ملخص
#السودان ظل منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي يصنف من قبل منظمة الأغذية والزراعة "#فاو" بأنه واحد من بين ثلاث دول يعول عليها لحل مشكلة الغذاء في العالم
تعرض كثيرون من المزارعين في السودان للإعسار عن سداد ديونهم تجاه الجهات التي قامت بتمويلهم في الموسم الزراعي الماضي، بسبب تدني الإنتاج وانخفاض أسعار المحاصيل، ويواجه 85 في المئة من المزارعين مصيراً صعباً هو السداد أو السجن.
فما حقيقة عملية الإعسار التي تواجه هؤلاء المزارعين؟ وهل من حلول مطروحة لمعالجة هذه المشكلة؟ وما تأثيرها في مستقبل الزراعة في البلاد؟
البيع بالخسارة
يقول رئيس اللجنة التسييرية للاتحاد المهني العام للضباط الإداريين عبدالله جمعة النور "كما هو معلوم أن الزراعة تشكل العمود الفقري للاقتصاد السوداني منذ مطلع القرن الماضي وتحديداً بعد إنشاء مشروع الجزيرة عام 1911، الذي خصص لزراعة القطن في منطقة تقع شمال مدينة ود مدني (تبعد عن الخرطوم 186 كيلومتراً جنوباً)، وتروى بواسطة مضخات المياه، وبعد نجاح هذه التجربة بدأت المساحة بالازدياد عاماً بعد آخر، لكن للأسف تعرض هذا القطاع بخاصة المشاريع المروية الضخمة كالجزيرة والسوكي وكنانة والنيل الأبيض والنيل الأزرق للإهمال الحكومي خصوصاً بعد انقلاب 30 يونيو (حزيران) 1989، حيث كان هناك استهداف ممنهج أدى إلى تدمير معظم هذه المشاريع المنتجة".
أضاف النور "لكن ما حدث من إعسار للمزارعين خلال الموسم الزراعي الماضي جاء نتيجة فشل هذا الموسم بسبب تأخير البنك الزراعي في تمويل المزارعين الذين لم يتمكنوا من التحضير لهذا الموسم بالشكل المطلوب، وتعرض محاصيلهم للآفات والحشرات، فضلاً عن تدني الأسعار من دون كلفة الإنتاج مما اضطر بعضهم إلى البيع بالخسارة، بالتالي، لم يتمكنوا من الإيفاء بالتزاماتهم تجاه البنك الزراعي والتجار، لذلك فتحت في حقهم بلاغات وزج بهم في السجون، وبلغ عدد المعسرين في الإقليم الأوسط فقط 35 ألف مزارع".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأكد رئيس اللجنة التسييرية للاتحاد المهني العام للضباط الإداريين أن ما يعانيه المزارع من إعسار وغيره يرجع إلى غياب الجهاز التنفيذي في الدولة منذ انقلاب قائد الجيش عبدالفتاح البرهان على الحكومة المدنية في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021، إضافة إلى نظرتها الاقتصادية المدمرة للقطاع الزراعي من خلال فرض الرسوم والضرائب ورفع الدعم عن الجازولين الذي يعتمد عليه المزارع بشكل أساسي في ري وتأمين الكهرباء للمشاريع. ودعا إلى إعادة كل الاتحادات التي تسير عمل الجمعيات الزراعية لأنها تلعب دوراً مهماً في متابعة ومعالجة المشكلات التي تواجه المزارعين، فضلاً عن توعيتهم في ما خص عدداً من القضايا من إعسار وغيره، كما طالب بإعطاء المزارعين المعسرين مهلة تتراوح بين عام وعامين لجدولة ديونهم حتى يتمكنوا من العودة للزراعة في الموسم المقبل.
ملاحقة التجار
في السياق نفسه، أوضح المزارع معتصم الزاكي أن "85 في المئة من المزارعين تعرضوا للإعسار في الموسم الزراعي الماضي نتيجة تأخر البنك الزراعي في تمويلهم في الوقت المناسب، وتسلم المزارعون مبالغهم من البنك في أوائل سبتمبر (أيلول) 2022، بيد أن الموسم بدأ في السابع من يوليو (تموز)، مما اضطر معظم المزارعين إلى شراء مستلزمات الزراعة من بذور ومبيدات وجازولين وغيرها من التجار استدانة بأسعار عالية حتى لا يفوت عليهم الموسم". وتابع الزاكي "لكن توالت على المزارعين لاحقاً مشكلات تعرضهم للإعسار، ولم يغط المحصول كلفة إنتاجه، وأصبح هؤلاء المزارعون ملاحقين من قبل التجار والبنك الزراعي لسداد ديونهم، مطلع أبريل (نيسان)، وهو أمر من الصعب الالتزام به، فلا بد من تدخل السلطات لمعالجة هذه المشكلة بطريقة مرنة حتى لا تؤثر في مستقبلهم الزراعي".
جدولة الديون
من جانبه، قال الباحث الاقتصادي السوداني محمد الناير "في الحقيقة القطاع الزراعي في بلادنا يعاني مشكلات كبيرة في مقدمتها ارتفاع كلفة الإنتاج، فضلاً عن سياسات الدولة لجهة رفع الدعم عن السلع الاستراتيجية، إذ طبقت شروط صندوق النقد الدولي من دون النظر إلى آثارها الاقتصادية، ووجد المزارعون في كثير من المواسم صعوبة في بيع إنتاجهم واضطروا إلى بيعه بأقل من الكلفة أي بالخسارة، إضافة إلى عدم التزام الدولة في أحيان كثيرة شراء القمح من المزارعين بالسعر المحدد من قبلها، مما أدى إلى إحجام معظم المزارعين عن زراعة هذا المحصول الاستراتيجي تفادياً للخسارة". أضاف "كذلك من العوائق أن معظم المزارعين يعتمدون على التمويل من البنك الزراعي، لكن من المؤسف أنه غالباً ما تأتي هذه العملية (التمويل) متأخرة جداً، مما يضطر بعضهم إلى اللجوء لقنوات أخرى توفر لهم تمويل زراعتهم، فضلاً عن حالة الركود التي تضرب الأسواق مما يؤدي إلى انخفاض أسعار المحاصيل في فترة الحصاد، وتكون المحصلة تعرض هؤلاء المزارعين للسجن لعجزهم عن سداد ديونهم، وعدم وجود مرونة لجدولتها، مما يؤدي إلى عراقيل كثيرة تمنع المزارع من العودة إلى الدورة الزراعية مرة أخرى".
أسعار مناسبة
وتابع الناير "في تقديري أن الدولة مسؤولة بشكل مباشر عن حالات الإعسار التي يتعرض لها المزارعون، لأنها تركتهم يحصلون على حاجاتهم من بذور ومبيدات وغيرها بأسعار عالية من الأسواق، في وقت كانت توفرها في الوقت المناسب وبأسعار مناسبة، بالتالي، فإن دور الدولة حالياً ظل غائباً تماماً". ولفت إلى أن "السودان ظل منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي يصنف من قبل منظمة الأغذية والزراعة (فاو) التابعة للأمم المتحدة، بأنه واحد من بين ثلاث دول يعول عليها لحل مشكلة الغذاء في العالم، كما أنه على رغم فقدانه ثلث مساحته بسبب انفصال الجنوب عام 2011، فإنه ما زال يمتلك مساحات كبيرة صالحة للزراعة، حيث يستغل منها 30 في المئة فقط، بالتالي هناك 70 في المئة من المساحات غير مستغلة، ويجب عرضها للاستثمارات المشتركة الكبيرة، باعتبار أنه كلما كانت المساحات المزروعة كبيرة قلت الكلفة".
وخلص الباحث الاقتصادي قائلاً "هذا لا يعني ألا تعين الدولة المزارع البسيط وتساعده من خلال إيجاد المناخ الملائم له وشراء المحصول بسعر مشجع ليتمكن من الزراعة باستمرار في الأعوام المقبلة، ولا بد أن يحافظ على هامش الربح بخلق معادلة وتوازن بين المنتج والمستهلك".