ملخص
يلاحق #المخرج_الإيطالي فرانشيسكو روزي في فيلمه الروائي الاستقصائي "قضية ماتي"، مصير رجل البترول الإيطالي 3إنريكو_ماتي، فيكتشف تعقيدات سياسية أبعد من الجريمة نفسها
كان المخرج الإيطالي فرانشيسكو روزي (1922 – 2015) يعتبر واحداً من كبار مبدعي ما سمي حينها بـ"السينما السياسية" وذلك انطلاقاً من موقف نضالي جعل كل فيلم من أفلامه فيلم قضية يشاكس على ما هو سائد ولا سيما في بلاده التي كانت واحدة من أزحم البلدان بالمشكلات السياسية. حينها، وعلى رغم أن هوى روزي كان شيوعياً، فإنه لم يعف الحزب الشيوعي الإيطالي من سلاطة سينماه. بالتالي تبدت سينماه دائماً سينما تسعى إلى فضح الفساد السلطوي كما فساد المعارضة من حيثما أتى. غير أن السلطة الرسمية التي كانت تحكم إيطاليا ممثلة في الحزب الديمقراطي المسيحي اليميني، وتحت رعاية الأميركيين منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهزيمة الفاشيين، كانت الهدف المفضل لمواضيع أفلامه الكبرى، مركزاً على كون تلك السلطة تجمع الفساد إلى ممالأة الأميركيين والتعاون مع عصابات المافيا المتحكمة الأساسية في مصائر المجتمع وحياة أبنائه. ولعل فيلم روزي الذي يبدو منسياً بعض الشيء اليوم، يرمز بأفضل ما يكون إلى ذلك التحالف الثلاثي ولا سيما أنه يتحرى حول اقتصادي إيطالي كبير، كان على أية حال من أقطاب "الديمقراطية المسيحية" لكنه لم يكن على فسادها. ومن هنا ما يلمح إليه الفيلم من أن ذلك الحزب الحاكم لم يكن بعيداً من المؤامرة التي قتلت إنريكو ماتي، الذي كان يعتبر ملك البترول وصديق الدول النامية المنتجة للنفط على الضد من شركات النفط الاحتكارية الكبرى. بالتالي بات من الضروري بالنسبة إليها التخلص منه. وهي الحكاية التي رواها روزي في هذا الفيلم من دون أن يجازف بالوصول إلى استنتاجات مؤكدة بالنظر إلى أن ما من أحد حتى اليوم وبعد نصف قرن من ارتكاب تلك الجريمة، يملك معطيات كافية للوصول إلى يقين حول تلك المعطيات.
من الحكاية إلى التحقيق
من هنا يعتبر فيلم "قضية ماتي" (1972) فيلم تحقيق، لا فيلم حكاية: هو تحقيق ليس فقط حول قضية مقتل سيد البترول الإيطالي، بل حول حياته ونضاله وضروب شجاعته التي جعلته فريد نوعه في العالم في ذلك الحين. إذ منذا الذي كان في وسعه أن يتصدى للقوى البترولية وللمافيا وللقوى الفاشية في أوروبا وأميركا يومها، من دون أن يكون عارفاً سلفاً أنه يحمل كفنه على كتفه؟ ومع هذا فإن "قضية ماتي" ليس فيلماً وثائقياً تسجيلياً، بل هو فيلم روائي طويل، قام ببطولته نجم أوروبي كبير من نجوم تلك المرحلة: جان ماريا فولونتي متقمصاً شخصية إنريكو ماتي، الذي يتابع الفيلم سيرة حياته، ولكن ليس بالشكل التبسيطي الخطي الذي كان سائداً في ذلك الحين، بل على شكل موزاييك، على خطى "المواطن كين" للمعلم أورسون ويلز. وينطلق الفيلم من حادث الطائرة - اللغز، ويطرح أسئلته عن الظروف التي فيها تحطمت الطائرة التي من المعروف أنها تحطمت وقتلت معها ماتي وعدداً من معاونيه ورفاقه في العمل. ثم يبدأ في التساؤل عن هذا الرجل، متتبعاً فصول حياته، في شكل سردي مباشر حيناً، وعلى شكل شهادات في أحيان أخرى... ومن طريق حياة ماتي يتوغل الفيلم في تاريخ بات شبه منسي في أيامنا هذه، تاريخ الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أواسط القرن العشرين، يوم كانت الصراعات على أشدها من حول قضية التبرول، ويوم كانت القوة الأميركية قد وصلت إلى الذروة في التكشير عن أنيابها، مصارعة في آن معاً، القوى الاستعمارية القديمة التي كانت لا تزال معتقدة بأن في إمكانها أن تسيطر على اقتصادات البلدان المستعمرة والتي كانت تسعى تباعاً لنيل جزء على الأقل من استقلالها، والمعسكر الاشتراكي، تبعاً لحرب باردة لعبت في ذلك الحين أدواراً كبيرة على مسرح السياسة العالمية، وأخيراً دول العالم الثالث نفسها والتي كانت تحاول أن تشق لنفسها طريقاً في هذا العالم المتصارع. يومها اختار إنريكو ماتي أن يقف إلى جانب العالم الثالث، وهذا ما يصوره الفيلم بكل وضوح متتبعاً خطى ماتي، بعيد الحرب العالمية الثانية، من ميلانو إلى روسيا، ومن شمال أفريقيا إلى إيران وبقية أرجاء الشرق الأوسط، وصولاً إلى مونت كارلو، ثم صقلية التي كانت آخر منطقة زارها ماتي على متن طائرته، حيث صارت لاحقاً شهيرة جداً خطاباته ومساعيه هناك من أجل ترسيخ اقتصاد للجزيرة - الأكثر بؤساً في طول أوروبا وعرضها - يقوم على أساس دخول إيطاليا، من طريق مؤسستها النفطية الحكومية "إيني" لعبة الاقتصادات البترولية في العالم. وهو أمر لم يكن مسموحاً، من قبل "الشقيقات السبع" (أي المؤسسات والشركات البترولية الكبرى في العالم)، لكن ماتي ما كان ليتوقف عن مساعيه، مهما كبر حجم تصدي هذه "الشقيقات" له. كان يقول إن الموت وحده قادر على جعله يتراجع. وبالفعل ما إن غادر الجزيرة يومها حتى كان له الموت بالمرصاد: سقطت طائرته.
حكاية ولد فقير
كل هذا يرويه لنا الفيلم وصولاً إلى سيرة مقاومة ماتي، على رأس فرق الأنصار اليسارية، للفاشية خلال الحرب العالمية الثانية. وبعد ذلك إذ عين على رأس مؤسسة "آجيب" للنفط في إيطاليا، أسرع إلى تصفية المؤسسة، إذ اعتبرها عبئاً على اقتصاد البلد، لا سيما حين عثر على مخزونات ضخمة لغاز الميتان في إيطاليا وهو انطلاقاً من تلك التنقيبات وما أعطته إياه من قوة، أسس الهيئة الحكومية للطاقة "إيني" التي أدخلها في تنافس مع الشركات والمؤسسات الخاصة، ثم مع الشركات العالمية. وهو لإنجاح مشروعه، راح يتصل بالدول المنتجة للنفط في العالم الثالث، عارضاً أسعاراً وأرباحاً تنافسية. ولقد اشتهرت في ذلك الحين جولاته في البلدان العربية، التي يصورها الفيلم بأبعادها ودلالاتها، في الوقت الذي يقول لنا بكل وضوح إن هذا كله لم يكن من شأنه إلا أن يجعل من إنريكو ماتي شخصاً غير مرغوب فيه. وهنا، إزاء هذا، ينتقل روزي وفيلمه إلى مستوى آخر، إذ يعينان أطرافاً عدة كان من مصلحتها أن يختفي ماتي: اليمين المتطرف الفرنسي الفاشي الذي لم يغفر له مساعداته لجبهة التحرير الوطنية الجزائرية والمافيا الإيطالية التي كانت مشاريعه في صقلية تتناقض مع مصالحها، وطبعاً شركات النفط العالمية التي راح ينافسها هناك حيث تحقق أرباحاً مذهلة، واليمين الإيطالي الذي وجد فيه خصماً شرساً ولا سيما إذا قرر أن يخوض السياسة الداخلية. وهكذا، إذ يضع روزي هذه الفرضيات كلها في سياق الجواب عمّن يكون قد قتل إنريكو ماتي، ينهي فيلمه قائلاً إن جرائم مثل تلك التي راح ماتي ضحية لها، لم تقترف أصلاً لتكتشف جنائياً. وحده التحليل السياسي والمنطق بالتالي يقدم الإجابات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
سجل تاريخ طويل
ولكن هل نحن حقاً في عالم يحفل بالمنطق ويقيم وزناً للتحليل السياسي في مجال الوصول إلى الحقائق؟ قضية جون كيندي في الماضي قدمت جواباً عن هذا السؤال من خلال بحث دام عشرات السنين ولم يصل إلى أجوبة مقنعة. وفي أيامنا هذه ها هي قضية الزعيم والسياسي اللبناني، رفيق الحريري تقدم جواباً معاصراً... حيث تم الكشف عن الفاعلين والمحرضين بالفعل من قبل العدالة الدولية، فماذا بعد؟ وبينهما أتت قضية ماتي بجواب مشابه. إذا؟ أما بالنسبة إلى فرانشسكو روزي المولود في نابولي، الذي فهو درس الحقوق ومارس الصحافة قبل أن يدنو من فنون الاستعراض ممثلاً ومؤلفاً ومخرجاً. عمل عام 1947 مساعداً للوكينو فسكونتي ما أطلق عمله السينمائي وأوصله خلال فترة يسيرة إلى الإخراج بدءاً من عام 1958، لتتتالى أفلامه كمخرج منذ ذلك الحين، وأبرزها "سلفاتوري جوليانو" و"الرجال الضد" و"الهيمنة على المدينة" و"لحظة الحقيقة" و"لاكي لوتشيانو"، و"جثث محترمة" وكلها أفلام خلطت البعد الروائي المستقى من التاريخ الواقعي، بالتحليل والموقف السياسيين، ما جعل لروزي في تاريخ الفن السابع مكانة على حدة.