تشير الساعة إلى العاشرة والنصف صباحا. كان ذلك يوم 24 يونيو 2016 في غرفة صغيرة في منتصف عمارة شاهقة تقع أعلى نهر التمز من ناحية مجلس العموم حيث هناك تسود أجواء من عالم آخر. لا أحد ذهب للنوم. لقد استقال رئيس وزراءٍ ولا أحد يعرف ما يخبئه المستقبل.
ينتظر جمع صغير من الصحفيين أن يسمعوا من الرجل الذي من المفترض أن يكون بطل هذا الفجر الحافل. شق بوريس جونسون طريقه إلى هنا من منزله في إسلينغتون، حيث تجمع أفراد الجمهور للاحتجاج على عتبة منزله، وحطموا غطاء محرك سيارته وهم يهتفون "حثالة! حثالة! حثالة! "
حقق انتصارا سياسيا يعد الأكثر إثارة في تاريخ بلده، لكن لا وجود لمظاهر الابتهاج على الإطلاق. فعندما أتى بوريس جونسون أخيرا وهو يجر رجليه إلى خشبة المسرح، بدا في ذلك الوقت، كما قال جون كريس من صحيفة الغارديان على نحو فريد، "مثل رجل استفاق من تأثير المخدرات ليكتشف أنه قتل صديقه المفضل."
من الواضح أن نرى، في وقت متأخر، أنه في تلك اللحظة خرج إلى حيز الوجود الرجل الذي يبعد الآن ساعات قليلة عن تولي منصب رئيس الوزراء. لم يقل في صباح ذلك اليوم أي شيء سوى أن "هذا الاستفتاء من الواضح كان أكثر الأحداث السياسية تأثيرا خلال حياتنا."
في عالم مارفل السينمائي، ستكون هذه هي اللحظة التي تتحول فيها شخصية جونسون. فهو لا يزال كسولا، متمتما ومهرجا ثرثاراً لا يعير أي اهتمام للحقيقة ولا لأفكار الآخرين ومشاعرهم. لكن هذا هو حجم الكراهية التي أطلقت في تلك اللحظة الهامة بحيث لا يمكن لأحد تأثر بها أن يأمل في الخروج منها كما هو، أي نفس ذلك المتمرد المحبوب الذي كان من قبل. وبوريس جونسون لم يخرج منها كما كان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لم يكن الأمر دائما هكذا. لقد قابلت جونسون لأول مرة عندما كنت مساعداً صغيراً للغاية في برنامج "أندرو مار شو" في عام 2008. كان ذلك قبيل انتخابات عمدة لندن وكان هو وكين ليفينغستون يجريان مقابلات واحد تِلْو الآخر. لم يكن جونسون يفعل كما يفعله أغلبية، أو في الحقيقة جميع، ضيوف البرنامج لينتظر دوره في الغرفة الخضراء أو مكتب الإنتاج. بدلاً من ذلك، كان يتجول في المنطقة المظلمة المحيطة بأرضية الاستوديو. كان يبدو لي تقريبا وكأنه يحاول أن يرمق منافسه ليفينغستون بينما كان على الهواء مباشرة فيما هو لم يكن على الشاشة. كانت كاميرا متحركة على رافعة تقطع مجال رؤيته، وكلما فعلت كان جونسون يحرك نفسه نحو الأعلى والأسفل مثل حاجز مرور أوتوماتيكي.
شاهدت مقابلته في غرفة الانتاج، مع أحد مستشاريه. كان شعره مرتبا أكثر من العادة، والسبب هو أنها كانت قد انتهت للتو من تمشيطه له.
قالت لي إن "المظهر يجذب الأصوات. ربما ليس كثيرًا، لكن سيكون هناك عدد منها، وكلها تُحسب."
وأضافت أنه "عندما يشعر بالارتباك يُنَكش شعره. إنه يعلم أن هذا يفقدني صوابي. لدينا رهان مستمر.. في كل مرة يلعب بشعره على الهواء يدين لي بعشرين جنيها. بحلول نهاية المقابلة حسبت 60 جنيهاً، لكن لم أر منها أي شيء".
لقد فاز بتلك الانتخابات بسهولة وأصبح سياسيا بارعا منذ ذلك الوقت حيث جعل نفسه على الفور ليس فقط وجها ولكن أيضا اسما لخدمة تأجير الدراجات الهوائية في لندن، التي خطط لها وقدمها كين ليفينغستون لتصبح على الفور "دراجات بوريس." هذا ما كان يتفانى فيه، وكان يركب الدراجة إلى كل مكان وجعل مساعديه يفعلون نفس الشيء. في إحدى المناسبات، أتذكر أنني وبينما كنت انتظر وصوله إلى حدث ما، أسرّ لي أحد مساعديه أن جونسون بطيء للغاية في قيادة الدراجة، لكنه يغضب إذا وصل مساعدوه إلى الفعاليات قبله بكثير. لذلك كان أي لقاء لهم في الطرف الآخر من المدينة يستدعي إجراء عدة جولات عشوائية حول مكان اللقاء، في انتظار أن يلحق الرئيس بالركب.
في السنة التي قضيتها في تغطية الاستعدادات لدورة الألعاب الأولمبية في لندن، أتساءل عما إذا كانت هناك مدرسة ابتدائية واحدة في وسط لندن لم أرهُ فيها يلقي خطبا طويلة على أطفال في عمر السبع سنوات حول بريكليس حاكم أثينا. حتى أكبر منتقديه لن يقولوا الحقيقة إذا قالوا إن الأطفال والبالغين، في تلك الأوقات الأقل اضطراباً، جميعهم لم يحبوه.
لم يفعل شيئًا لتنظيم الألعاب الأولمبية، ولم يكن له دور في فوز لندن بحق استضافتها، ولم يكن له أي دور تنفيذي في السهر عليها. لكن عندما حان الوقت، كان أكبر داعم متحمس لدورة الألعاب تلك. حدث في أحد الأيام المشمسة في شهر سبتمبر – وكان ذلك يوم الاثنين – أن احتشد جميع أبطال الألعاب الأولمبية والأولمبياد الخاصة بالرياضيين من أصحاب الاحتياجات الخاصة خارج قصر باكنغهام لحضور العرض النهائي، وهتفت الحشود "نحبك يا بوريس، نحبك حقا! نحن نحبك يا بوريس، نحن حقا!" لقد حدث ذلك بالفعل.
عندما أشرقت أنوار صباح يوم 24 يونيو، بدت حتى الأحداث التي وقعت قبل أسابيع فقط وكأنها حدثت في عالم مختلف آخر. كان بالكاد قد مرّ شهرعندما ظهر أحد مساعدي حملة الخروج من الاتحاد الأوروبي مثيراً للغاية في مصنع للصفائح المعدنية في دورست.
"قبل الكلمة، سيكون هناك شيء،" هكذا قال وهو يرتد صعودا وهبوطا من شدة الحماسة. "لا أستطيع أن أقول ما هو هذا الشيء. لكنكم لا تريدون تفويته."
لم يكن لدى الصحفيين القلائل الذين حضروا سوى الانتظار في منطقة مخصصة في الطرف الآخر من المخزن. تم نزع غطاء كبير من القماش على لوح خشبي بعرض خمسة أمتار على الأقل، لتنكشف 21 صفيحة من الفولاذ المدلفن حديثًا. قالوا إن المصنع ينتج ما قيمته " 350 مليون جنيه إسترليني (حوالي 440 مليون دولار) كل أسبوع."
ثم ظهر الرجل الذي على وشك أن يصبح رئيس وزراء بريطانيا المقبل، في ملابس واقية من الرأس إلى أخمص القدمين. كان يرتدي أحذية مغطاة بالفولاذ، وقفازات طويلة وسميكة وقناع وجه بدا وكأنه استعير من شخصية "باين" في فيلم فارس الظلام. كان يلوح بآلة صنفرة الزوايا، وبينما كنا نقوم بواجبنا نلتقط الصور وننشر تغريدات عن الحدث، بدأ رئيس الوزراء المقبل بإشغال الآلة.
تطاير الشرر. سطح حديدي يحتك بالحديد. حتى هذه المهمة بدأها بطريقة غير متعمدة وبأسلوب تهريجي، مثل طفل يكتب اسمه بلعبة نارية. لقد كان تمرينًا لا طائل منه. ولم تحقق مساعيه أكثر من ترك شخبطات بسيطة على حرف "P" من Per Week في عبارة " 350 مليون جنيه إسترليني ( حوالي 440 مليون دولار) كل أسبوع."
وفي غضون دقائق معدودة، كان على خشبة صغيرة على أرضية المصنع يلقي خطابا متدبدبا أصبح في تلك اللحظة خطابا معياريا، تضمن حسب ما دونتُه في تلك اللحظة ست مغالطات حول قواعد الاتحاد الأوروبي لوَسْم الأغذية. إلا أن مجازفته تلك لقيت نجاحا. فَكِذْبته بشأن 350 مليون جنيه ( حوالي 440 مليون دولار) ترسخت قليلا في أعماق الوعي الشعبي. وبعد أسبوع، سيذيب شيكا ضخما من الألومنيوم بمبلغ مماثل. وبعد ذلك سيتم تحطيم ذلك المبلغ بطريقة ما في مزاد على بقرة في معرض فلاحي.
كانت تلك، بطبيعتها، لحظات فيها شيء من البراءة. استقل جونسون عائدا إلى لندن نفس القطار الذي كان يستقله الصحفيون وعلى الرصيف سأله أحدهم حول فرصة التقاط صورة لإعلانه 350 مليون جنيها اسبوعيا (حوالي 440 مليون دولار). "هي طريقة أكثر من رائعة للإعلان عن صفقتك بشأن عمودك الجديد في التيلغراف، أليس كذلك؟"
ضحك وضحك معه مساعدوه كثيرا. وعلى متن قطار العودة كان مايكل كيرك من القناة الرابعة يركض في العربة وهو يحمل كاميراته لتوقيف جونسون في عتبة العربة وسؤاله عن بعض المخالفات في الإنفاق أو غيرها.
وثمة سبب بسيط للتساهل مع هذه السخافة بسعادة بالغة. فما من أحد كان متساهلا معها سمح لنفسه بما يكفي للتفكير ولو لبرهة بأن التصويت بالمغادرة قد يفوز. فأنصار حملة التصويت بالمغادرة الذين يدورون في كل مكان ينشرون تلك الأكاذيب السخيفة لن يصرحوا مباشرة بأن النصر الحقيقي في الاستفتاء كان حديثا وهميا بل سيقولون ذلك خفية وبكل سعادة.
لم يؤمن أبدا البهلوان الأبدي إيمانا عميقا بأنه سينجح في أن يهوي بالبلد إلى مستوى كافي للقائه. لكن ذلك ما فعله بالضبط. فلم يكترث أحد لأكاذيبه إلى أن فات الأوان.
ساعدت الأسابيع المؤسفة التي مرت سنة 2016 على وقوع أحداث الأسابيع المؤسفة الأخيرة. وقد كررت أحداثها مرة أخرى. ومرة أخرى جال جونسون جميع أرجاء البلاد وهو يطلق أكاذيب فاضحة ويعطي وعودا يعرف أنه لن يستطيع الوفاء بها. لكن لا أحد اكترث وفات الأوان كثيرا لفعل ذلك.
ومن الواضح أن قدرته على جعل بلده، أو بشكل أدق، حزبه في هذه الحالة المزرية بحيث يحتاج نوعا من الإنعاش لا يمكن أن يقدمه إلا هو، هو عمل من أعمال التخريب الوطني لم يسبق له نظير ولا يخدم إلا إشباع الرغبة الشخصية. فقد حول الأمة إلى نادي البولينغدون.
لكن ما الذي أوصله إلى هذا المكان؟ ما من شك أن البريطانيين يعطون قيمة كبيرة لحس الفكاهة أكثر من أي شعب آخر. لقد سعى لتولي منصب عمدة مدينة لندن لكي يكون أكثر بقليل من أكبر مهرج في لندن وهو ما قام به بنجاح باهر. فمعظم الصحافيين حضروا في وقت أو آخر مناسبة أو مأدبة غداء في الطابق الأخير لمبنى البلدية.
أستطيع أن أتذكر مناسبة من تلك المناسبات حيث كان يعمل على جلب انتباه وسائل الإعلام لحملة القراءة للأطفال بمساعدة بيتر أندري. كان خطابه الذي استغرق أربع أو خمس دقائق بدون معنى لكنه كان مبهرا. وقد حدث أن عمدة لندن كان أحد أروع كوميديي المدينة الارتجاليين.
وإذا قرأت جريدة إيفنينغ ستاندرد، ستجد قصصا اخبارية تفيد أن قطارات الخط المركزي التي تم تكييفها حديثا تتضمن مقتطفات من خطابات العمدة يعد فيها بأن "اللندنيين سيصلون إلى وجهاتهم بدون إرهاق أو تعب". جعل المدينة تشعر أنها بحالة جيدة، حتى لو كانت عربات الخط المركزي المكيفة، بعد عقد من الزمن أو نيف، لم تدخل الخدمة.
إلا ان تلك الأيام ذهبت بلا رجعة. ففكرة أنه "سيوحد البلاد" كما يزعم تعد فكرة طائشة، ذلك أن لديه رغبة جامحة للذهاب بنا إلى حافة بريكست بدون صفقة. وربما يستطيع تحقيق رغبته تلك. فالركود الذي سيشعر به 48 بالمئة على الأقل من سكان البلاد والذي سيُلحقه بهم 52 بالمئة الآخرين بمساعدة رئيس الوزراء لن يوحد البلاد بل سيؤدي إلى نشوب الاضطرابات.
وهناك تشكيك واسع في جدية رغبة جونسون في الفوز بالاستفتاء، ولكن ذلك لا يهم. المؤكد هو أنه لم يتوقع الفوز به. ولو كان قد خسر الاستفتاء، سيكون قد عزز نفسه كأحد أنصار البريكست المميزين في حزبه، ما سيمنحه دفعة قوية في سباق زعامة المحافظين في سنة 2019 والذي كان بالإمكان تنظيمه الآن في كل الأحوال لتعويض ديفيد كامرون. وفي تلك الظروف، من المنصف الافتراض أن مهمته الأولى في منصب رئاسة الوزراء لن تكون تكثيف الاستعدادات لكارثة نلحقها بأنفسنا.
يقدم آخر عمود له في الديلي تلغراف ما ستحتاجه لمعرفة الرجل. وهذا لا يعني أنك لا تعرفه مسبقا. "إذا استطعنا أن نضع إنسانا على القمر، فسنستطيع حل مشكلة حدود إيرلندا الشمالية. "
فردة الفعل الوحيدة التي يمكن أن يقوم بها أي شخص يمتلك أكثر من خليتين دماغيتين تجاه هذه القذارة الكاذبة هو نوع من الصرخة البدائية المعبرة عن الإحباط. فالناس الذين أرسلوا الانسان إلى القمر كانت لهم خطة وبلغوا ذلك بعد عقود من العمل الشاق. فهم لم يبلغوا مبلغهم بقوة الأكاذيب ببساطة.
فمشكلة حدود إيرلندا الشمالية سبق أن تم حلها من خلال الإنجاز السياسي المتواضع والرائع لاتفاق الجمعة العظيمة. أما بريكست فلا تسعى لإيجاد أية طريقة لحل المشكلة، إذ إنها هي المشكلة في حد ذاتها.
بصورة جوهرية، وهذا هو بالتأكيد بيت القصيد، ثمة في تلك الكلمات دليل واضح أن جونسون، وحتى اليوم، لم يقتنع بأن "نحن" اليوم هي "هو". فهو لم يعد كاتب عمود صحافي، والمشاكل لم يعد بالإمكان حلها في ثلاث فقرات من الثرثرة.
وفي لحظة ما، في الأشهر القليلة القادمة، سيتعلم أن أناسا آخرين أفضل منه وضعوا بالفعل إنسانا على القمر، وأنه لا يستطيع حل هذه الفوضى العارمة التي تسبب فيها بنفسه كليا.
فهو يقول إن هذا البلد يحتاج أن يستعيد بعضا من "الثقة بالذات". لكن الأمر لا يتعلق بالثقة بالذات. فالبريكست ليس هبوطا على القمر. بالنسبة ل 48 بالمئة من السكان على الأقل ليس هناك أي هدف جريء وجسور في الأفق. فالهدف هو بريطانيا أسوأ – معزولة ومنعزلة وأفقر بدرجة أكبر. فالملايين من الناس الذين لا يؤمنون بالبريكست لا يعانون من أية أزمة ثقة بالذات. وسيكتشف جونسون سريعا أن العكس هو الصحيح، (أي أن من يؤمنون بالبريكست مثله هم من يعانون من أزمة ثقة بالذات)
نحن لسنا في هيوستون لكن لدينا مشكلة اسمها بوريس، ولن تكون فيلما سينمائيا بنهاية سعيدة.
© The Independent