نظرية ابن سينا
اتبع أبو علي الحسين بن سينا (370-428 هـ - 980-1037م) في نظريته المسلك العام الذي نهجه الفارابي، لكنه تميز بسعة الإسهاب والتدقيق والتمحيص، والتقريب الذهني للفكرة. ففي مسألة "القوة المتخيّلة"، على سبيل المثال، فإن ابن سينا خالف ما ذهب إليه الفارابي، إذ لم يجعل كمالها شرطاً في تحقيق النبوة، بل إن قوة صفاء النفس التي تشتعل حدساً وتتصل بالعقل الفعّال هي "قوة قدسية"، كما أنها ليست فقط ضرب من النبوة، وإنّما "أعلى مراتب القوى الإنسانية" حسب تصوّره.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتأتي نظرية النبوة في فلسفة ابن سينا ضمن سياق مذهبه في النفس والمعرفة، فضلاً عن آرائه وأفكاره المنثورة في دراسة السياسة والاجتماع والتصوف. ويشير ابن سينا في "رسالة في إثبات النبوات"، إلى أن الإنسان الذي له مَلكة، تكون خارج الفعل التام، وبغير واسطة، فهو "المسمى بالنبي"، الذي ينتهي إليه التفاضل في الصوّر الماديَّة. وإذا كان كل فاضل يسود المفضول ويرأسه، فإذن النبي يسود ويرأس جميع الأجناس التي فضلها، فهو قمّة الإنسانية وأعلى ذُراها.
وفي كتاب "النجاة"، يسهب ابن سينا في نظريته النبوية، إذ لم يكتف بأن يجعل من قمة الكمال الإنساني إلى النبي محصوراً في العقل المستفاد، وإنّما وضع له طريق الحدس. فالمعرفة الحدسية تؤدي إلى العقل القدسي، وهذا يعني الوصول إلى درجة النبوة، لأن النفس لها طريقان يمكنها من خلالهما أن تصل إلى الحقائق، وهما: الفكرة والحدس. وذلك يكون حسب قوة استعداد النفس. فالطريق الأول، تنتقل النفس بين المعاني المخزونة في الباطن، مستعينة بواسطة التخيّل، وتحاول الوصول إلى المعنى المطلوب من خلال المقدّمات المنطقيَّة. أمَّا الطريق الثاني، فإن النفس تحاول الوصول إلى العلوم بشكل مباشر، من دون أن تستعين بشيء من تلك المقدّمات المنطقيَّة، ويكون لها ذلك بالاتصال مباشرة بالعقل الفعّال، وهذا الطريق يُعَدّ من أفضل الطُرق على الإطلاق، لإدراك أمور العالم العلوي.
فالحدس، حسب مفهوم ابن سينا، درجة خاصة من القدرة على الاتصال بالعقل الفعّال، وقد يشتد عند البعض من الناس بحيث لا يحتاج إلى تخريج وتعليم، بل تصبح العلوم حاضرة في أذهانهم دفعةً واحدة، ويجب أن تُسمى هذه الحالة من العقل الهيولاني (المادي)، "العقل القدسي". وهذا العقل القدسي من جنس العقل بالملكة، لكنه رفيع المستوى، ونادر الحدوث عند الناس.
ويرى ابن سينا، أن الحدس أصل العلوم والمعارف، فالمبادئ الأولية كلها حدسيّة، وكذلك النبوة ضرب من الحدس، إذ يمكن أن يكون شخض من الناس مؤيَّد النفس بشدّة الصفاء، وشدّة الاتصال بالمبادئ العقليَّة المفارقة إلى أن يشتعل حدساً، وهو القبول لإلهام العقل الفعّال في كل شيء. وهذا ضرب من النبوة، بل أعلى مراتب النبوة، والأوْلى أن تسمى هذه القوة قوة قدسيَّة، وهي ذروة مراتب القوى الإنسانية.
ومن هنا، فإن المعرفة تصبح مشتركة ما بين العقل المفارق وهذا الإنسان، وبذلك تخرج معارفه عن حدود النمط التقليدي، وتكون يقينية تفوق بكثير عن النهج العادي بالاستنتاج العقلي، كما تمكنه من الإحاطة بأزمنة الحاضر والماضي والمستقبل.
أمَّا مراحل تلقي النبي إلى الوحي، وفق نظرية ابن سينا، فيمكننا أن نختزلها وفق النقاط التالية:
1- تفيض العلوم الإلهية على لوح قلب النبي مباشرة.
2- تتلقى قوة التخيّل ذلك الفيض، وتتصوّره بالحروف والأشكال المتنوعة.
3- تنقش تلك الصوّر والعبارات على لوح النفس الصافي.
4- حينئذٍ، يتم للنبي مشاهدة الوحي باطنياً، إذ يسمع كلاماً منظوماً، وشخصاً بشرياً.
5- ويكون هذه الإلقاء بلا زمنٍ محدَّد.
وهكذا يتصوّر النبي في نفسه الصافية صورة الملقى، كما تتصوّر في المرآة المصقولة صورة المقابل. إن الحسّ يتلقى المحسوسات من الحواس الظاهرة تارة، ومن الأحاسيس الباطنة أحياناً. فنحن نرى الأشياء بالقوى الظاهرة، وأمَّا النبي فإنه يراها بالقوى الباطنة. نحن نرى ثم نعلم، والنبي يعلم ثم يرى.
وفي كتابه "الإشارات"، يحاول ابن سينا أن يقرب أكثر من أمر النبوة إلى العقل الإنساني، فتراه يركّز في نصوصٍ كثيرة على مسألة التجربة والقياس. إذ إن "التجربة والقياس متطابقان على أن للنفس الإنسانية أن تنال من الغيب نيلاً ما، في حالة المنام، فلا مانع من أن يقع مثل ذلك النيل في حال اليقظة".
بمعنى أبسط، أن النفس الإنسانية التي تستطيع أن تطّلع على الغيب في أثناء النوم، لا يوجد هناك أدنى عائق من أن يحدث لها مثل ذلك وهي في وضع الوعي والاستيقاظ.
فحسب مفهوم ابن سينا فإن الجزئيات منقوشة في العالم العقلي على هيئة كلية، وفي العالم النفساني على هيئة جزئية. وللنفس أن تُنقش بنقش ذلك العالم بحسب الاستعداد وزوال الحائل. فلا تستنكرن أن يكون بعض الغيب ينقش فيها. فللنفس فلتات في أثناء النوم تخلص بها إلى جانب القدس فينقش فيها نقش الغيب. ولا يبعد أن تقع لها ذلك في حال اليقظة إذا تجردت عن المادة، وكانت قوية ذكية رشيدة، فتتصل بالملكوت الأعلى وتقوم بالمعجزات والكرامات وخوارق العادات، وتؤثر في الكون كنفوس الأفلاك وعقولها.
وفي هذا الخصوص، أفرز ابن سينا النمط العاشر في "الإشارات"، إذ يقول: "فإذا كانت النفس قوية الجوهر تسع الجوانب المتجاذبة، لم يبعد أن يقع لها هذا الخلس والانتهاز في حال اليقظة. فربما نزل الأثر إلى الذكر فوقف هناك، وربما استولى فأشرق في الخيال إشراقاً واضحاً، واغتصب الخيال لوح الحس المشترك إلى جهته فرسم ما نقش فيه منه، لا سيما والنفس الناطقة مُظاهِرة له، غير صارفة عنه، مثل ما قد يفعله التوهم في المرضى والممرورين، وهذا أوْلى. وإذا فُعل هذا صار الأثر مشاهداً مبصَراً أو هتافاً أو غير ذلك. وربما تمكن مثالا موفور الهيئة أو كلاما محصّل النظم. وربما كان في أجلَّ أحوال الزينة".
ويستمر ابن سينا في تقريب مفهوم النبوة إلى الأذهان، وكذلك الخوارق والمعجزات، إذ يقدم التفسير والتعليل بطريقة عقلانية، فهي ليست أكثر من ظاهرة طبيعية، كبقية الظواهر الموجودة في العالم وفي الكون، لها أسبابها التي نجهلها، لكنها قابلة للتفسير وفق قوانين الطبيعة التي نفهمها.
لذلك ينصح قائلاً: "إياك أن يكون تكيسك وتبرؤك عن العامة هو أن تنبري منكراً لكل شيء. فذلك طيش وعجز. وليس الخرق في تكذيبك ما لم تستبين لك بعد جليته دون خرق في تصديقك بما لم تقم بين يديك بينة. بل عليك الاعتصام بحبل التوقف، وإن أزعجك استنكار ما يوعاه سمعُك ما لم تتبرهن استحالته لك. والصواب لك أن تسرح أمثال ذلك إلى بقعة الإمكان ما لم يذدك عنه البرهان. واعلم أن في الطبيعة عجائب، وللقوى العالية الفَعّالة والقوى السافلة المنفعلة اجتماعات على غرائب".
النبي واجب إنساني
يرى ابن سينا، أن النبي واجب إنساني، إذ إن مجرى الأمور الحياتية لا يمكن لها أن تتم وتستقر من دون وجود نبي، يجعلها تستمر على أكمل وأفضل وجه. فالإنسان يختلف عن الحيوان لكونه لا يستطيع أن يحيا حياة فردية منعزلة عن الآخرين. ونتيجة لذلك فقد توجب عليه الأمر أن يعيش مع أناس يشاركونه على متطلبات الحياة، مما أدى إلى عقد المدن والاجتماعات. أنه واجب ضروري للإنسان أن يكون في بقاء من مشاركة، ولا تتم المشاركة إلا بمعاملة، ولا بدّ في المعاملة من سنّة وعدل، ولا بد للسنّة والعدل من إنسان يخاطب الناس ويلزمهم السنّة ويحقق العدالة بينهم، ويجب أن يكون لهذا الإنسان خصوصية ليست لسائر الناس، حتى يستشعروا فيه أمراً لا يوجد لهم فيتميز به عنهم، فتكون له المعجزات.
وهذا الإنسان النبي إذا ظهر بين أمة ما، توجب عليه أن يذكر الناس على أصول الدين وتعاليمه وعقائده من دون أن يتشعب في دقائق الجزئيات، التي ليست بمقدورهم أن يدركوا فهمها. والسبب في ذلك، لكي لا يعظم عليهم الشغل ويربكهم في تشويش ما بين أيديهم من كليات يعرفونها. وبذلك يعرضهم للوقوع فيما لا يتمكن من تسهيل صعابه إلا من يشذ وجوده ويندر كونه. وعندها تتكاثر الشكوك والظنون وتتعقد الأمور على اللسان لكي يضبطهم.
يقول ابن سينا في"النجاة"، النبي ليس ممّا يتكرر وجود مثله في كل وقت، فإن المادة التي تقبل كمالاً مثله تقع في قليل من الأمزجة. فيجب لا محالة أن يكون النبي قد دبّر لبقاء ما يُسنّه ويُشرّعه في أمور المصالح الإنسانية تدبيراً لا يزول مع انقراض القرن الذي يليه، بل يظل مستمراً في مدد متقاربة، فلا يكاد ينفسخ حتى يلحق عاقبُه ويخلفه نبي جديد.
ويقول ابن سينا أيضاً في "الإشارات"، وكل نبي يجب أن يكون متميزاً باستحقاق الطاعة. واستحقاق الطاعة لا يكون إلا لخصوصةٍ له ليست لسائر الناس، أعني لاختصاصه بآيات تدل على أنها من عند ربه، تلك هي معجزاته. ولا تنتظم الشريعة دون أن يكون للمحسن والمسيء جزاء من عند القدير الخبير. وذلك يتضمن معرفة المجازي والشارع. وهذه المعرفة الضرورية لا تثبت ولا تستقر إلا إذا كان معها سبب حافظ لها. ومن هنا فُرضت على الناس العبادة المذكرة بالمعبود، وكررت عليهم في أوقات متتالية، كالصلوات وما يجري مجراها، وذلك ليستحفظ الشارعُ التذكير بالتكرير، ولكي يزول احتمال النسيان. وبذلك استمرت الدعوة إلى العدل المقيم لحياة النوع. ثم زيد لمستعمليها بعد النفع العظيم في الدنيا، الأجرُ الجزيلُ في الأخرى. وأمَّا العارفون فقد أضيف إلى نفعهم العاجل وأجرهم الأجل الكمال الحقيقي، الذي خصُوا به من دون سائر الناس. فانظر إلى كلمة الله في فرض الشريعة وهي بقاء نظام العالم، وانظر إلى حجته تعالى وتفضله بالأجر الجزيل في الآخرة بعد النفع العظيم في الدنيا، ثم انظر إلى ما أنعم به على خواص عباده، فضلاً عن النفع والأجر من الابتهاج والكمال. فحينئذٍ يتجلى لك من أفق الجناب الإلهي ما تبهرك عجائبه. وإذا عرفت كل هذه المزايا التي للشرائع، فيجب أن تقيم غيرك عليها وأن تكون مستقيماً فيها.
إن ما يذهب إليه ابن سينا في شخصية النبي، ودوره كواجب إنساني في هداية الناس، وتذكيرهم بالرب الخالق. هي إضافات فكرية نابعة من عقيدته الإسلامية، التي جعلت نظريته ذا نكهة روحية خاصة. لكنه مثل الفارابي، إذ إن نظريته أيضاً فيها أفكارٌ ذات صلة بفلسفة أفلاطون وأرسطو وأفلوطين من جهة، ولم يرض الدين تماماً من جهة أخرى. لا سيما أنه لم يكترث إلى الجزئيات في الدين، من عبادة وطقوس وشعائر وغيرها. فابن سينا يتعامل مع الدين من جانب كلي، ولذلك كانت نظريته تنظر إلى النبوة على أنها من الكليات، التي كان يفكر بها على هذا النهج.
وعلى الرغم من أن نظرية ابن سينا النبوية من منبع أفكار الفارابي في النفس والمعرفة فإنه أكثر موضوعية وشفافية. أمَّا أقواله عن "الحدس" فقد صاغها بأسلوب ذهني يتماشى مع سياق المعارف في مذهبه الفلسفي، التي قسّمها إلى ثلاث: معرفة بالتجريد ومعرفة بالحدس ومعرفة بالعرفان.