ملخص
ضمت جريدة "دي تسايت" الألمانية رواية #الكورية غونغ يوغونغ "سبع سنوات من الظلام"، إلى قائمة #أفضل_عشر_روايات جريمة لعام 2015، بينما بيع من روايتها "جريمة الإبن الصالح" أكثر من مليون نسخة
في أواخر تسعينيات القرن الماضي، استخدم صحافيون صينيون مصطلح "الهاليو" للمرة الأولى، في إشارة إلى ارتفاع شعبية الثقافة الكورية في الكثير من البلدان الآسيوية مثل الصين واليابان، بعد نجاحٍ كبير حققته الدراما الكورية في هذه البلدان. وفي العقد الأول من الألفية الثالثة، اتسع انتشار الثقافة الكورية لتتجاوز حدود آسيا، وتمتد إلى أنحاء عديدة من العالم، مستفيدة من "يوتيوب"، ومواقع التواصل الاجتماعي، وبعض منصات المشاهدة العالمية مثل "نتفليكس". ولم تعد قاصرة على الدراما والمسلسلات، وإنما بات الأدب، والموسيقى، أدوات أخرى عززت القوة الناعمة لهذه الثقافة، فبات فريق "بي تي إس" على سبيل المثال، واحداً من أكثر الفرق الغنائية شعبية في العالم، خاصة بين الشباب والمراهقين. وبالمثل اتجهت الأنظار نحو الأدب الكوري، وسعى الكثير من الناشرين من مناطق مختلفة من العالم، للحصول على حقوق ترجمته، لا سيما في روايات الجريمة. وحقق كتّاب هذا النوع من الروايات؛ من الكوريين الجنوبيين شهرة واسعة، ومنهم هاي يونغ بيون، ويونغ ها كيم، وغونغ يوغونغ التي تحولت من ممرضة إلى رائدة في أدب الإثارة والجريمة في كوريا، وتُرجمت أعمالها للعديد من اللغات مثل الإنجليزية، والفرنسية، واليابانية. وضمت جريدة "دي تسايت" الألمانية روايتها "سبع سنوات من الظلام"، إلى قائمة أفضل عشر روايات جريمة لعام 2015، بينما حققت روايتها "جريمة الإبن الصالح" نجاحاً كبيراً، وبيع منها أكثر من مليون نسخة. وصدرت هذه الرواية أخيراً في نسختها العربية بترجمة محمد نجيب (دار العربي – القاهرة).
أبعاد نفسية واجتماعية
تجاوزت الرواية المنحى التقليدي لأدب الجريمة، الذي يدور عادة حول لغز جريمة قتل، ومحاولة حله، والكشف عن هوية الجاني. فقد حاولت الكاتبة الغوص بعيداً في أعماق النفس البشرية، وتفكيك تعقيداتها، وإبراز اضطراباتها السلوكية، إضافة إلى الاشتباك مع علاقات اجتماعية مرتبكة، ومعقَّدة، في محيط الأسرة، بين الآباء وأبنائهم. فالإبن "يوغين" الذي يصحو من نومه على رائحة دم تزكم أنفه، ويجد أمه مذبوحة داخل الشقة، تحيطها بركة الدماء، يحاول التغلب على حالة النسيان المؤقت، التي تداهمه بعد كل نوبة صرع، فتستدعي ذاكرته صوراً مشوَّشة، تتجسد شيئاً فشيئاً، ليتضح أنه هو نفسه القاتل. وعلى الرغم من الكشف مبكراً عن هوية الجاني، ظل الغموض يخيم على طبيعة مرض البطل، وعلى علاقته بأمه، وأيضاً على دوافع الجريمة، التي تكشَّفت مع تدفق السرد، وتكشَّفت معها جرائم أخرى.
منحت الكاتبة لبطلها "يوغين" صوت السرد، مما أتاح له حرية التعبير عن عوالمه الداخلية، وما يعتمل فيها من مشاعرمختلطة، بين القلق، والخوف، الغضب، والندم، والاضطراب. وقلَّصت عبر هذا السرد الذاتي المسافة بين الراوي والقارئ، الذي قررت له منذ اللحظة الأولى في رحلتها؛ أن يشارك في لعبة السرد، ليتحول من متلق إلى فاعل. واتسق اعتمادها ضمير المتكلم، واستخدامها تيار الوعي، مع رغبتها في اكتشاف ما يلحق بالنفس البشرية من عطب، وشذوذ، واضطراب، يؤدي بها للوقوع في براثن الجريمة.
نسق أفقي
عمدت يوغونغ إلى المضي بالسرد في اتجاهين متقابلين، فعقب اكتشاف الابن جثة أمه السابحة في بركة من الدماء، تدفقت الأحداث في نسق أفقي، تخللته تقنيات التذكر، التي مكَّنتها من الغوص في أعماق النفس المضطربة، وتتبع تاريخها، ومحاولة اكتشاف الأبعاد النفسية والاجتماعية للجريمة. ولم يكن الكشف عن الخصائص السيكولوجية لشخصية القاتل؛ غاية وحيدة، حاولت الكاتبة إبرازها عبر النص، فقد فجرت أسئلة جدلية حول السمات البيولوجية، وعلاقتها بالميول الإجرامية، لدى شخص دون غيره... "بعد مناقشة حالته مع زملائها، وإجراء بعض الفحوص بالرنين المغناطيسي، حدَّدوا أنه يعاني اختلالاً وظيفياً محتملاً في اللوزة الدماغية، النظام الأساسي المسؤول عن الخوف في الدماغ البشري. يوغين خطر على الآخرين. لم أستطع تصديق هذا لكنها كررته ثانية. أسوأ أنواع السيكوباتيين؛ المختلين عقلياً". ص 239
صوت الأم
إلى جانب تدفق السرد على لسان الشخصية المحورية "يوغين"، اتخذت الكاتبة من دفتر يوميات الأم؛ حيلة كي تمنحها صوت السرد، في مساحات متفرقة من النسيج. واستعادت عبر تلك اليوميات طفولة البطل، سلوكه المضطرب، وتكوينه النفسي، والعقلي، متيحة عبر تبادل الصوتين؛ صورة أكثر شمولية للأحداث. ودفعت بجرعات من التشويق والإثارة إلى النص، عبرالحيل الاستباقية، التي عمدت من خلالها للإشارة إلى أحداث يغلفها الغموض، مثل غرق الأب والأخ الأكبر، وما كان يتعرض له الراوي قبيل نوبات الصرع، وشعوره بالخفة عند توقفه عن تناول أدويته، وإرجاء تفسير تلك الأحداث إلى مرحلة متأخرة من السرد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما أرجأت الكشف عن سر مشاركة الشخصية الثانوية "هاي جين" للبطل في أمه ومنزله، على الرغم من عدم وجود رابطة دم بينهما. وكان كل ما لفت به الأحداث والشخوص من غموض، وسيلة ناجعة للحفاظ على مستوى الإثارة، التي بلغت ذروتها مع الكشف عن عدم إصابة البطل بالصرع، ولجوء أمه إلى هذه الكذبة، لدفعه لتناول الدواء، إمتثالاً لتوصيات أختها الطبيبة، بهدف منعه من ارتكاب سلوك إجرامي متوقع، ومن إيذاء نفسه، أو إيذاء الآخرين.
فأر تجارب
وكما كانت يوميات القتيلة نافذة أطلت منها حقائق؛ خالفت ما ساقه الراوي، كانت كذلك مرآة انعكس على سطحها؛ الصراع المشتعل في العوالم الداخلية للأم، نتيجة انقسامها بين مشاعر الأمومة، التي تدفعها لحماية ابنها، وبين خوف وحقدٍ كامنين، باعثه إدراكها مدى خطورته، بين قبولها البرنامج العلاجي الذي وضعته أختها لكبح اضطراباته فحوَّله إلى فأر تجارب، وبين تعاطفها معه وهو يعتزل الحياة والسباحة، نتيجة الآثار الجانبية التي يسببها الدواء. هذا الصراع على المستوى الداخلي اشتعل في عوالم الابن أيضاً، حين انقسم بين رغبته في الإذعان لأمه، وطاعتها مثل ولد صالح، وبين شعوره بالغُبن، ورغبته في التمرد عليها، بين تخليه عن أحلامه، واستسلامه لحقيقة مرضه وتبعاته، وبين مقاومته وعدم التزامه ببرنامجه العلاجي، سعياً للحصول على شعور بالخفة، يغمره عند الامتناع عن تناول ذاك الدواء. وكذلك بين سعيه للحصول على نشوة يجنيها حين يشم رائحتي الخوف والدم، ومقاومة هذه النشوة كيلا يتسبب في إيذاء الآخرين. أما الصراع على المستوى الخارجي، فاشتعل بين "يوغين" وأمه نتيجة محاولاتها تقييده، وإحكام السيطرة عليه، بينما ركَّز هو محاولاته على الإفلات من قبضتها. وتجلى هذا الصراع مرة أخرى، في مساحة مررتها الكاتبة من الفانتازيا؛ دفعت عبرها بديالوغات، دارت بين جثة الأم والبطل، كمحاولة من قبل كل منهما؛ إثبات خطأ الآخر.
فبينما اتهم "يوغين" أمه بتحويل حياته إلى جحيم، نتيجة انسياقها إلى ضلالات وأوهام بشأن سلوكه المضطرب، حاولت هي إثبات انحرافه وطبيعته العنيفة، التي دفعتها لمحاولة كبح سلوكه، وميوله الإجرامية: "لا تجعل الغضب يسيطر عليك، سمعتُ أمي تقول من ورائي. كانت الأرجوحة تصر من جديد، وقفت وفتحت الستائر، كانت تجلس هناك، تنظر إلى السماء. همست من جرح عنقها المذبوح الأشبه بفم الجوكر (ألا تستطيع أن ترى أن ثمة سبباً لكل ذلك). بالطبع لا بد من وجود سبب منطقي لتدمير حياتي" ص 217.
ومثلما لعب الصراع دوراً في تحريك الأحداث، أسهم كذلك في استجلاء بواطن الشخوص، وإبراز جوانبها الطيبة والرديئة، مما ساعد بدوره في تحقيق حالة من التماهي مع النص، والدفع بالقارئ للتراوح بين ممارسة التعاطف الحذر مع البطل تارة، والانحياز إلى الأم تارة أخرى، ومواصلة المشاركة في لعبة السرد، لا سيما في ظل نهاية مفتوحة، لم تحسم الجدل بشأن محاولات الأم كبح عدائية ابنها، وما إذا كانت قد أسفرت - بدلاً من ذلك- عن توحشها! وأثار النص أسئلة جدلية حول ما يمكن تسميته بالدوافع العضوية للجريمة، وما إذا كانت اضطرابات الطفولة، إشارات تخبرعن مشاريع قتلة. وقد عزَّز من جمالية السرد، ما اتسمت به الترجمة من سلاسة وانسيابية، ونجاحها في الحفاظ على روح النص الأصلي.