" القصة القصيرة على حد قول الكاتب البريطاني السير فيكتور ساودون بريتشيت، لكن قرارها الجريء بالكتابة عن الجنس ومخاطره هو ما حدا بالنقد أن يصفها أحياناً بالفظاظة، ويحرمها من الاهتمام الكافي. ربما لهذا ظنت الكاتبة التي سبقت عصرها بأنها لم تبذل الجهد الكافي للعمل، وهو ما دفعها أن تقول "كان يجب أن أفعل أكثر من ذلك".