ملخص
#بنت وولد، طفلان #شقيقان مصابان #بالتوحد في سوريا عكس بعضهم بعضاً في كل شيء
لا بد للغات الأم القديمة أن تفرح، فقد ظهر في سوريا طفل لم يتجاوز السنوات الخمس يتقنها جميعاً، إذ وصفت حالة الطفل السوري ساري عزام بالنادرة، فهو طفل لديه طيف التوحد، إضافة إلى متلازمة الطفل الموهوب، وقد استطاع حتى اليوم تعلم عدد كبير من لغات العالم المعروفة وغير المعروفة، بينها لغة أهل مصر الهيروغليفية، ولغة أهل اليمن الحميرية، واللغة أهل سوريا السريانية والصينية واليابانية القديمتان، واليونانية.
إضافة إلى لغات كالبورمية والروسية والبنغالية والجورجية والأرمنية والهندية والأردية والإنجليزية والفرنسية والإسبانية، وأخرى غير معروفة كالإنكتيتوتية.
التوحد
تأتي كلمة التوحد (Autism) من كلمتين يونانيتين هما "aut"، وتعني الذات، و"ism"، وتعني الحالة، وتستخدم الكلمة لوصف الشخص المنطوي على نفسه بشكل غير عادي.
ويعاني الأطفال المصابون باضطراب طيف التوحد بشكل أو بآخر صعوبات في تطوير العلاقات مع الآخرين والمحافظة عليها.
وتشير كلمة "الطيف" إلى وجود تباين واسع في سلوك التوحد يكون على شكل طيف يمتد من حالات معتدلة إلى حالات حادة، وغالباً يصف الأطباء التوحد بأنه اضطراب نمائي واسع الانتشار، وهو ما يعني أنه يصيب كل نواحي حياة الطفل اليومية، مع صعوبة أساسية تتمثل في تكوين علاقات مع الآخرين، وثمة ثلاث عناصر لتشخيص الإصابة بالتوحد، وستظهر على الطفل إحدى هذه الصفات. أولها صعوبات في استعمال اللغة للتواصل مع الآباء أو الأطفال الآخرين، فعلى سبيل المثال يكون ثمة تأخر ملحوظ في تكوين الكلام، أو قد يكون الكلام مقصوراً على تكرار الكلمات في إشارة ضعيفة إلى إدراكه.
والثانية هي صعوبات في تكوين علاقات مع الآخرين، فمثلاً يبدو على الطفل نقص الوعي بالآخرين وعدم رغبته في التواصل بالتقاء الأعين أو الاستمرار فيه.
أما الثالثة، فهي صعوبات في التظاهر باللعب والخيال، إذ يرغب الطفل بشكل كبير في الوحدة ولعب الأنشطة التي عادة ما تتكرر بشكل غير عادي.
تباين أطفال التوحد
لدى ساري أخت أكبر منه مصابة كذلك بالتوحد، لكن الفرق بينهما شاسع ومتطرف، فبينما يتطور ساري كل يوم عن الآخر تتراجع أخته "لينا" التي وصف حالتها بالشديدة، فهي لا تنطق ولو بكلمة واحدة، وإدراكها قليل، بتوصيف تأخر عقلي، إذ شخصت حالتها ما دون السيئ، ولديها اكتئاب شديد ولا تستطيع أن تعبر عن مشاعرها بأي طريقة، وتقول والدتهما عبير عيسى لـ"اندبندنت عربية"، "طفلاي بعكس بعضهما بعضاً في كل شيء، فساري شديد الهدوء ويمضي غالب وقته مع نفسه أو أمام شاشة الكمبيوتر ليطور من ذاته، أما أخته فتأخذ معظم وقتي أنا ووالدها، إذ لديها حالات عنف، ونحاول أن نحميها من أذية نفسها، خصوصاً وقت النوبات التي تدفعها لضرب رأسها في الحائط، أو تصرخ أو تؤذي أحداً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتتابع "الشيء الوحيد الذي يحب ساري أن نقوم به تجاهه هو أن يشعر بالحنان والحب، كما يحب كثيراً أن نثني عليه ونشجعه عندما يقوم بشيء ما، إذ لديه إصرار قوي عندما يريد تعلم شيء ما فيجلس ولا ينهض إلا ليتممه، ولذلك ينتظر الثناء عليه".
أما عن معاملتهما مع بعضهما بعضاً فتقول عبير، "يحب ساري التقرب جداً من أخته الكبرى، لكنها لا تسمح له بالاقتراب منها بسبب حالتها، كما أنه يبادرها بكثير من الحنان ويحاول ألا يجعلها تبكي، وينبهنا عندما يشعر أنها ستقوم بأذى ما، كما أنه يتفاداها بحالاتها العنيفة ويصيبه الهلع، ما يدفعه إلى الالتجاء إليَّ".
صفات طفل التوحد
من أبرز السلوكيات والعوارض التي يلاحظها الأهل والمتخصصون هو التأخر اللغوي والتأخر بالتواصل البصري أو عدم وجوده، أو وجوده بشكل متقطع، كما يكون لدى الطفل اهتمامات محددة بألعاب غربية وبطريقة لعب غريبة، ووجود حركات نمطية أو متكررة لا يوجد لها هدف ووظيفة تواصلية، وهذه العوارض تشاهد كثيراً بالطفولة المبكرة، ومنها حالة طفل تحدثت عنها المتطوعة لينا اللاطي في إحدى المؤسسات التي تعنى بذوي الإعاقة.
تخبرنا لينا بأنها "تعاملت مع طفل لديه فرط حركة، وهو غير متعلم، لكنني أعتبره غريباً جداً، إذ لديه هواية جمع "الروشيتة" أو الوصفات التي يكتبها الطبيب للمريض، أو تلك التي توجد داخل علبة الدواء، إذ يخبئهم في كيس وفي مكان غير معروف لأن والديه قد يتخلصون منهم، ووصل به الحال ليخبئه في بين الجيران". وتتابع "كما لدى رامي عادة أنه لا يحب أن يبدل ثيابه، إذ تضطر والدته أن تحرقه له من فصل لآخر لتسطيع أن تلبسه غيرهم".
ولكن هذا الطفل فاجأ المسؤولة عنه والمتابعة لحالته، فذكرت لينا أنه غير متعلم، فلم يدخل مدرسة إطلاقاً، لكنه يعرف الكتابة والقراءة باللغة العربية والإنجليزية، وعندما سئلت والدته إذ كان قد تعلم سابقاً من أحد، كانت إجابتها أنه يجلس إلى جانب أخته ويلتقط منها بعض التفاصيل.
تغيير السلوك
على رغم أنه لا توجد إحصائية خاصة بأطفال التوحد في سوريا، فالمؤسسات تعتمد على الإحصائية العالمية التي تقول، أن طفلاً واحداً من بين كل 160 طفلاً يصاب بأحد اضطرابات طيف التوحد في العالم، ولكن هناك بعض المتخصصين يرون أن عدد أطفال التوحد في ازدياد في سوريا، ويعزون سبب ذلك إلى الحالات النفسية التي عاشتها الأم الحامل خلال الحرب من خوف وهلع وتوتر وانعدام الأمن بشكل عام والغذائي بشكل خاص، فالتوحد ليس حالة مكتسبة، بل جيني.
كما يقول بعض الاختصاصيين إن طفل التوحد مبني على العند ويدافع جداً عن سلوكياته والتفاصيل الخاصة به، وتدخله داخل قوقعته الخاصة، وهذا يمنحه سعادة غامرة، فكل ما تسامح المتعامل مع طفل التوحد وسمح له بممارسة هذه السلوكيات كلما تأصلت هذه السلوكيات لديه، إذ تزداد ويتعلق بها جداً ويصبح من الصعوبة ثنيه عنها أو تخليصه منها، لذلك تتعلق البيئة في زيادة أو نقصان شدة التوحد، وهذا ما تحدثت عنه لينا في مثال بسيط عن الطفل رامي الذي تتعامل معه فقالت "كان يطلب من أخته دائماً أن تكتب له ما هو مكتوب في الوصفة الطبية، لذلك قمت بشراء لوح خاص به، وطلبت منه أن يكتب عليه، وعندما كان يطلب مني الكتابة لا أستجيب له ليقوم بذلك بنفسه، وكان بعد محاولات عدة يستجيب، ولكن أخته كانت تضعف أمامه، فتكتب له، وعندما نبهتها أخذت بكلامي، فما كان من رامي إلا أن بدأ الصراخ ليحصل على ما يريد، ولكن عندما لم يرَ استجابة يرضخ للأمر".
المشكلات ونظرة المجتمع
يعد طفل التوحد إنساناً طبيعياً، فلا علامات شكلية تدل على إصابته بشيء كالأطفال المصابين ببعض المتلازمات، لذلك قد لا ينتبه إليهم أحدهم، أو قد ينفر آخرون منهم، لأن نقطة اختلافهم هي في اضطراب السلوك الذي لا يفهم في غالب الأوقات من الناس العاديين إن لم يكن لديهم علم باضطراب التوحد وتأثيره في السلوك، لذلك قد يضع المجتمع سلوك طفل التوحد في خانة قلة الأدب أو قلة التربية، وهناك البعض، حتى لو علم أنه طفل توحد فإنه يعتبر أنه من غير الطبيعي ألا يستجيب الطفل لأهله أو أن يتصرف مع أقرانه تصرفات غريبة.
ومن المشكلات التي يعانيها عائلات المصابين بالتوحد في سوريا، الوضع الاقتصادي وقلة عدد المتخصصين في هذا النطاق، إذ يعد ارتفاع كلفة وضع طفل في مكان ما لتأهيله من الصعوبات التي تواجه عدداً كبيراً من العائلات، فإن كانت المؤسسة خيرية فإن كلفة نقلهم تثقل كاهل بعض العائلات، كما أن هناك بعض الأطفال يحتاجون إلى عناية مكثفة، فعبير عيسى والدة ساري ولينا، تصرح بعدم قدرتها على علاج ابنتها، إذ تقول إنها تحتاج إلى فريق طبي كامل خاص بها، إذ يعد وضعها سيئاً جداً، فهي في حاجة إلى فحوصات وتحاليل وصور أشعة، وغيره، وكثير من المتخصصين المعنيين بالتواصل لتهذيب سلوكها العنفي.
كما أن هجرة عدد كبير من السوريين جعل البلاد تخسر شبابها ومتخصصيها الذين من المفترض أن يكونوا حجر الأساس للدعم والمساعدة في شتى المجالات، إضافة إلى حاجة الأهل للتدريب مثل الطفل في المراكز لمساعدته في المنزل على إكمال العلاج.
طيف توحد ومتلازمة الموهوب
إن شدة الإصابة بالتوحد تتفاوت من الخفيف إلى الشديد، وهناك حالات استطاعت بالعلاج والمتابعة، الشفاء، وهناك حالات مرهقة ومتعبة، لكنها تستحق المحاولة لحقها أن تعيش بشكل طبيعي كأي إنسان آخر، لكن الأمر اللافت هي الحالات المرتبطة بالذكاء الشديد والقدرات التي يعتبرها البشر خارقة، والتي تجعل الإنسان يتساءل، لماذا هي موجودة عند طفل التوحد؟ هل الموضوع جيني متعلق بالجسد أم بقدرات تمنح لهؤلاء الأشخاص؟ إذ تعد قصة الطفل ساري ضرباً من الخيال للمهارات والقدرات التي يتمتع. وتقول والدته عبير "عندما كان عمره سنتين سمع الشيخ يرتل القرآن في التلفاز، فما كان منه إلا أن انزوى وحده لمدة تقارب ثلاث ساعات وبيده القرآن الكريم، وعاد إلينا وهو يقرؤه مع التجويد"، وعندما ذهبت إلى طبيبة ابنتي لأفحصها لم أكن أعلم أن لدى ساري طيف التوحد، فقد لفت انتباه الطبيبة عندما تناول القرآن الكريم وبدأ القراءة به، فتعجبت وتركت الفتاة وبدأت بفحصه واختباره، لنعرف أن لديه طيف توحد "أسبرغر" عالي الأداء.
كما أقيم بحث علمي على حالته منها تخطيط دماغ ليظهر أنه سليم، ولديه متلازمة الطفل الموهوب، وهذا ما جعل حالته نادرة في العالم، ووضعوه تحت اختبار ستانفورد الخاص بالذكاء، فكانت النتيجة أن لديه ذكاء العباقرة، كما أن لديه ذكاءً يعادل 25 طفلاً من عمره.
يقوم ساري بتعلم لغة جديدة كل يومين، ولديه عشق للرياضيات والفيزياء ودمجهما مع بعضهما، بخاصة نظرية الأوتار، إذ استطاع في عمر السنوات الخمس حل مسائل متقدمة ودقيقة مثل معادلة زيتا، وكانت مدة الفيديو دقيقتين باللغة الإنجليزية. وتقول والدته بعدها التقط قلمه، وبدأ يجترح الحلول المختلفة لمدة أربعة أيام، واليوم يكتب بلغات البرمجة بشكل فطري دون أي تعلم، والكثير من المهارات والقدرات التي لا تعد ولا تحصى لطفل عمره خمس سنوات، ولكنه لم يحظَ حتى اللحظة بالدعم والاهتمام اللازمين ليكون في مكان أكاديمي يهتم ويطور ما لديه.