ملخص
قواعد تحريك الجماهير التي تقع أسرى سحر الكلام تتغير بحسب الظروف والعصر وطبيعة المتلقي المستهدف ومعها محتويات كبسولة التدين
من السعودية شرقاً إلى مصر غرباً تطاير شرر "سحر الكلام" على مدار عقود لينال من قلوب وعقول ملايين، متعدياً الأثر إلى شتى أرجاء الدول العربية وغير العربية. استلب رجال الدين بطرق شتى وأدوات مختلفة الجميع إلا قليلاً. خطاب دعوي شعبي يعتمد على سحر الكلام تسلل وتوغل وتمدد، لينتقل من جيل إلى جيل، ناقلاً قدراً غير قليل من الفكر الذي يصفه بعضهم بالمتشدد، ويراه بعضهم الآخر بأنه صحيح الدين.
تلون الانتشار بألوان المجتمعات، وتواءمت الكلمات لتناسب ثقافات المتلقين بخصوصياتها وأوتارها الحساسة فدقت عليها بعنف وسيطرت عليها بإحكام، فكان "سحر الكلام".
عشرات من شرائط الكاسيت ملقاة بعشوائية تتناغم والفوضى العارمة في موقف "أحمد حلمي" أحد أبرز مواقف السيارات التي تنقل سكان الريف إلى العاصمة المصرية منذ عشرات السنين في رحلات أغلبها ذهاب بلا إياب. البائع يروج بضاعته عبر تشغيل أحد الشرائط التي يبيعها بأسعار تتراوح بين 50 و75 قرشاً على سبيل الترويج للمحتوى وجذب المشتري المحتمل.
لكن الحقيقة أن البضاعة لم تكن في حاجة إلى أي جهود ترويجية. بدا وكأن الطقس الأول لجيوش القادمين من الريف إلى المدينة هي الحصول على ما تيسر من شرائط الشيخ كشك.
كشك والـ"ستاند آب كوميدي"
طبعت آلاف الشرائط، وكان الطلب عليها بملايين حتى صار الأصدقاء ينقلون المحتوى من شريط إلى آخر حتى تعم الفائدة. قاعدة عريضة من المصريين باتت متيمة بكلام الشيخ. ولم لا؟ صوت جهوري، بلاغة تمزج بين ذكاء ريفي قادر على الميل إلى الخبث أحياناً، و"كلمنجي" المدينة المتبحر في سفاسف الأمور، والصانع من "حبة" التفاصيل الصغيرة "قبة" الحياة والآخرة والدين والإيمان والحاضر والمستقبل، وكل ذلك في قالب هزلي أقرب ما يكون إلى الـ"ستاند أب كوميدي".
سخرية من الفنانين، تنمر بالفنانات، سب في جمال عبدالناصر وثورته، شتم في السادات وسياسة الباب المفتوح وإبرام السلام مع "القردة والخنازير"، تعليل ارتفاع اللحوم عند الجزار برخص لحوم النساء في الحرام، وكلام لا أول له أو آخر عن كل ما يشغل البسطاء، ويشكل أحاديثهم الجانبية، ويطغى على أفكارهم التي عادة لا تخرج عن إطار ضيق ذات اليد، والمرأة والجنس، والفن والفنانين حصيلة ما قدمه كشك.
لكن الكلام محسوب بميزان دقيق. المواضيع هي نفسها حديث الشارع، والنكات ذاتها التي يختلط فيها جد الشغف بالجنس والنساء بهزل الواقع الخالط بين ثقافة ريفية رجعية وحداثة مدنية غير مفهومة للغالبية، لكن العمامة والقفطان وغزل الآيات القرآنية ونسج الأحاديث النبوية في جلسة الشيخ والمريدين المحببة في المسجد جعلت من الشيخ عبدالحميد كشك "فارس المنابر" و"ملك ثقافة الأرصفة" و"رائد انغلاق مصر في العصر الحديث".
كشك حي يرزق
مستمعو ومريدو ومحبو ومعتنقو "حكايات" الشيخ كشك يقدرون بملايين. وهم "يقدرون" وليس "قدروا" لأن "كلام" الشيخ كشك ما زال متداولاً بفعل وبفضل الشبكة العنكبوتية، إذ يحرص القائمون على مئات وربما آلاف المواقع على الإبقاء على "فارس المنابر" حياً بحكاياته يرزق بقصصه وتنمراته وسخرياته التي ما زال يسمعها ويتداولها عمال البناء و"طيارو" الدليفري وأسطوات الورش وصبيتهم.
خواء خانة القراءة، وفجوة الأمية أو شبه الأمية، ووقت الفراغ والبحث عن ترفيه غير مكلف لا بد أن يملؤها شيء ما. وحين يأتي هذا "الشيء" حاملاً قيمة مضافة، حيث الحديث "فخفخينا" خليط من الجنس والحذاقة والسخرية من الآخرين، والتنمر على "غير المؤمنين"، وتأكيد ثقافة دونية المرأة، حتى وإن حث مريديه عدم ترك زوجاتهم والسفر إلى دول الخليج، فإن النتيجة الطبيعية هي إقبال شعبوي ساحق على شريط الكاسيت المتخم بالألغام اللذيذة.
وعلى مدار سنوات التحول الأولى، كاد صوت الشيخ عبدالحميد كشك ينضح من كل سيارة أجرة وباص نقل عام ومقهى شعبي. تحول ابن شبراخيت (محافظة البحيرة غرب دلتا مصر) الضرير الذي حفظ القرآن الكريم وهو دون العاشرة، وتدرج في التعليم الديني الأزهري حتى تخرج الأول على دفعته في كلية أصول الدين، الذي اعتلى المنابر وخطب في المصلين وهو في سن الـ12 من عمره حتى سماه بعضهم "طفل المنابر المعجزة" إلى صوت أقرب ما يكون إلى الصراخ يشكل مع الأكسجين وثاني أكسيد الكربون والنيتروجين مكونات الغلاف الجوي المحيط بالمحروسة.
ويقال إن أساتذته في الجامعة كانوا يعرضون عليه مادتهم العلمية قبل تدريسها ليدلو فيها بدلوه نظراً إلى ذكائه الجم ومهارته اللغوية الرهيبة، بل كان يحل محلهم في عديد من قاعات الدرس بين أقرانه من الطلاب.
الشيخ العاشق للكلام
الشيخ العاشق للكلام، حيث الجمل الرنانة والعبارات ذات المغزى واللغة العربية السليمة المختلطة بالعامية الغارقة في الشعبوية وقت الحاجة وحس السخرية الحاد لدرجة التجريح الذي تهفو إليه نفوس بشرية لم تحظ بقدر واف من صقل التربية أو تنقيح التنشئة، اكتسب شعبية كاسحة ساحقة.
ويعتقد بعضهم أن شعبية كشك بدأت مع شريط الكاسيت زهيد السعر في أواخر السبعينيات والثمانينيات، لكنها انطلقت من المساجد التي تنقل بيها انتهاء بمسجد "عين الحياة" في منطقة حدائق القبة في القاهرة، وهو المسجد الذي تحول بعد أسابيع قليلة من تعيين كشك إماماً له إلى "جامع الشيخ كشك"، وذلك في منتصف ستينيات القرن الماضي. قبلها وفي أثنائها وبعدها، عرف كشك بكونه "الشيخ المشاكس". شاكس الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وشاكس الهزيمة، وكان يقول نهاراً جهاراً "وكيف يكون هناك نصر وبينا صلاح نصر؟!" (رئيس جهاز المخابرات المصرية وقت نكسة 1967)، الذي لم يكن أحد يجرؤ على التفوه باسمه خوفاً من مصير أسود يلقاه.
مندوب المشاكسة
أحب المصريون من أناب عنهم في القيام بدور المشاكسة السياسية التي يعشقونها عشقاً فطرياً، لكن يخشون "أحياناً" المخاطرة بها. لذة الالتفاف حول الشيخ الضرير سليط اللسان حاضر البديهة المغامر بالسليقة جعلت دخول المساجد التي تنقل فيها إماماً وخطيباً في أولوية الحضور.
ولأن أولوية الحضور لم تكن تتيسر إلا لبضع مئات وربما آلاف، فقد جاء شريط الكاسيت، الذي كان يوزعه بعضهم بالمجان لنشر فكر الشيخ وقوائم التكفير التي سنها وقواعد السخرية التي زرعها وأصول التنمر التي رسخها في إطار ديني تطغى عليه ثقافة القرية المنغلقة، لكن في رحابة المدينة المترامية الأطراف.
وعلى رغم أن شعبية الرئيس الراحل جمال عبدالناصر كانت جارفة، فإن القاعدة الجماهيرية العريضة من عشاق ومريدي خطب الشيخ كشك كانت هي ذاتها قاعدة عبدالناصر، لكن من دون مكون الطبقة المتوسطة وما فوقها والتي كانت حينها قادرة على مقاومة الخضوع للتغييب أو التسليم بسلطة رجال الدين مهما تمتعوا بمواهب كلامية أو قدرات لاستلاب العقول والسيطرة على القلوب.
الإعجاب بالثورة والفخر بالعبودية
صورة الثوري تحظى بالإعجاب دائماً، حتى بين أولئك الكارهين للثورة. والشخصية المعارضة، لا سيما لو كانت تتمتع بالفصاحة والقدرة على الخطابة تصنع لنفسه هالة من الجاذبية تصل أحياناً إلى درجة سلب إرادة المريد والسيطرة على إرادته والهيمنة على كل قراراته بما في ذلك ماذا يأكل؟ وكيف يشرب؟ ومتى وأين يجامع زوجته؟! بمرور الوقت، يتحول بعضهم إلى أسرى القائد أو الزعيم أو الشيخ. والمثير أن هؤلاء الأسرى يعتقدون أنهم أحرار الإرادة والقرار، وهناك من يحذر من خطر تحولهم إلى عبيد يفاخرون بعبوديتهم الفكرية والثقافية، بل ويورثونها لأبنائهم وأحفادهم.
استلاب عقول مجموعات من البشر ليس حكراً على الشيخ كشك وغيره من مجموعة المشايخ التي استلبت عقول ملايين المصريين، وحولت الثقافة الشعبية إلى منظومة دينية شعبوية مشتقة من الشارع، وتسيطر عليه وتحكم على رواده قوانين الجماعة "المؤمنة"، بل وتصدر على الخارجين عليها أحكاماً وعقوبات، وإن اقتصر بعضها على التهميش.
كيف تسيطر على الجموع؟
دراسات وكتب عديدة حاولت الإجابة عن سؤال: كيف تنجح جماعة دينية أو "كالت" Cult في السيطرة على إرادة وعقول وقلوب أتباعها؟ النظريات كثيرة، منها ما يشبه ما يتعرض له أتباع جماعة أو فكر ديني معين بما يتعرض له أسرى الحروب، لا سيما في الصين وكوريا الشمالية في خمسينيات القرن الماضي من غسل أدمغة، ومنها ما يقع ضحية لأيديولوجيا سياسية متطرفة في توجهاتها مثل الشيوعية والنازية. وهناك الجماعات الدينية، وهي الأكثر شيوعاً في قدرتها على جذب الناس، و"أسرهم" في زنازين فكرية بفعل قوة الكلام والخطابة والمحتوى.
أستاذة علم النفس الإكلينكي الأميركية مارغريت سينغر تتحدث في كتابها "جماعة دينية وسطنا" (1996) عن ستة شروط للسيطرة على قطاعات من البشر عبر الجماعات الدينية، وهي الهيمنة على البيئة المحيطة بالشخص، وتأسيس نظام مكافآت وعقوبات، وخلق شعور بالعجز، وكذلك الخوف، والتبعية لدى المتلقي، وإقناع المتلقين بأن الجماعة تصلح سلوكهم ومواقفهم لتجعل منهم أشخاصاً أفضل. ويجب أن يتم ذلك في نظام مغلق لا ينفتح على العالم الخارجي.
تعتمد الجماعات الدينية على فصل تابعيها عن الآخرين، وهذا يفقدهم الشعور بهويتهم الأصلية فيكتسبون هوية جديدة تكون بالغة الجمود والانغلاق، وفي الوقت نفسه مسلمة تماماً للقائم على أمر الجماعة، وكلمتا السر هما الطاعة العمياء. ويصل الأمر إلى درجة أنه حتى لو تعرض المتلقي لمعلومات خاطئة في الجماعة، وهو يعرف أنها خاطئة، فهو يكذب نفسه، ولا يجادل في خطأ المعلومة. ويصبح التابعون متيمين بكل ما يسمعونه من قائد الجماعة أو مؤسسها، ويبدأ في نقلها إلى آخرين باعتبارها الحقيقة الواحدة في العالم.
دين جديد وكاريزما حديدية
العالم، لا سيما الغربي، مليء بدراسات ميدانية ونظرية عن الأساليب والأدوات التي تستخدمها الـ"كالت"، أو الجماعة التي يطغى عليها توجه ديني ما، ربما يكون ادعاء دين جديد، ويسيطر عليها شخص واحد يتمتع بكاريزما حديدية، ويشيع فكرها بين جماعة أو مجموعة من الأشخاص. وهي تختلف عن أتباع دين معين بوقوع كل أعضائها في القبضة الفكرية، وربما الجسدية، لقائد الجماعة. وهي تعطي أتباعها شعوراً مريحاً بأنهم يتشاركون في سمات واحدة تمنحهم إحساساً زائفاً بالقوة والأمان، كما تقنعهم بأنهم مميزون عن الآخرين وأفضل منهم بمراحل. كما أن هناك وفرة في الكتب والأدلة التي ترشد الناس عن أفضل وأكثر الطرق آمناً لترك الـ"كالت" أو لاستعادة العقول المغيبة أو المغسولة لمن أراد الخلاص، لا سيما أن بين هذه الجماعات ما يهدد الراغبين في هجرها نفسياً وفكرياً وربما جسدياً.
وتبقى الإشارة إلى أن "كالت" المشايخ والدعاة الذين يهيمنون على عقول ملايين في دول إسلامية وعربية، ومصر نموذج واضح، لا ينظر إليه محلياً باعتباره "كالت"، بل يفضل العقل الجمعي العربي والإسلامي أن ينظر إليه باعتباره جماعة من المؤمنين أو مجموعة من الملتزمين.
رموز غير قابلة للمساس
مجموعات الملتزمين في مصر وغيرها من الدول العربية، وهي المجموعات التي تتعامل مع مشايخ بأعينهم باعتبارهم رموزاً غير قابلة للمساس، أو أيقونات أقرب ما تكون إلى منزلة الرسل والملائكة، تقدر بملايين. ومجرد التفكير في احتمال وجود تشابه بين أدوات وسبل وربما "ألاعيب" قادة الـ"كالتس" والمشايخ أمر غير وارد. فالفروق كثيرة، وقائد الـ"كالت" ومريدوه والمتابعون هناك يختلفون كثيراً عن "الشيخ" ومريديه والمتابعين هنا، وإن ظلت ملكة الاستحواذ على العقول واحدة وسحر الكلام ذاته.
لكن الكاتب الصحافي والمتخصص في شؤون الإسلام السياسي وصاحب مؤلفات عديدة عن ظاهرة الدعاة في المجتمع المصري وائل لطفي يرى أن "سحر الكلام"، لا سيما حين يتصل بفكرة ذات طابع ديني أو إيماني أداة ذائعة الصيت لا في مصر والدول العربية فقط، بل في الولايات المتحدة ودول عديدة في الغرب، لا سيما ظاهرة الوعاظ الإنغيليين التلفزيونيين، التي يرى أنها الأساس في ظاهرة الدعاة الجدد والدعاة التلفزيونيين في مصر.
وأبرز من نقل عنهم وسيلة التلفزيون بغرض الانتشار كان الشيخ الشعراوي الذي استخدم التلفزيون ليصبح أول شيخ تلفزيوني عن حق. ويضاف إلى ذلك تخليه عن الزي الأزهري وارتدائه الجلباب القروي البسيط وحديثه بلكنة قروية جاذبة لجمهوره. ويضيف لطفي أن الشيخ كشك نفسه لجأ إلى أسلوب الوعاظ الإنغيليين كذلك، لكنه اعتمد على الكاسيت، لأن محتوى حديثه حيث الهجوم الشخصي والسخرية الحادة لدرجة الشتيمة أحياناً والدعاء على الآخرين ما كان يسمح به على شاشة تلفزيون الدولة في وقت لم تكن فيه قنوات خاصة أو إقليمية تسمح بنشر هذا المحتوى.
لذلك يرى لطفي أن أدوات المشايخ منقولة من الغرب، لكن لنشر المحتوى الخاص بالنسخة الجديدة من التدين، وهو المحتوى مع اختلاف العقيدة الذي استخدمته دول غربية عدة لتدرأ به خطر الشيوعية مثلاً، مثل الداعية الأميركي بيللي غراهام الذي يعتبر الأب الروحي لكثير من الرؤساء الأميركيين، الذي لعب دوراً كبيراً في إسقاط أوروبا الشرقية، وهو ما يعني، على حد قول لطفي، أن الاستثمار فيه كان أثمر ثماره فعلاً.
ثقافة بلاغية شفهية
أما خصوصية مصر والدول العربية، ووقوع ملايين أسرى لسحر الكلام الديني، فيرى لطفي أن أبرز العوامل هي الجذور. "المصريون والعرب أبناء الثقافة البلاغية المعتمدة على الكلام والشعر والقصص والحكايات الفصيحة حتى بين أولئك الذين لا يقرأون ولا يكتبون. الثقافة الشفهية إذاً بالغة التأثير في المصريين والعرب، وما يعضد ذلك كون القرآن نفسه معجزة بلاغية، والنبي محمد (ص) نفخر به لكونه "النبي الأمي" البليغ وليس لقدرات كتلك التي نسبت لأنبياء آخرين".
ويضيف لطفي أن الثقافة الشفهية تلعب دوراً رئيساً حتى اليوم بين الجماهير، فالمواطن البسيط غالباً لا يقرأ حتى لو كان متعلماً، ومعهم الأميون يكونون أرضاً خصبة لرجال الدين القادرين على الحديث بلغة بسيطة وحبذا لو بلهجة قروية وأسلوب حكي جذاب مليء بالقصص والحكايات والنكات. ويشير إلى أن الشعراوي كان هذا الشخص، لا سيما أن تفسيره للقرآن هو أصلاً منقول من كتب تفسير أخرى، ولم يأت بجديد خاص به، لكن ما أتى به كان البساطة والحكايات. لذلك حقق شعبية جارفة وسط جموع لا تكتب ولا تقرأ، أو لا تحب القراءة، وتفضل أن يقوم أحدهم باختصار ما ينبغي معرفته وتقديمه له في حكايات مسموعة بينما يتناول طعام الغذاء يوم الجمعة مثلاً.
تعليم تلقيني
ويضيف الباحث في شؤون الحركات الإسلامية ومؤلف كتاب "الحجاب بين الحقيقة والسراب" إسلام مصطفى لـ"اندبندنت عربية" مزيداً من العوامل التي جعلت من المشايخ وكلامهم الساحر رموزاً شبه مقدسة، يقول "ما مهد لهيمنة سحر كلام المشايخ على ملايين من المصريين والعرب هو عقيدة نظام التعليم في أغلب الدول العربية، وهو النظام القائم على التلقين والحفظ من دون فهم أو وعي".
العقلية التي اعتادت أو قبلت التلقين يسهل زراعة أية فكرة فيها، فهي لا تفكر في الكلام الذي يقال لها، ولا تنتقده. فما بالك لو كان الكلام على لسان رجل دين عن الدين. ونضيف إلى ذلك طبيعة التنشئة الدينية القائمة في أغلبها على الترهيب. لو فعلت كذا حرام. لو لم تفعلي كذا فسيتم تعليقك من شعرك. لو لم تفعل كذا فستلتهمك الديدان ويسيح جلدك ويشوى لحمك في النار.
ولدينا تراث فكري كبير جداً قائم على الترغيب والترهيب، وتمت طباعة مئات الكتب فيها قائمة على أحاديث أغلبها ضعيف وقصص وحكايات عن الصحابة أغلبها ضعيف وغير موثق. ويستند أغلب الدعاة الذين يحظون بشعبية هائلة وأتباع تقدر أعدادهم بملايين على كتب الترغيب والترهيب هذه، وهي قائمة على إلغاء عقل المتلقي تماماً، مع الاكتفاء من الجانب الديني الحقيقي بقشور حيث إقناع المريدين مثلاً بأن التسبيح المستمر والصلاة وغيرها تجعلهم غاية في التدين والإيمان.
ويشير مصطفى إلى طبيعة الشعوب التي تحدد مدى نجاح أو فشل أصحاب الأفكار، وفي هذه الحالة المشايخ. يقول: "طبيعة الشعب المصري كانت تفضل الهدوء والبساطة في سرد الأفكار. والشيخ الذي لديه هذه المهارة يكون عادة قادراً على جذب المستمعين بغض النظر عما يقول، ثم ينتقل المتكلم من مرحلة الجذب إلى الاستحواذ، ومنها إلى الشحن العاطفي والفكري".
لا تناقش أو تجادل
القاعدة الجماهيرية العريضة لهؤلاء المشايخ، من أصحاب القدرة على اعتماد البساطة واليسر، لا تناقش أو تجادل أو تفكر في ما يقال لها. هي فقط تستمتع بطريقة سرد الفكرة التي غالباً يطعمها الشيخ بحكايات نابعة من الشارع ويربطها بقصص الأولين، ولا تخلو من نكتة يتداولها البسطاء وتسعدهم، وربما يعرج إلى مسائل تتعلق بالجنس والمرأة وتلميحات جنسية هنا، لكن بغطاء ديني أو تنمر بتكوين المرأة الجسدي والنفسي، لكن بجلباب إيماني وهو ما ينقل المريدين من مرحلة الانجذاب إلى النشوة الشديدة، وجميعها يؤدي إلى إدمان حديث الشيخ.
ويشير مصطفى إلى أن هؤلاء المشايخ يجدون في القاعدة الجماهيرية هذه أرضاً خصبة لترسيخ الأفكار الخاصة به أو التي يجتهد فيها على اعتبار أنها التفسير الحقيقي للدين، فلا يناقشه أو يختلف معه أحد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
متابعة سريعة لإعادة مشاهدة أي من أحاديث الشيخ الشعراوي، وهو جالس على كرسيه والجموع الغفيرة ملتفة حوله جالسة على الأرض تشرح المقصود. الحضور الغفير متيم وهائم مع الشيخ وحلاوة كلام الشيخ. ينصت من دون كلمة بين اثنين هنا أو حديث جانبي هناك على غير عادة المصريين، تتصاعد ضحكات من القلب حين يقول الشيخ نكتة، وتتلون الضحكة بملامح الشقاوة والرغبة المموهة حين يسخر من المرأة أو دعوات تحررها أو ادعاءات كمالها "والعياذ بالله"، ثم يصيحون "الله" "الله" حيث ينتهي من قصة في صورة عبرة وحكمة. أما مراجعة ما يقول أو نقد ما يطرح، فهما رابع وخامس المستحيلات.
ويرى الكاتب وائل لطفي في الخداع والتلاعب بالعقول الخطر الحقيقي. فالشيخ المتحدث ليس إعلامياً أو شخصاً عادياً يتحدث لجموع البشر، لكنه يقول كلاماً يفترض أنه ديني ويعرف المستمع إن له قداسة وتربى على ألا ينتقده أو يتساءل حوله أو يشكك فيه، حيث الخلط بين الدين ورجل الدين، ويصبح كلاهما واحد، وانتقاد أي منهما مرفوض.
ويضيف "هناك بالطبع رجال دين صادقون ولا يتلاعبون بالتفسير، وهناك من لا يتمتعون بالدرجة نفسها من الصدق. وعلينا أن نعي أن بين هؤلاء المشايخ من جرى استقدامه للعب دور سياسي معني في فترات معينة، وكان مطلوباً منه توجيه الخطاب في وجهة بعينها أو جذب البساط من تحت أقدام مشايخ آخرين، فتلاعب بالحديث لأغراض سياسية. كما أن هؤلاء الدعاة زاد عليهم الطلب الاقتصادي بشكل كبير، لا سيما في وقت الانفتاح الاقتصادي وظهور طبقة جديدة من الأثرياء كتلك التي كانت موجودة قبل ثورة يوليو (تموز) عام 1952، لكنها كانت في حاجة إلى إيجاد جذر ثقافي لها، وهو الجذر الضرورة في مجتمع كمصر وهدفه الحصول على الصدقية وكذلك تغييب العاملين لديه ثقافياً، وضمان عدم حقدهم عليه وعلى ثرائه. كما عمدت هذه الطبقة الجديدة للحصول على الشرعية الدينية أمام المجتمع، وتوثيق علاقاتها بالسلطة، فجرى توظيف رجال الدين لديها في قسم العلاقات العامة".
علاقات عامة ودين
مشايخ علاقات عامة، مشايخ شرائط الكاسيت، مشايخ التلفزيون، مسميات كثيرة أطلقها متابعون وراصدون لظاهرة استيلاء أو هيمنة جلسات المشايخ من أصحاب سحر الكلام على القواعد الجماهيرية. المثل الشعبي يقول: "كل شيخ وله طريقته"، والراصدون للظاهرة يقولون: "كل شيخ ابن عصره وخطابه يعكس متطلبات العصر وتطورات المجتمع".
يطلق مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية نبيل عبدالفتاح مسمى "دعاة الاستعراض" على المشايخ من ذوي سحر الكلام والقواعد الجماهيرية العريضة. وفي ورقة عنوانها "دعاة الاستعراض الشعبوي: محاولة في التفسير السوسيو – ثقافي والسياسي للسوق الديني في عصر السادات" (2021) يقول عبدالفتاح إن هؤلاء الدعاة أصبحوا دعاة استعراض على رغم خروج أغلبهم من أصلاب المدرسة الأزهرية، إلا أن السياقات الاجتماعية - التاريخية، كانت تتغير، سواء على مستوى السلطة السياسية، أو الحراك الاجتماعي.
ويشير إلى مرحلة الانفتاح الاقتصادي بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 حيث التحول نحو الاستهلاك والاستيراد من الخارج وظهور طبقة جديدة من رجال الأعمال من أصحاب الثروات، وتأكيد الدولة الإيديولوجي على القيم الاستهلاكية، وبروز الاستعراض السلوكي الاستهلاكي بشكل واضح. ونتج من ذلك تغيرات في الثقافة اليومية متواكبة مع الهجرة إلى الخارج سعياً وراء الرزق والادخار من أجل التملك، وأصبح الاستهلاك قيمة عليا يحفز عليها النظام. هذه التغيرات الثقافية والاقتصادية استوجبت ظهور هذا النمط من الدعاة، الذين وظفوا تناقضات المرحلة لبناء مكانتهم الاجتماعية والدينية والثقافية.
الأداء الاستعراضي
ويطرح عبدالفتاح تفسيراً اجتماعياً سياسياً ثقافياً لظاهرة دعاة السبعينيات المستحوذين على الشارع، وهي الظاهرة المستمرة حتى الوقت الحالي فيقول إن طابع أدائهم الاستعراضي يكمن في طبيعة توظيف النظام السياسية المكثف للدين في العمليات السياسية، لا سيما في عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات. فقد أدرك السادات أهمية الدين كأداة محورية في الضبط الاجتماعي للجموع الشعبية، وفي تعبئتها لصالح خياراته السياسية، ولمواجهة خصومه السياسيين، وعلى رأسهم الماركسيون والناصريون وقطاعات من الليبراليين، ووصم خطابهم السياسي بمعاداة القيم الدينية. وعمد في الوقت نفسه على الاتجاه إلى اعتماد بعض النصوص الدينية في تسويغ خطابه السياسي.
ويضيف: "من هنا كان توظيف الإسلام لصالح الخطاب السياسي. ووظفت أجهزة الدولة الأيديولوجية الخطاب الديني السلطوي في التعبئة السياسية والاجتماعية، وفي وصم خصوم النظام، وتهميشهم وإقصائهم".
من الأفراح والموالد إلى المساجد
التغيرات العديدة التي طرأت على المصريين في ظل ثقافة السبعينيات، وانتهاج الدولة سياسة "الرئيس المؤمن" و"دولة العلم والإيمان" تطلبت مشايخ يشهبون العصر أيضاً. نبيل عبدالفتاح يتساءل عن أوجه شبه بين نجوم مرحلة السبعينيات في العناء والفن وبين شخص مثل كشك في محاولة فهم ظاهرة الشيخ كشك. يقول: "هذه المرحلة ظهر فيها المطرب الشعبي أحمد عدوية من خارج السلطة الإعلامية الرسمية وشروطها، والشيخ محمد الطبلاوي على هامش (دولة التلاوة)، وكلاهما شكل تعبيراً عن (الشعبي) المقموع تاريخياً وسلطوياً من قبل جهاز الدولة الأيديولوجي. انتشرت أصوات غنائية وتلاوية وخطابية محجوبة عن التحديدات السلطوية للطرب والغناء والتلاوة والخطابة الدينية، وتمددت في الأفراح الشعبية والموالد والمساجد. ووجدت الفئات الشعبية أنها تشكل تعبيراً عنها من حيث الذوق والرغبات وهي نتاج لتدهور ثقافة المدن، والتمايزات الاجتماعية التي بدأت في الاتساع في عصر السادات، حيث تحول الفساد داخل جهاز الدولة وخارجه إلى إحدى آليات الحراك الاجتماعي لأعلى بديلاً عن التعليم، لا سيما في ظل الهجرة إلى الاقتصادية الموقتة لدول عربية سعياً وراء الرزق. وجاءت هذه الآلية للصعود الاجتماعي مصحوبة بقيم اجتماعية ودينية محافظة ومتشددة، تربط بين الثراء والدين، وبين الثراء الجديد والهبات الإلهية التي لا تأتي نتيجة للعمل، وهو نمط من التدين القدري الريفي الذي ساد مع ترييف المدن".
تمدد عشوائي
تمدد المجتمع المصري منذ سبعينيات القرن الماضي تمدداً غير مدروس، وربما كان مدروساً حيث جرى تقسيم المنافع على أنقاض الوعي وقيمة العمل ومكانة التعليم والتحضر. يقول عبدالفتاح إن ما حدث هو توسعة الهوامش والفضاءات العشوائية المريفة حيث تدفقات يومية من الريف على نحو أدى إلى تمدد أنماط التدين الريفي القدري والتواكلي، والمهجن بالمرويات والأساطير الشعبية والخرافات، ولم يعد قاصراً على حواضنه الريفية، إنما تمدد إلى المدن وأجهزة الدولة.
التباس أو تناقض العلاقة بين موجات وهوجات المشايخ ذوي سحر الكلام من جهة والدولة من جهة أخرى أمر مثير. الباحث إسلام مصطفى يرى في الشيخ كشك نموذجاً ذا خصوصية وله دلالة شديدة. يقول: "الشيخ كشك كان يبدأ حديثه بسب الناس، لا سيما الفنانين، ويغتال سمعتهم، ويتدخل في شؤون حياتهم الخاصة على مسمع ومرأى من الدولة. وهذا يعني غياباً كاملاً، ربما مقصوداً للقانون. ولو كانت الدولة تصدت له، وطبقت عليه القانون العادل لما نما هذا النموذج وغيره وترعرعوا حتى اكتسبوا هذه الأرضية الكاسحة في الشارع المصري".
وظائف خطاب كشك
من جهته يقول نبيل عبدالفتاح إن الخطاب "الوعظي" للشيخ كشك قام بوظائف عدة أبرزها: نقد الأوضاع التي اعتبرها فاسدة، وهو ما أدى إلى استقطاب جمهور واسع من ذوي التدين الشعبي المتسم بقدر ليس قليل من الازدواجية. كما قام بدور التطهير الشعبوي من الآثام في الحياة اليومية. ويرى أن تكريز كشك على نقد الفنانين بقسوة وبساطة وسخرية قام بمهمة التبرير للفساد المتعدد الذي يمارسه جمهوره، إضافة إلى تحطيم أيقونات المجتمع المصري في الفن والصحافة، وهو ما ساعد في السيطرة الرمزية على الجمهور، وكذلك مهد لتمدد التيار الإسلامي في الشارع وتجهيز حضانات اجتماعية له غير أرضية شارعية كاسحة.
هذه الأرضية الكاسحة صارت متوارثة. شعبية مشايخ مثل كشك والشعراوي، لا سيما الأخير، تتوارثها الأجيال، لدرجة أن سائق ميكروباص مثلاً ولد بعد وفاة الشيخ الشعراوي في عام 1998 لكن يضع صور "إمام الدعاة" (لقب سبغه أتباع الشعراوي عليه) على سيارته ويستمع إلى أحاديثه طوال الطريق، لأن والديه وأجداده وجيرانه دأبوا على ذلك. ويتساءل مصطفى: "فما بالك لو مجتمع بأكمله توارث أفكاره وأحاديثه وأجواءه، فإن الطبيعي أن يقوم هذا المجتمع نفسه بصناعة هالة من القدسية حول هذا الشخص؟! وفي مجتمعات كمجتمعنا فإن ما تسير عليه الغالبية هو الصح، وكل ما عداه خطأ".
مسيرة المشايخ
مسيرة المشايخ الذين سيطروا على عقول ملايين بدأت بكشك والشعراوي ولم تنته عندهما. الشيخ الجالس على مقعد والمريدون يحيطون به على الأرض ينظرون إلى "أعلى" ليستقوا الحكاية والدين والقصة والعبرة والإيمان والنكتة والتلميح الجنسي المغلف بغطاء إيماني مستمر ومتوغل. مسيرة الدعاة والمشايخ وتحولهم إلى رموز في حياة ملايين المصريين عبر سحر الكلام أصبحت موجات وهوجات، الواحدة تؤدي إلى أخرى، وربما تنقلب عليها لتقضي عليها وتفتئت على نجاحها وانتشارها وقاعدتها الجماهيرية.
فتح الشيخان كشك والشعراوي الطريق. ورفع الراية بعدهما عشرات وربما مئات. الأمثلة كثيرة. فمثلاً الداعية السلفي محمد حسين يعقوب الذي كان يجري تسجيل خطبه حصرياً اكتسب شهرة ذائعة الصيت بين كثيرين بعد إصداره الأول "لماذا لا تصلي؟". فبين تنكيت وتهديد وتيسير وترهيب وصوت عال، ثم نبرة هادئة لينة يعقبها ترويع بما ينتظر غير المصلين أصبح يعقوب نجماً بين فئة بعينها من المصريين وجدت في الأسلوب المقلد لكشك غايتها المنشودة ووسيلة سهلة وبسيطة لغسل الذنوب والتطهر من المعاصي، إضافة إلى التوليفة المعروفة من تحقير المرأة ودونيتها، والسخرية من رموز القوى الناعمة التي تعمل ضد الدين والمتدينين والحصول على "كبسولة" التدين في درس أو فيديو أو كتيب صغير.
الشيخان و"داعش إمبابة"
ومن الشيخ محمد حسين يعقوب إلى محمد حسان تكتمل الرؤية لمن أراد. الشيخان اللذان حظيا وما زالا بجماهيرية كبيرة في الشارع المصري استدعيا في صيف عام 2021 ليدليا بشهادتيهما في قضية عرفت بـ"خلية داعش إمبابة"، وكان متهمان في القضية قالا إنهما يعتنقان فكر الشيخين والمنهج الذي يقدمانه في خطبها ودروسهما على مدار سنوات.
يشار إلى أن الاتهامات التي وجهت إلى أعضاء هذه الخلية تتراوح بين تكفير الحاكم والقول بشرعية الخروج عليه، وتغيير نظام الحكم بالقوة، والاعتداء على القضاة وأفراد القوات المسلحة والشرطة ومنشآتهم، واستهداف المنشآت العامة، واستباحة دماء المسيحيين واستحلال أموالهم وممتلكاتهم ودور عبادتهم.
ومن يعقوب وحسان وأثر دروسهما في الشارع، إلى حازم صلاح أبو إسماعيل المحامي والداعية والخطيب والمرشح الرئاسي المنسحب بعد ثبوت حصول والدته على الجنسية الأميركية على رغم تأكيده عكس ذلك. وهو صاحب سحر الكلام أيضاً، لكن بين فئات بعينها من الشبان والشابات الذين أطلقوا عليه مسميات عديدة مثل "أسد السنة" و"أسد الأمة" و"صادق النبوءة" و"الأسد الثائر" وغيرها كثير.
هذه القاعدة الجماهيرية التي كانت تتكالب لحضور دروسه في مسجد أسد بن الفرات في حي الدقي حتى كانت الشوارع المحيطة بالمسجد تغلق تماماً لفرط الزحام كان يتم تحريكها برسائل نصية قصيرة منه الطاقم المساعد له بين عامي 2011 و2013 حيث التوجه لمدينة الإنتاج الإعلامي لمنع الإعلاميين من الدخول، أو للهجوم على مقر وزارة الدفاع والجهاد في سوريا عبر المال والقتال والسلاح.
الظاهرة تعبر الحدود
ومع أن السعودية كانت بين أكثر الدول العربية تأثراً وتأثيراً في مصر، فإنها استطاعت في عهدها الجديد تجاوز سردية نسختها المحلية من نجوم "سحر الكلام"، بعد أن كانت تعج بأصوات صقور "الصحوة"، الذين تعددت أساليبهم في منطقة الخليج عامة ما بين أساليب "كشك" و"الشعراوي" وعمرو خالد، وإن كان ذلك بأسلوب خطاب محلي يناسب البيئة الخليجية، ويحاول مراعاة أمزجتها وعاداتها.
غير أن المفردات الأيديولوجية والمضامين، ظلت هي نفسها، تخلط بين الديني والسياسي، وتفرض الوصاية على المجتمع المهدد في نظرها بالتغريب والانحراف، وتدعو إلى مواجهة العلمانيين والليبراليين والصحافيين الداعين إلى الانفتاح على الفنون وتمكين المرأة.
وكانت الأزمات السياسية في مثل أفغانستان والبوسنة وما سمي "الربيع العربي" مناسبات لا تفوت لتثبيت أركان الدعاة الجدد، وإظهار قدراتهم في حشد الجماهير والتعبئة للجهاد وجمع التبرعات وانتقاد المتخاذلين من السلطات.
غير أن دعاة الأمس الذين حرموا الأطباق الفضائية والإنترنت أحياناً، ما لبثوا أن صاروا متسابقين إلى القنوات الفضائية وتوظيف المحرم قبل سنوات في الوصول إلى جماهير أوسع، حتى وإن استدعى ذلك تهذيب اللحى وحضور العناصر النسائية وانتقاء مفردات عصرية تلامس شغاف الجيل الجديد، مثل التغيير وتطوير الذات والحرية والعدالة الاجتماعية.
وفي زمن الكاسيت كما عهد القنوات إلى البودكاست، توزع النجوم حصة الظهور والتأثير، فكلما انتبهت السلطات في السعودية مثلاً إلى أن الشيخ الفلاني صار خطابه يدخل في سياق المحظور السياسي وتمنعه، ينبري للمهمة مريد له آخر، أو شيخ "كيوت" لا يثير الشبهة يصبح وارث الزعامة الجماهيرية، إن لم يكن على رؤوس الأشهاد فخلف الستار.
ومن بين الأسماء التي برعت على هذا الصعيد كان أحمد القطان، وسلمان العودة، وناصر العمر، عائض القرني، ومحمد العريفي، وإبراهيم الدويش، وآخرين لا يزال "بودكاست" ميدانهم الذي صار عوضاً عن منابر الجمعة، والقنوات التي صارت خاضعة للرقابة أكثر من ذي قبل.
بين الهزيمة والثورة
ويعتقد المحللون في السعودية أن الظاهرة بدأت خيوطها الأولى بعد هزيمة 1967 إلا أن انتعاشتها الكبرى أتت بعد الثورة الإيرانية 1979، إذ حاول بعدها المتشددون إقامة ثورة سنية مشابهة، تمثلت أصعب مراحلها في احتلال جماعة جهيمان الحرم المكي لأسبوعين في العام نفسه، قبل أن يصبح خطابها المتشنج هو السائد في الفضاء العام، في خطوة كانت تنتظرها جماعة الإخوان المسلمين ووكلاؤها المحليون في السعودية المؤثرون في أهم مفاصيل التعليم الجوهرية، حتى غدت مناطق البلاد في فترة وجيزة تعيش تحولاً دينياً، طاول حتى أكثر الأمور خصوصية، مثل حجاب المرأة وتعليمها ونقابها، ولحى الرجال وطول ثيابهم، تحت ضغط خطب ووعظ لا ينقطع ووعيد لا يهدأ.
ويدافع أولئك بأنهم كانوا جزءاً من حال عامة كانت تقودها الحكومة، في مثل حرب الجهاد الأفغاني، إلا أن القرني أخيراً اعتذر نيابة عن كل أولئك، معتبراً أن "الصحوة" اتسم خطابها بكثير من الشطط، وارتكبت أخطاء تستدعي الاعتذار، وتبصير الجيل الجديد بها.
لكن الكاتب السعودي عبدالرحمن الحبيب يرى أن هذا المعطى لا يكفي وحده لتفسير تلك الظاهرة، إذ جاءت في سياق المرحلة التي يسميها السعوديون "الطفرة"، أي الوفرة المالية بعد تحسن أسعار النفط وتبدل الحياة الاقتصادية، ومن ثم الاجتماعية للبلاد برمتها رأساً على عقب.
البحث عن الخلاص
لكنه تساءل لماذا ينجذب بعض الناس لمن يخوفهم على رغم أن الوضع المعيشي يتحسن؟ فأجاب "لأن الخوف عنصر غريزي من العناصر الأساسية للبقاء، وهو صحي للموازنة العقلانية بين المنفعة والضرر، لكن استغلاله لترهيب الناس في الظروف الغامضة قد يعمي عن الموازنة العقلانية. فالخوف من مجتمع جديد غير قابل للتوقع وخارج عن تفكيرنا المألوف، والأخطر أنه خارج عن السيطرة الاجتماعية المعتادة، مما جعل بعضهم ينجذب إلى الخطابات الأصولية وتنامى الطلب عليها".
ولفت إلى أن فرضية علمية تقول إن التطرف الديني ليس نتيجة كثرة دعاة الفكر الديني المتشدد، بل نتيجة طلب عاطفي حاد يبحث عن "الخلاص عبر فكر متشدد دينياً كان أو دنيوياً. إنه "ظاهرة يحركها الطلب، كما يقول صاحب هذه الفرضية البروفيسور روبرت بيب في كتابه Dying to Win مستنداً إلى دراسة شاملة حلل فيها جميع التفجيرات الانتحارية المعروفة بالعالم من عام 1980 حتى 2003، فالطلب هو المحرك الأول وليس العرض".
قواعد تحريك الجماهير
ربما المحرك في "سحر الكلام" يكون الطلب، لكن العرض الوفير والغزير والمتنوع أيضاً يؤثر في الطلب وينميه ويعمل على إبقائه في قبضته. قواعد تحريك الجماهير التي تقع أسرى سحر الكلام، وإبقائها في قبضة "الدين" أو رجاله، تتغير بحسب الظروف وطبيعة المتلقي المستهدف. لذلك فإن سحر الكلام الصادر عن جيل تال من الدعاة في مصر استهدف الشبان والشابات من طلاب الجامعات وفئات من أبناء وبنات الطبقة المتوسطة العليا والعليا. الداعية الحليق المرتدي البدلة ورابطة العنق الذي لا يجلس على دكة خشبية، ولا يسمح بجلوس مريديه على الأرض، ولا يلقي النكات التي يمتزج فيها الدين بالجنس بالسخرية من النساء والتنمر بالفنانين، ويتحدث عن المخدرات وفرص العمل وعلاقة البنت التي تحب الولد "في الله" عمرو خالد كان طليعة الدعاة الـ"ستارز" الجدد، وفي أقوال أخرى الدعاة "المودرن" من مرتدي الأزياء الحديثة والـ"براندز" المعروفة والزاجين بكلمات إنجليزية في حديث الدعوة الموجه إلى طبقات وثقافات وعقليات ظلت بعيدة من القاعدة الشعبية التي يسهل استلاب عقولها.
دعاة "ستارز" وأزياء "براندز"
المدافعون عن الدعاة الـ"ستارز" يقولون عنهم إنهم مجددون أو متحضرون أو متنورون أو منفتحون. والمعارضون لا يرون فيهم إلا امتداداً لدعاة سحر الكلام، ومهنتهم كسب الشارع. والغايات كثيرة، إما لتحقيق المكاسب من شهرة ومال وقوة وسطوة وانتشار، أو انتظاراً للحظة الفارقة حيث القفز على السلطة حتى وإن كانوا يعملون تحت سطوتها أو قيادتها بغرض ملء الخواء الثقافي، أو الإبقاء على "الأمة" في قبضة الدين أو بالأحرى رجاله، إن لم يكن بالجبة والقفطان والتهديد، فبالبدلة والـ"كاجوال"، وإن لم يكن بالتهديد والوعيد من عذاب القبر ويأجوج ومأجوج، فبالترغيب والتزيين والقصص الطريفة والمواقف اللطيفة، لكن جميعها يعمل على تعطيل خاصية التفكير، أو فلنقل تحديد سرعتها وتقييد قوتها.أعطني عقلية ممتنعة عن التفكير، ونظام تعليم قائماً على الحفظ والتلقين، واستعداداً شعبياً لقبول أية فكرة تصدر عن "رجل دين"، وسيكولوجية تخاف من التفكير النقدي وتعتنق مبدأ السمع والطاعة و"رجل دين" يتحدث باسم الدين مستخدماً سحر الكلام، أعطيك شارعاً وتوجهاً شعبياً ورأياً عاماً يدين بالولاء لأصحاب العمامات الأحياء منهم والأموات.