ملخص
يبدو أن #باريس قرر ذات يوم في وقبل وجود #الفرويدية أن يتخلص من سطوة الأب الذي كانه #رينان بالنسبة إليه
كان الكاتب الفرنسي موريس باريس يعتبر نفسه تلميذاً للمفكر إرنست رينان الذي كان حينها يعتبر المحرك الأكبر للثقافة الفرنسية، ومع ذلك، كان منذ بداية انخراطه في مهنة الأدب، لا يكفّ عن مناوئته وبشكل يحمل الكثير من العدائية أحياناً، ولقد كان هذا التصرف يدهش معارفهما بل انتقل إلى الصحافة والتجمعات الفكرية والأدبية مثيراً الكثير من التساؤلات، ومع ذلك، سوف يعرف السبب لاحقاً ولكن بالتدريج ليصل ذروة انكشافه حين أصدر باريس عام 1888 واحداً من كتبه التي ستحوز شهرة واسعة لاحقاً، لكنها لم تكن شهرة طيبة لأن الكتاب حين نشر سيعتبر فضيحة الفضائح. ففي المقام الأول هو كتاب يضم حواراً مطولاً أجراه باريس مع رينان وأصدره بعنوان "ثمانية أيام عند السيد رينان"، واستبشر كثر خيراً إذ اعتقدوا أن مجرد صدور الكتاب قد يكون استعادة للعلاقة بين الكاتبين الكبيرين، أو على الأقل حسماً للجدالات الطويلة التي كانت قد قامت بينهما من موقع التناقض التام بن باريس الذي كان قد أضحى من أنصار النزعة الفردية ليس في الأدب وحده، بل في كل شأن من الشؤون، فيما كان رينان مفرطاً في اهتمامه بالآخرين، وكان ذلك طبعاً في خلفية الصدام الدائم بينهما بالنظر إلى أن باريس كرّس أدبه وحياته وأفكاره للدعوة الفردية. ومن هنا، تتخذ كل أهميتها لديه تلك العبارة التي كتبها ذات يوم عن أستاذه إرنست رينان مؤكداً فيها أن "رينان لا يبالي بالآخرين. هو لا يهتم إلا بالشخصيات ذات السمات شديدة الخصوصية. بالنسبة إليه، لا وجود للفرد على الإطلاق". والحقيقة أن هذه العبارة لو جاءت بقلم شخص آخر غير باريس، لاعتبرت وصفاً محايداً أو حتى مديحاً لرينان، لكنها إذ تأتي لدى باريس، تصبح نوعاً من النقد الحاد.
سطوة الأب
ويبدو أن باريس، وقد بلغ حينها الـ 28، قرر ذات يوم في، وقبل وجود الفرويدية، أن يتخلص من سطوة الأب الذي كانه رينان بالنسبة إليه، ففعل ذلك بشكل موارب ولكنه قاس. ففي الكتاب، أورد الكاتب الشاب حواراً يمتد على مدى صفحات كثيرة بينه وبين رينان مع تدخلات من آخرين بين الحين والآخر، وفي ذلك الحوار راح يطرح عليه أسئلة عدة ويثير مناقشات، فيما رينان يجاوب. وكان الأمر على أية حال منطقياً بالنظر إلى أن الحوارات كانت تلامس في مجملها شتى جوانب المناقشات المعهودة بين الرجلين، لكن المشكلة ليست هنا وإلا لما تحدثنا عن "فضائح".
المشكلة أن ذلك الحوار كان متخيلاً لم يجر أبداً بين باريس ورينان، ففي حقيقة الأمر أن باريس إنما استخدم حواراً لا أساس له بينه وبين أستاذه القديم، لمجرد أن يمعن في صورة رينان تحطيماً، ولكن في شكل جعل كثراً من النقاد والباحثين يقولون إنه، أي باريس، بدا وكأنه في النص يحطم جزءاً من ماضيه الشخصي أكثر مما يحطم أستاذه الكبير. في المحصلة، أتت حوارات هذا الكتاب أشبه بحوارات سقراط في "المأدبة": تفسيرية، انتقادية، مراجعة مع الذات. ولعل باريس، على أية حال، كان الأكثر وعياً بكتابه ومضمونه، وعلاقته الضمنية مع الصنم الذي بناه طوال سنوات ثم جاء الآن ليحطمه، إذ ذات لحظة عند نهاية الكتاب يلتفت إليه رينان ليقول له وبلغة أقرب إلى الحياد والموضوعية "إنك يا عزيزي تعيد اختراعي من جديد، بدلاً من أن تعلن أنك لا تعرفني، أو بدلاً من أن تحطمني"، والحقيقة أن من يقرأ هذا الكتاب، سيصل بالضرورة إلى هذا الاستنتاج.
توضيح ضروري
مهما يكن، فإن الأمر بحاجة إلى بعض التوضيح، فإذا كنا أكدنا أن هذا الحوار متخيلاً، فلا بدّ لنا من أن نقول إن لهذا التخيل حدوداً، إذ إن باريس كان بالفعل قد التقى رينان في البلدة التي كان يعيش هذا الأخير فيها في مقاطعة بريتاني غرب فرنسا، إذ قصد زيارته مع صديق له، وبالفعل، كانت غاية باريس من تلك الزيارة أن يجري حواراً طويلاً مع رينان الذي كان يعتبره مثله الأعلى في الحياة، وكان رينان، في اتصال سابق، قد وافق على اللقاء والحوار، وجرى حوار بالفعل، ولكن الذي حدث هو أن باريس شعر بخيبة أمل كبرى، لم يجد أستاذه كما كان يتوقع أن يجده، هبطت الأسطورة بالنسبة إليه من المحل الأرفع الذي كان وضعها فيه. في السابق، كان إرنست رينان بالنسبة إلى موريس باريس، أسطورة الأساطير وراهب الفكر المنزه المترفع عن الشؤون المادية في الحياة، لكنه الآن إذ يجابهه هذه المجابهة، وجد الأمر مختلفاً تماماً، ومن هنا ما إن أنجز مهمته وعاد، حتى رمى جانباً كل الأوراق، القليلة على أية حال، التي كان دونها، ليعيد كتابة حوار متخيل من أوله إلى آخره يعبّر أكثر ما يعبر عن خيبة أمله.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مشروع طويل
في البداية، كان هذا المشروع يشكل على أية حال جزءاً من سلسلة من مشاريع رسمها باريس لتتألف من حوارات حقيقية وموسعة مع كبار كتاب ومفكري عصره، وهو كان بالفعل قد أجرى حواراً أعاد صياغته أيضاً مع الناقد إيبوليت تين عنونه "السيد تين في السفر"، لكنه لم يصغه ولم ينشره أبداً، أما بالنسبة إلى "حواره" مع رينان، فإنه نشره عام 1888، ليثير من خلاله ما سمي حينها بـ "فضيحة الفضائح" في الحياة الأدبية الفرنسية. ففي ذلك الحين كان إرنست رينان (صاحب "حياة يسوع" و"ابن رشد والرشدية" بين أعمال فكرية وفلسفية وأدبية لا تحصى)، يعتبر علماً كبيراً من أعلام الفكر والثقافة في فرنسا وأوروبا، ولم يكن أحد ليجرؤ على الدنو منه أو انتقاده، فكيف وقد "فعلها" الآن كاتب شاب، كان جزء من شهرته في الأساس يقوم على كونه من حواريي رينان، كان هذا الأخير معروفاً، منذ بروز باريس على الساحة الأدبية الفرنسية بأنه بطله وملهمه، بل إن رينان، كان في تلك الأعوام بالذات البطل المطلق للشبيبة المتأدبة في فرنسا، كما كان يحظى باعتراف إعلامي ولا يناقش في كلمة، أما باريس فلسوف يبدو لاحقاً أنه، وبعدما فرض حضوره الشاب في الحياة الثقافية الفرنسية بكتابه "تحت عين البرابرة"، بات يتحرق لقطع الجسور مع ذلك الأستاذ الأب.
كتاب الخيبة
إذاً، باختصار، كتاب باريس هذا، إنما هو بورتريه لرينان رسم بريشة الخيبة، على إثر ذلك اللقاء الحقيقي الذي حدث في منطقة بريتاني، وفي هذا الإطار، تتخذ دلالاتها عبارات جاءت في الكتاب مثل "بالنسبة إليّ كان هذا الرجل وراء إنتاجي 30 عملاً أدبياً كبيراً لا أكثر ولا أقل، لكنها كانت أعمالاً حركتها روحي وحدها وأوجدتها، أعطتها حياتها". واضح أن في هذا الكلام تعبيراً حقيقياً عن تلك الخيبة، ولكن، أوليس فيه في الوقت نفسه في توكيد الذات؟ أولاً، يتضح من هذا الكلام أن موريس باريس، بقدر ما يريد أن يعبر عن رغبته في تحطيم أسطورة "معلمه" يريد في المقابل أن يؤسطر نفسه، أن يبدو وكأنه هو الذي اخترع أرنست رينان؟ أولاً، يبدو موريس باريس هنا أشبه بـ "بجماليون" يحطم التمثال الذي تقول الأسطورة القديمة إنه نحته والآن ها هو يريد التخلص منه؟ إن هذا كله واضح هنا، ذلك أن الذي يعرف حقاً أدب وفكر رينان، بل حتى الذي يعرف حياة رينان وترهبه للفكر، إذ يقرأ البورتريه الذي رسمته حوارات هذا الكتاب، لن يعثر على أثر لصاحب "ابن رشد والرشدية" فيه.
بين ألمانيا وفرنسا
عاش موريس باريس بين 1862 و1923، وكان كاتباً وروائياً اشتهر في زمنه بمواقفه السياسية، لا سيما إبان أزمة "درايفوس"، كما أنه انتخب نائباً عن نانسي ثم عن باريس، كان منذ ثلاثيناته، قومياً متطرفاً ووقف ضد "درايفوس"، ثم تقرب من الفكر اليميني المتطرف أواخر حياته، وهو كروائي اشتهر بنزعة فردية متطرفة عبر عنها في ثلاثيته "عبادة الأنا"، أما نزعته الوطنية المتطرفة فلاحت مبكرة من خلال ثلاثية أخرى هي "رواية الطاقة الوطنية"، وعبر عن نزعة المناصرة لألمانيا في ثلاثية "حصون الشرق"، هو الذي كان يدعو إلى لقاء تاريخي بين النزعة الفرنسية والنزعة الجرمانية.