ملخص
في #المنطقة_العربية يشغل #الدين مساحة كبيرة من الحياة اليومية العامة والخاصة وكثيراً ما يختلط مفهوم تدين المواطنين بتدين الدولة ليتماهى المفهومان في منظومة واحدة ليصبح المجتمع متديناً والدولة متدينة
السؤال عن الدين أو خانته وعن التدين ومكانته وكذلك مقداره في عدد من الدول العربية لا يعد عيباً ولا يثير الحساسية، في الأقل بين الغالبية، وحال اللبس والخلط الشديدة بين الدين والتدين شبه عامة، واعتبار ممارسة مظاهر محددة من الإشعارات التي تفيد بأن شخصاً ما "متديناً" عادة تعني أن الدين بخير وأن الإيمان لا خوف عليه، وكلما زادت معدلات وكثافة ممارسة هذه الإشعارات اعتبر المجتمع نفسه متديناً وهانئاً على بر الأمان.
وفي المنطقة العربية يشغل الدين مساحة كبيرة من الحياة اليومية العامة والخاصة، وكثيراً ما يختلط مفهوم تدين المواطنين بتدين الدولة ليتماهى المفهومان في منظومة واحدة ليصبح المجتمع متديناً والدولة متدينة وليتم تصنيف كليهما في مكانة مرتفعة في قائمة الدين والتدين.
الدين ليس التدين
وعلى رغم أن الدين ليس التدين وإن بدا كذلك، وعلى رغم أن مفهوم التدين والمقصود به يختلف كثيراً بين التعريفين الشعبي والفلسفي، إلا أن الغالبية تتعامل مع الدين وكأنه التدين بالضرورة، ومع التدين على أنه منظومة معروفة ويتفق عليها الجميع، وهذا أبعد ما يكون عن الواقع، فالواقع يشير إلى احتلال المنطقة العربية مكانة بازغة على خريطة التدين التي أوردها مركز "بيو" لاستطلاعات الرأي في بحث معمق أجراه عام 2018 حول مستويات التدين في العالم، تشير إلى انفراد شعوب أفريقيا والشرق الأوسط وجنوب آسيا وأميركا اللاتينية بمكانات الصدارة من حيث التدين، مع ارتفاع النسب المئوية التي أحرزتها الدول العربية في معدلات من قالوا إن الدين يمثل جانباً بالغ الأهمية في حياتهم.
وعلى رغم أن مكون الدين وطقوس التدين تظل جزءاً لا يتجزأ من طبيعة الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية في كل الدول العربية من دون استثناء، إلا أن حجم هذه المكون ومقياسه بين صعود وهبوط تعرض لشد وجذب خلال الأعوام القليلة الماضية التي شهدت تغيرات كبرى في المنطقة لا تزال مستمرة، ومع تلك التغيرات تأتي كذلك التأرجحات الشديدة في تمسك الناس بالدين أو بعدهم ولو موقتاً عنه.
هبوط وصعود التدين العربي
"الباروميتر العربي"، وهو شبكة بحثية مقرها الولايات المتحدة الأميركية، دأب على رصد معدلات الالتزام الديني في المنطقة العربية على مدى العقد الماضي، وهو الرصد الذي أسفر عن موجات هبوط وصعود عدة لا يمكن فصلها عن التغيرات الحادثة في المنطقة، وأحدث رصد قام به "الباروميتر العربي" أشار إلى أن سكان المنطقة العربية أصبحوا أقل إقبالاً على اعتبار أنفسهم "غير متدينين" ولا سيما الشباب، وبمعنى آخر يبدو أن الشباب العربي يقود موجة جديدة من موجات التدين "المسبب" في المنطقة.
وتعريف التدين والدين، وهما ليسا شيئاً واحداً أو متطابقاً بالضرورة، لا يشغل كثيرين ربما على اعتبار أنهما ليسا في حاجة إلى تعريف، لكن العكس هو الصحيح، فعالم الاجتماع إميل دورخايم عرف الدين بأنه "نظام موحد من المعتقدات والممارسات ذات علاقة بمكونات مقدسة تتوحد في مجتمع أخلاقي واحد والكل يلتزم بها"، أما عالم الأنثروبولوجيا الثقافية كليفورد غيرتز فيقول إن الدين هو "نظام مكون من رموز يعمل على تشكيل أمزجة ودوافع قوية ومقنعة ودائمة، وذلك من خلال صياغة مفاهيم لنظام عام من الوجود وتغليفها بهالة من الحقائق بحيث تبدو واقعية بشكل فريد".
أبعاد الدين الخمسة
وهناك آلاف التعريفات للدين وأغلبها لا يخرج عن خمسة أبعاد لا سادس لها، وهي رموز وممارسات تساعد البشر في الوصول إلى الجوانب الروحانية فيهم وتشمل عادة صلوات تمكن الشخص من التأمل والحصول على قدر من الراحة النفسية، ومجموعة من الأفكار أغلبها يدور حول السلام وقواعد الأخلاق والسلوك، والمجتمع إذ يخلق أي دين شعوراً بهوية جماعية مشتركة وهو ما يعزز الشعور بالانتماء والمسؤولية المشتركة، والمؤسسات إذ لا تخلو غالبية الأديان منها وتمنح الزعامة لأشخاص والتبعية لآخرين وترسخ مبدأ التسلسل الهرمي عبر مصادر مالية ولوجستية وغيرها، والروحانيات التي تستمد من السماء وتدق على أوتار الإنسانية والتأمل الذاتي وتساعد في التحول الشخصي للأفضل، وأفضل ما في هذا العالم هو التنوع، لذلك حين يؤكد علماء اجتماع بحسب سلسلة بحوث أجرتها مؤسسة "بيو" عن الدين والتدين أن الأعمار المختلفة تعني درجات متراوحة من الالتزام الديني، وأن الأصغر سناً يكونون أقل تديناً لأسباب تتعلق بعدم شيوع الخوف من الموت وعدم هيمنة الاهتمام بالأحداث المأسوية بينهم، فإن هذا لا يعني بالضرورة أن الشائع ينطبق على كل دول ومناطق العالم، وهذا ما أشارت إليه نتائج الاستطلاع المعلنة نتائجه من قبل "الباروميتر العربي" قبل أيام والذي يشير إلى تصاعد شعور شباب المنطقة بأنهم متدينون، وذلك في توجه مختلف عما كان سائداً خلال عامي 2018 و2019.
الغالبية متدينة
غالبية المواطنين في الدول العربية التي شملها الاستطلاع وصفوا أنفسهم بأنهم متدينون أو متدينون إلى حد ما، وإن ظلت نسبة أقل تصف نفسها بأنها غير متدينة، وفي الاستطلاع الأحدث قال واحد فقط بين كل 10 أشخاص إنه "غير متدين"، وذروة صعود نجم الابتعاد من التدين في الدول العربية كان خلال عامي 2018 و2019، ووقتها قال 31 في المئة من التونسيين و25 في المئة من الليبيين إنهم غير متدينين، وكان الشباب في الشريحة العمرية بين 18 و29 سنة هم الأكثر إقبالاً على القول بأنهم غير متدينين، وبلغت النسبة الشبابية المصنفة نفسها بأنها غير متدينة ذروتها في تونس أيضاً (46 في المئة) وليبيا (36 في المئة) ثم الجزائر (24 في المئة) فالمغرب (22 في المئة) وأخيراً مصر بـ (18 في المئة).
ويشار إلى أن توجهات تصنيف الشباب العربي لأنفسهم بأنهم غير متدينين ظاهرة بزغت عام 2012، وهو ما يتصل بأسباب سياسية واجتماعية، ودعت الظاهرة بعضهم إلى التساؤل عما إذا كانت المنطقة العربية برمتها في طريقها لتكون أقل تديناً في المستقبل القريب.
التدين لم يفارق المنطقة
لكن هذا لم يحدث والتدين لم يفارق المنطقة بل يتجه إلى الزيادة، وليس هذا فقط بل إن موجة صعود التدين يقودها شباب حالياً وهو ما يثير تساؤلات عن الأسباب والعوامل، وبحسب خبراء "الباروميتر العربي" فإن زيادة الالتزام الديني لدى أفراد ربما يعود للأوضاع الاقتصادية الصعبة، وكذلك كرد فعل لمواجهة تحديات كثيرة خلفها "كوفيد-19" وغيرها من المشكلات التي تدفع الناس إلى التشبث بالدين باعتباره وسيلة أو ملجأ للهرب من المصاعب والبحث عن الراحة ولو كانت نفسية فقط.
مشهد جموع الشباب المتوجه إلى صلاة الجمعة في المساجد لا تخطئه عين، ومعدلات الشابات والشباب المرتفعة في صلاة التراويح خلال رمضان واضحة، وإدماج مواعيد الصلاة في الكنيسة وإيجاد الوقت والجهد للقيام بأنشطة تتعلق بها من قبل الفئات العمرية الشابة المسيحية أيضاً واقع لا جدال فيه، وبينما تعتبر القاعدة الشعبية التدين من حيث غلبة مظاهره وطقوسه أمراً جيداً وعلامة رائعة، يميل آخرون إلى درس الزيادة أو رصد النقصان والبحث في الأسباب والتنقيب عن العوامل بعيداً من جلال الدين وروعة التدين، سواء كان التمسك به سمة إنسانية أو هرباً من واقع مرير.
ملجأ الدين والتدين
الهرب من الأوضاع الاقتصادية الصعبة والإحباط المتفاقم يفرض نفسه عاملاً مهماً من عوامل البحث عن ملجأ عبر الدين والتدين، وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن التقرير الأحدث عن انعدام الأمن الغذائي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يكشف عن شيوع عبارة "نفد الغذاء لدينا ولم يعد لدينا من المال ما يكفي لشراء مزيد" في ست دول شملها تقرير أعده "الباروميتر العربي" في 10 دول عربية في يناير (كانون الثاني) الماضي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تواتر المشكلات وتعاظم المعضلات غالباً يؤدي إلى مزيد من اللجوء للتدين، لا سيما في ظل أجواء ثقافية وتاريخية بعينها، وبمعنى آخر فالمواقف من الدين والتدين بشكل عام تختلف بحسب السبل التي تطورت بها المجتمعات تاريخياً وثقافياً وعلاقة الدين بهذه المجتمعات وطريقة تسويقه أو التعامل معه، وبعض علماء الاجتماع يؤمن بوجود علاقة عكسية بين درجة الالتزام الديني من جهة وبين مستويات التعليم والناتج المحلي الإجمالي والمساواة في الدخول، أي أنه كلما زادت معدلات التعليم وارتفعت جودته قلت معدلات الالتزام الديني، وكلما زاد معدل الناتج المحلي قل الالتزام الديني، وكلما زادت معدلات المساواة في الدخول قل الالتزام الديني والعكس صحيح، وعلى رغم ذلك فإن التعميم يظل وراداً، كما أن العلاقات بين الدين والتدين من جهة وعوامل مثل التعليم والأداء الاقتصادي وجودة الحياة من حيث الحقوق والحريات والمساواة وغيرها تظل علاقات ملتبسة ومعقدة ولا يمكن اختزالها في تعميمات.
التعايش مع التحديات
ويقر "الباروميتر العربي" في تقريره الصادر أخيراً بأن الالتزام الديني الشخصي ليس ظاهرة واحدة في مختلف المناطق والأزمنة، فمثلاً في أوقات الأزمات الشديدة أو الكوارث الطبيعية أو الهجمات الإرهابية يظهر توجه نحو زيادة التدين، وربما يعود ذلك لأن الدين يقدم تعاليم وآليات تساعد الأفراد في التعامل أو التعايش مع التحديات القاسية، فمثلاً بلغت معدلات البحث عبر "غوغل" أثناء جائحة "كوفيد-19" عن الصلاة والدعاء أعلى معدلاتها على الإطلاق، بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية، إذ زادت نسب التدين بسبب الوباء.
ومن وباء "كوفيد-19" إلى وباء الأزمات الاقتصادية الطاحنة التي تضرب العالم والدول العربية ليست استثناء، لا سيما تلك الدول التي تعاني في الأصل أوضاعاً اقتصادية صعبة أو هشة، أو خرجت لتوها من سنوات عدم استقرار وصراعات سياسية طاحنة مع هبوب رياح "الربيع العربي".
انحسار التدين سابقاً
في نهاية عام 2019 أفاد "الباروميتر العربي" بأن المنطقة العربية تشهد انحساراً في التدين ومعدلات الثقة بالأحزاب الدينية، ووقتها قال مدير "الباروميتر العربي" مايكل روبنز أن شعوب دول عدة في المنطقة العربية فقدت الثقة في الأحزاب السياسية الإسلامية، فمثلاً في مصر أصدرت حكومة جماعة الإخوان لدى وصولها للسلطة عام 2012 تشريعات من دون مشاركة تذكر للقوى السياسية الأخرى، إضافة إلى تركيز الجماعة الحاكمة على مصالح القاعدة الملتزمة دينياً لحزبها وليس لعموم المصريين وهو ما رفضه الرأي العام في مصر.
ورأى روبنز أن كثيرين في المنطقة باتوا يتخوفون من أن الحركات الإسلامية المماثلة لــ "الإخوان" لن تراعي مصالحهم الأساس حال وصولها إلى الحكم، وبات من الواضح أن المصالح الأساس ليست تنفيذاً الشريعة بقدر ما هي تحقيق الرفاه الاقتصادي والإدارة الحكومية الرشيدة.
كما رأى روبنز في صعود تنظيم "داعش" عاملاً سلبياً آخر ألقى بظلال عكسية على معدلات التدين، وقال "على رغم أن ’داعش‘ يمثل التفسير المتطرف للإسلام، وليس بينه وبين الأيديولوجيات الخاصة بالأحزاب الإسلامية القائمة في المنطقة كثير من المشتركات، إلا أن الرفض شبه الكامل لـ ’داعش‘ من قبل المواطنين العرب أدى على الأرجح إلى انعدام ثقة كثيرين في الأحزاب التي ترفع لواء الإسلام بشكل أعم".
كما تطرق روبنز إلى إجراءات اتخذتها حكومات في المنطقة مثل مصر عندما حظرت "جماعة الإخوان"، وتهميش بعض دول الخليج للحركات الإسلامية فيها مما زاد معدلات فقدان الثقة في الأحزاب الإسلامية، وانعكس ابتعاداً نسبياً من التدين وثيق الصلة بهذه الجماعات والأجواء المرتبطة بها.
المصاعب رفعت معدلات التدين
لكن العامين الماضيين شهدا عدداً من التغيرات والتطورات كذلك، فالمصاعب الاقتصادية المتصاعدة بشكل خانق في عدد من الدول العربية وتوسع هامش فقدان الثقة في قدرة الحكومات على إصلاح الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، لا سيما للشباب الذي يبدأ حياته العملية بحثاً عن فرصة عمل جيدة ومستوى معيشة مقبول ومجال مفتوح لتحقيق الطموح، إضافة إلى تواتر عدد من الكوارث واستمرار الحروب والصراعات في دول مثل سوريا واليمن، ساعدت جميعها في البحث عن ملجأ في الدين وزيادة التدين، والبحث الذي أجراه "الباروميتر العربي" وشمل مصر وتونس وليبيا ولبنان والأردن والجزائر والمغرب وفلسطين والسودان وتونس، لم يقتصر على قياس توجهات الهوية الذاتية الدينية ولكن أيضاً الممارسة الدينية، ووجد أنه طرأت زيادة في نسبة المواطنين العرب الذين قالوا إنهم يتفاعلون مع النصوص الدينية بشكل يومي، مثل قراءة نصوص من القرآن أو الإنجيل مرة واحدة يومياً في الأقل.
لبنان استثناء
وزادت معدلات التفاعل مع النصوص الدينية بشكل أكبر بين فئة الشباب مقارنة بما كانت عليه خلال عامي 2018 و2019، كما فاقت معدلات الزيادة بين الأكبر سناً، وهذا لا يعني فقط تراجع نسبة الشباب العربي الذي يعتبر نفسه "غير متدين"، بل زيادة في معدلات الإقبال على ممارسة طقوس التدين بين هذه الفئة.
ويشار إلى أن لبنان وحده كان الاستثناء، إذ زادت نسبة الشباب اللبناني الذي وصف نفسه بأنه "غير متدين" ولم تنخفض كما حدث في بقية الدول العربية، ويرجح الاستطلاع أن يكون ذلك نتيجة للانهيار التام الذي شهده لبنان في نظامه المالي، مشيراً كذلك إلى أن إخفاق النظام الطائفي الذي ظل المدخل لتوازن السلطة بين أتباع الطوائف الدينية المختلفة ربما أدى إلى توجيه المواطنين اللوم للمنظومة الدينية على ما يجري، وعكس ما شهدته بقية دول المنطقة من زيادة التدين، إذ يبدو أن اللبنانيين نأوا بأنفسهم عن اختيار التدين باعتباره سمة شخصية وذلك رداً على دور القيادات الدينية من مختلف الطوائف في الأزمة السياسية الراهنة.
موجات زيادة التدين ثم انحساره أو استمراره وثيقة الصلة بعوامل عدة تتراوح بين التاريخ والاقتصاد والثقافة والسياسة، كما أن التدين كمنظومة متداولة لفظياً تتعلق في الغالب بمظاهر التدين من ممارسة الصلاة والالتزام بالصوم والقيام بالحج والتفوه بعبارات دينية في المناسبات الاجتماعية والتعاملات العادية تفرض نفسها على الساحة، لكن المسكوت عنه في عدد من المجتمعات هو التدين كطوق نجاة في الأزمات أو قشة يتعلق بها الغريق أو أجواء جماعية يلتحق بها حتى يكون جزءاً من الجماعة، أو مكوناً تعتبره بعض المجتمعات رئيساً لا جدال فيه شأنه شأن الأكل والشرب والسكن، إذ لا مجال للتفكير أو الاختيار فيه، أما التدين الذي لا يقف قياسه عند حدود مشاركة الشخص في الممارسات والطقوس الدينية ويمتد إلى درجة تأثير الدين في السلوك ودرجة شعور الشخص بالأمل ومشاركة الآخرين حتى أولئك الذين لا يتطابقون معه في المعتقد والملة في قواعد الإنسانية وأساساتها فذاك شأن آخر.