ملخص
بعتقد الكاتب أن #بلير ربما كان هو من شعر بيد التاريخ ملقاة على كتفه. لكن #اتفاق السلام في إيرلندا الشمالية لم يكن ليحدث من دون بذل سياسيين من الأطياف كلها – وأعداء قدامى – كل جهد ممكن لإنهاء عقود من العنف
كان أفضل إنجاز حققه توني بلير. يوم الجمعة العظيمة عام 1998، ضمن توقيع اتفاقية تاريخية حققت السلام في إيرلندا الشمالية بعد ثلاثة عقود من العنف الطائفي.
لم يحقق رئيس الوزراء السابق ذلك وحده. لقد تطلبت اتفاقية الجمعة العظيمة، التي أصبحت نموذجاً يدرسه صانعو السلام في أنحاء العالم كله، التزاماً وتضحيات ضخمة من قبل العديد من الأشخاص الآخرين – بما في ذلك السياسيون الاتحاديون والجمهوريون في إيرلندا الشمالية؛ شين فين، والجناح السياسي للجيش الجمهوري الإيرلندي، والحكومة الإيرلندية. وأدى المجتمع دوراً مهماً، سواء الكنائس ورجال الدين في بلد مقسم بين البروتستانت والكاثوليك أو مجموعات مثل "نساء السلام".
لقد جرى التوصل إلى اتفاق غير متوقع من خلال مزيج من الظروف والأشخاص. وصل الجيش الجمهوري الإيرلندي والجيش البريطاني إلى النقطة نفسها، واعترفا بالجمود: في حين أن كلاهما كان يستطيع أن يطيل النزاع الدموي الذي أودى بحياة أكثر من ثلاثة آلاف و500 شخص، لم يمكن لأي منهما الفوز عسكرياً.
لكن الاتفاق لم يكن ليحدث لولا قيادة بلير في الصفوف الأمامية ليصبح أول رئيس وزراء جديد منذ غلادستون يجعل إيرلندا الشمالية أولوية قصوى. ربما كان تكريس كثير من الوقت والطاقة مفاجئاً بالنسبة إلى زعيم كان إنجازه الرئيسي الآخر هو الفوز بثلاثة انتخابات. لم يكن يملك أي أصوات في المقاطعة، في حين أن الفشل كان سيعني بداية ضارة لرئاسته للوزراء.
يتذكر أحد حلفاء حكومة بلير قائلاً اليوم: "كان انتصاراً شخصياً للغاية. لقد تصوره توني، وكان القوة الدافعة له، وفاوض أخيراً على اتفاق غيّر إيرلندا الشمالية وأنهى النزاع المسلح. لا شيء أهم من ذلك بكثير".
استمتع بلير بالتحدي. قالت مو مولام، وزيرة إيرلندا الشمالية في حكومته، التي أدت دوراً كبيراً في ضم شين فين إلى المفاوضات، لكنها فقدت ثقة الاتحاديين، إن بلير عانى من "عقدة يسوع". لكن أحد مساعدي بلير السابقين قال لي إن تفاؤله وثقته بقدرته على حل المشكلات المستعصية "كانت نقطة ضعف في العراق لكن نقطة قوة في إيرلندا الشمالية".
يعترف حلفاء بلير بأن سلفه المحافظ جون ميجور يستحق أكثر مما منحه التاريخ. عام 1993، أرسل له الجيش الجمهوري الإيرلندي الموقت رسالة مذهلة: "لقد انتهى النزاع لكننا بحاجة إلى نصيحتك لاختتامه. نريد وقفاً غير معلن لإطلاق نار من أجل إجراء حوار يؤدي إلى السلام".
حاول ميجور تحقيق انفراج لكنه فشل وسط استمرار هجمات الجيش الجمهوري الإيرلندي على البر الرئيسي. وتذكر مساعد سابق آخر لبلير قائلاً: "لقد مهد الطريق لتوني. لقد غير النموذج من ضرورة إلحاق هزيمة عسكرية بالجيش الجمهوري الإيرلندي. وأدرك أن اتباع نهج جديد أمر ضروري".
حين كان في المعارضة، تبنى بلير نهجاً يجمع بين الحزبين، وتخلص من دعم حزب العمال التقليدي لإيرلندا موحدة. لم ينتقد أخطاء ميجور لكنه كان حريصاً على التعلم منها؛ فشل ميجور في ضم شين فين بسرعة إلى محادثات شاملة للأطراف كلها بعد وقف في الجيش الجمهوري الإيرلندي إطلاق النار عام 1994 وقال بنزع أسلحة الجيش الجمهوري الإيرلندي كشرط مسبق لمشاركة شين فين.
كيف نجح بلير ونظيره الإيرلندي بيرتي أهيرن – الذي كان قد تحالف معه بينما كانا في المعارضة – حيث فشل العديد من الأشخاص الآخرين؟ كانت ثقتهما المتبادلة عنصراً أساسياً. كانا من جيل جديد لا يحمل الأعباء التاريخية من التوترات التي يعود تاريخها إلى القرن السادس عشر وأثرت بشدة في أسلافهما. تذكر مسؤول بريطاني كان يعمل في المقاطعة في ذلك الوقت قائلاً: "اعتبر السكان المحليون بلير مختلفاً، نسمة من الهواء العليل. كان شاباً ونشطاً وعرض الأمل. للمرة الأولى، لم يكن 'البريطانيون' يبدون كطبقة حاكمة استعمارية من حقبة ماضية".
وأثار بلير الدهشة عندما سافر إلى إيرلندا الشمالية ليلقي أول خطاب له خارج لندن بعد فوزه الانتخابي الساحق عام 1997. كانت أولويته طمأنة الأحزاب الاتحادية، قائلاً: "لا تشمل أجندتي إيرلندا موحدة"، وألا أحد في القاعة من المرجح أن يرى إيرلندا موحدة في حياته. بعد ذلك، لم يتوقف أبداً، لذلك حافظ على الزخم نحو التوصل إلى اتفاق.
ومع ذلك، لم يكن النجاح مضموناً قط – حتى اللحظة الأخيرة. تطلب النجاح ما وصفه كبير موظفي بلير والمفاوض الذي لا يكل جوناثان باول "غموضاً بناءً"، ولا سيما في شأن نزع أسلحة الجيش الجمهوري الإيرلندي. كان كل من شين فين والاتحاديين بحاجة إلى اعتبار أي اتفاقية مؤيدة لموقفهم. فلو أُجبِر شين فين على قبول موعد نهائي، ما كان ليجري التوصل إلى اتفاق. ولو كان بلير قد أخبر الاتحاديين أنه تخلى عن الأمل في نزع أسلحة الجيش الجمهوري الإيرلندي، لكانوا قد انسحبوا من المحادثات؛ كان يكافح باستمرار لإبقائهم في المفاوضات.
قال بلير إن نزع الأسلحة لم يكن السؤال الأكبر لأن الجيش الجمهوري الإيرلندي كان يمكن أن يتخلى عن أسلحته ثم يحصل على مزيد منها في وقت لاحق. وتحدث عن مسألة "الموافقة الشعبية"، مقترحاً أن وضع إيرلندا الشمالية لا يمكن تغييره من دون دعم شعبها، وهو تنازل صعب للجمهوريين.
لم يكن مخطط الاتفاق النهائي جديداً. بالنسبة إلى بعض المشاركين، ردد الاتفاق صدى اتفاقية سونينغديل لعام 1973، التي هدفت إلى إنشاء هيئة تنفيذية لتقاسم السلطة في إيرلندا الشمالية ومجلس عابر للحدود يمثل إيرلندا – وهو ما رفضه الاتحاديون المشتبهون بالاتفاقية باعتباره حكومة جنينية للجزيرة بأكملها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تناول بلير الاتفاقية ذات المقترحات الثلاثة التي نوقشت في عهد ميجور: مجلس تنفيذي في إيرلندا الشمالية؛ وتعاون بين شمال الجزيرة وجنوبها؛ وتعاون بين الشرق والغرب بين الحكومتين البريطانية والإيرلندية وبين كلتا الجزيرتين. وكان هناك أيضاً نزع سلاح الجيش الجمهوري الإيرلندي، ودور الشرطة، والأمن، وحقوق الإنسان. وعلى رغم تحديد موعد نهائي في مايو (أيار) 1998، لم تصل المحادثات إلى أي نتيجة سريعة.
ولم يكن ثمة تفاؤل يُذكَر عندما وصل بلير إلى بلفاست يوم الثلاثاء السابق ليوم الجمعة العظيمة، رافضاً مشورة قدمها مسؤولون بعدم تجشم العناء. لم يكن أهيرن متأكداً أيضاً، وحذر جورج ميتشل، عضو مجلس الشيوخ الأميركي السابق الذي ترأس المحادثات بين الأطراف كلها، بلير من غياب أي احتمال للتوصل إلى اتفاق. وأعطى أحد الاتحاديين الاجتماع فرصة للنجاح بنسبة خمسة في المئة. وكان باول غريزياً أكثر تفاؤلاً لكنه لم يكن متأكداً من السبب.
عند وصوله، أطلق بلير غير المستعد واحدة من أشهر نغماته – بينما كان يحاول عدم القيام بذلك. قال لوسائل الإعلام المنتظرة: "يوم مثل اليوم ليس يوماً لإطلاق النغمات؛ يمكننا تركها في المنزل، لكنني أشعر بيد التاريخ ملقاة على كتفنا في ما يتعلق بهذا الأمر؛ أنا حقاً أشعر بذلك". وأصابت مساعديه أليستير كامبل وباول نوبات من الضحك. قال لهما بعد ذلك: "لقد طرأت الفكرة على ذهني".
لم تكن مباني القلعة الخانقة في ستورمونت، بمتاهة ممراتها، المكان المثالي لما تحول إلى مفاوضات ماراثونية. قال باول: "نضح المكان برائحة العرق والطعام البائت". مع تخييم صحافيين في الخارج، كان المكان الوحيد الذي أمكن للمشاركين فيه تنشق الهواء النقي فناء مسور؛ كانوا يمشون ذهاباً وإياباً، معتقدين بأن المكان كان مثل سجن. يتذكر مستشار قائلاً إن بلير "تغذى على الموز وسندويتشات مروعة". بعد ليلة الثلاثاء، تمكن عدد قليل من المشاركين من النوم لفترات كبيرة خلال الليلتين التاليتين. في مرحلة ما، وجد بلير النائب الاتحادي في أولستر كين ماغينيس نائماً في سريره في قلعة هيلزبورو، مقر إقامة وزير إيرلندا الشمالية. ونام جون هولمز، سكرتير بلير الخاص للشؤون الخارجية، على طاولة مكتب في جناحه.
تناولت الأزمة الأولى خلال المحادثات السريعة التي دامت ثلاثة أيام، العلاقة بين الشمال والجنوب. وتعرض اتحاديو أولستر، بقيادة ديفيد تريمبل، إلى ضغط من منافسيهم، الحزب الاتحادي الديمقراطي المتشدد، بقيادة إيان بايسلي، الذي قاطع المحادثات لكنه حضر ليخاطب وسائل الإعلام ويدين تريمبل بوصفه خائناً. فقد أثارت حفيظة تريمبل المسودة وطالب بتنازلات من دبلن وقلص أهيرن قائمة مطولة حول جوانب التعاون بين الشمال والجنوب.
في مرحلة ما، فقد بلير رباطة جأشه مع الإيرلنديين حول الهيئات التي ستتولى العلاقات بين الشمال والجنوب، لكن اختراقاً في نهاية المطاف مهد الطريق أمام اتفاق حول الحكومة الإقليمية. وتحول من ثم شين فين إلى عائق أمام الاتفاق. فقد قام جيري آدامز، رئيس شين فين، ومارتن ماكغينيس، اللذان التحقا بالجيش الإيرلندي الموقت وهما شابان، بروتين "الشرطي الخيّر، الشرطي الشرير": لم يقل آدامز قط إنه سيرفض الاتفاقية، لكن ماكغينيس قال إنه قد لا يوصي بتبنيها. واعترف بلير بأن عليهما أن يشركا المتشددين في حركتهما في المفاوضات؛ ذلك أن التاريخ أثبت أن الفشل في ذلك قد يكلفهما حياتهما.
وتدخل بيل كلينتون، الرئيس الأميركي، محاولاً إنقاذ الاتفاق: بقي مستيقظاً الخميس واتصل بآدامز هاتفياً ثلاث مرات. وجرى التوصل إلى تنازلات في شأن دور الشرطة واللغة الإيرلندية. لكن بعد ذلك أصبحت المسألة المثيرة للجدل المتمثلة في الإفراج عن السجناء الإرهابيين حجر عثرة متأخراً. وأعطى بلير آدامز تأكيداً سرياً بأنه سيقدم إطلاق سراحهم من سنتين إلى سنة – في وعد لم يتبلور قط – ووافق على مقابلة آدامز بعد عيد الفصح لإثبات أنه ملتزم بالعملية في الأجل البعيد.
وعندما بدا التوصل إلى اتفاق ممكناً، واجهت المحادثات في الساعات الأولى من صباح الجمعة العظيمة مشكلات جديدة في شأن الترتيبات بين الشمال والجنوب. واستدعى بلير المنهك أهيرن وتريمبل ووفديهما. وكتب باول في كتابه الرائع عن الاتفاقية، "الكراهية العظمى، الهامش الضيق"، يقول: "الإيرلنديون متصلبون، وبدا تريمبل وقحاً في شكل مزعج مع بيرتي [أهيرن]، الذي أوشك أن يضربه". ونجح بلير في إقناع تريمبل، لكن عقبة أخرى برزت عند وضع اللمسات الأخيرة على مسودة الاتفاقية صباح الجمعة العظيمة. استسلم بلير لمطلب اتحادي بإغلاق مبنى للخدمة المدنية الذي كان يضم أمانة إنجليزية-إيرلندية.
وقال كامبل، مدير التواصل في فريق بلير، لوسائل الإعلام المنتظرة إن الاتفاق أُبرِم، لكن ذلك لم يحصل في الواقع، وفُتِحت أبواب الجحيم كلها عندما حصلت الأطراف على نص منقح في منتصف النهار. لم يكن تريمبل قد مهد الطريق مع وفده؛ حكم (خطأ) بأن شين فين لن يوافق على مبدأ الموافقة الشعبية. كان بلير في حال من اليأس، وتوسل الاتحاديين أن "ينظروا إلى الصورة الكبيرة". لم يكن مستعداً للفشل، لذلك أرسل إلى تريمبل رسالة جانبية توضح أن شين فين سيُستبعَد من السلطة التنفيذية إذا لم يُنزَع سلاح الجيش الجمهوري الإيرلندي. ونجح – بالكاد.
بعد إبرام الاتفاق أخيراً، خاطب بلير وأهيرن وسائل الإعلام. متمسكاً بنغمته، قال بلير: "اليوم آمل في أن يبدأ عبء التاريخ أخيراً في الابتعاد عن أكتافنا".
واستطاع بلير أن يتمتع بانتصاره غير المتوقع. لكن اتضح أن الانتصار بداية وليس نهاية. فكما قال لي وزير حكومي سابق: "ينسى الناس الأمر اليوم، لكن اتفاقية الجمعة العظيمة وُلِدت ميتة". لم يكن بلير يعلم أن تمكين السلطة التنفيذية والبرلمان من العمل سيتطلب تسع سنوات أخرى من المفاوضات المضنية. فاز تريمبل وجون هيوم، زعيم حزب العمال الاجتماعي والديمقراطي – وهو حزب قومي – بجائزة نوبل للسلام. لكن تريمبل دفع ثمناً باهظاً لشجاعته. لقد فقد مقعده في مجلس العموم، واستقال من منصب زعيم اتحاديي أولستر وطغى على حزبه الحزب الاتحادي الديمقراطي. وتمثلت إحدى العواقب غير المقصودة ــ وهي مفارقة بالنظر إلى هوس بلير بالأرضية الوسطى ــ في أن الأحزاب المتطرفة على جانبي الانقسام ازدهرت في حين خسر المعتدلون الدعم مع تعرض العمل السياسي في المقاطعة إلى استقطاب. وتجاوز شين فين حزب العمال الاجتماعي والديمقراطي.
من اللافت للنظر أن بايسلي، زعيم الحزب الاتحادي الديمقراطي، هو الذي أصبح الوزير الأول في إيرلندا الشمالية، وحل ماكغينيس نائباً له، في ثنائي غير محتمل اضطر كل طرف فيه أن يحب الآخر وأُطلِق عليه اسم "الأخوين المضحكين". في اليوم الذي أديا فيه اليمين الدستورية في مايو (أيار) 2007، قال بلير إن الوقت قد حان كي "يفلت الإقليم من سلاسل التاريخ". وبعد يومين أعلن استقالته. على غرار ميجور، ربما يستحق بلير من الفضل في إحلال السلام في إيرلندا الشمالية أكثر مما حصل عليه، لكن الأرواح التي أنقذها هناك طغت عليها من دون شك تلك التي أُزهِقت في العراق.
القصة أبعد ما تكون عن الخاتمة اليوم. جمد الحزب الاتحادي الديمقراطي البرلمان والسلطة التنفيذية في فبراير (شباط) من العام الماضي احتجاجاً على بروتوكول إيرلندا الشمالية الخاص بالترتيبات التجارية بعد بريكست. واستمر توقف موقت سابق ثلاث سنوات. وأدى ذلك إلى دعوات إلى إصلاح اتفاقية الجمعة العظيمة لمنع الحزب الاتحادي الديمقراطي شين فين من امتلاك حق بالنقض كهذا والاعتراف بالتأييد المتزايد لحزب التحالف غير الطائفي. من المحتمل أن يأتي التغيير يوماً ما، لكنه لن يكون سهلاً؛ سيتطلب دعماً عابراً للمجتمعات المحلية.
على رغم هذه العيوب، صمدت اتفاقية الجمعة العظيمة أمام اختبار الزمن، وهو تذكير بقوة العمل السياسي في فعل الخير عندما يبذل السياسيون من الأطياف كلها – والأعداء القدامى – كل جهد ممكن.
© The Independent