Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أميركا وإيرلندا: علاقة لا تشبهها أي روابط أخرى بين دولتين

قدم المهاجرون الإيرلنديون الأوائل وأحفادهم مساهمات لا تحصى في السياسة والصناعة والعمل المنظم والدين والأدب والموسيقى والفن في أميركا

بايدن أمام لوحة ترحب به في إيرلندا (رويترز)

ملخص

العلاقة الاستثنائية بين #أميركا و#إيرلندا نسجها #المهاجرون_الإيرلنديون الأوائل وأحفادهم الذين قدموا مساهمات لا تحصى في السياسة والصناعة والدين والأدب والموسيقى والفن في الولايات المتحدة

أثناء متابعة التغطية الإخبارية لزيارة الرئيس الأميركي جو بايدن جمهورية إيرلندا، الخميس الماضي، لفتتني بعض العناوين، لا سيما في الصحف البريطانية، مثل "علاقة أميركا المميزة الحقيقية ليست مع المملكة المتحدة بل مع إيرلندا"، "إيرلندا وأميركا: أفضل صديقتين"، "مرة أخرى أميركا تفضل إيرلندا على المملكة المتحدة".

بغض النظر عن الرابط الذي يجمع بين إيرلندا وبايدن شخصياً، حيث ركز كثيراً خلال زيارتها على أنها "أرض أجداده" وأنه "ابن إيرلندا"، وعبارته الافتتاحية في خطابه أمام البرلمان التي قالها باللغة الإيرلندية "أنا في دياري" وقابلها رئيس مجلس النواب الإيرلندي بـ"أنتم بيننا اليوم لأنكم واحد منا"، إلا أن العلاقة الطيبة والوثيقة بين البلدين لم تقتصر على فترة ولاية بايدن التي وصلت إلى فصلها الأخير.

تاريخ العلاقات الأميركية- الإيرلندية

أكد بايدن في خطاباته على متانة الروابط الأميركية- الإيرلندية المبنية على قيم مشتركة للبلدين مثل "الحرية والعدالة والكرامة والعائلة والشجاعة". وبحسب حكومتي البلدين، فإن العلاقة بينهما قائمة على قيم وروابط متوارثة مشتركة، ويوجد بينهما حوار منسق في الشؤون السياسية والاقتصادية وتبادلات رسمية في مجالات عدة على رأسها المجالان الطبي والتعليمي.

في الوقت الراهن، تلعب الثقافة الأميركية والشركات الأميركية دوراً كبيراً في حياة الشعب الإيرلندي، مثله مثل شعوب كثيرة في العالم، لكن عندما تأسست الولايات المتحدة، وفي الواقع منذ استقر الوافدون من الجانب الشرقي في العالم الجديد، لعبت إيرلندا والثقافة الإيرلندية دوراً أكبر مما يمكن أن يتصوره المرء في تطوير الأمة الجديدة.

يوجد في أميركا اليوم أكثر من 36 مليون أميركي يمتلكون جذوراً إيرلندية، وهو ما يفوق العدد الإجمالي الحالي لسكان إيرلندا بسبعة أضعاف.

كان الإيرلنديون والاسكتلنديون من أوائل مستوطني المستعمرات البريطانية الـ13 التي أسستها بريطانيا على الساحل الأميركي من المحيط الأطلسي بين القرنين الـ17 والـ18. ولعب هؤلاء الوافدون دوراً مهماً في حرب استقلال إيرلندا.

حتى عام 1860، بلغ عدد الإيرلنديين الآتين إلى أميركا مليوني شخص، فر 75 في المئة منهم بعد المجاعة الكبرى التي ضربت إيرلندا بين عامي 1845 و1852، وانضم أغلبهم إلى مدن الصفيح الإيرلندية التي كانت تنمو بشكل متسارع في أميركا.

لم تكن ظروف الجل الأعظم من المهاجرين الإيرلنديين إلى المدن الأميركية في تلك الفترة أفضل بكثير من الدمار الذي تركوه وراءهم وخلفته المجاعة.

غالباً ما التحق المهاجرون الإيرلنديون بالقوى العاملة في أسفل السلم المهني وتولوا وظائف وضيعة وخطرة كان يتجنبها العمال الآخرون. أصبحت نساء إيرلنديات كثيرات خادمات أو عاملات منازل، بينما اشتغل عديد من الرجال في مناجم الفحم وبناء السكك الحديدية والقنوات ورعاية المواشي.

ثم استغل الإيرلنديون دينهم الكاثوليكي للسيطرة على الكنيسة الكاثوليكية الأميركية لإنشاء نظام مدرسي متشدد لأطفالهم، كما سعوا وراء الفرص السياسية التي لم تتح لهم في إيرلندا. بمرور الوقت، صعد الإيرلنديون كقوة مؤثرة في المجتمع الأميركي وفي السياسة الأميركية، ومارسوا نفوذهم بخاصة في الحزب الديمقراطي.

في الفترة بين عامي 1866 و1871، شنت أخوية فينيان التي كانت تتخذ من الولايات المتحدة مقراً لها، غارات على الحصون ومواقع الجمارك وغيرها من الأهداف التابعة للجيش البريطاني في كندا بهدف الضغط على بريطانيا لتنسحب من إيرلندا. السلطات الأميركية التي خرجت للتو من حربها الأهلية وكانت مستاءة من الدور الذي لعبته بريطانيا فيها تجاهلت غارات الأخوية. وعلى رغم فشل تلك المحاولات، فإن السياسيين الأميركيين والإيرلنديين طالبوا باستقلالية أكبر لإيرلندا وتبنوا خطاباً مناهضاً لبريطانيا كان ركيزة لحملة انتخابية دعت إلى التصويت لاستقلال إيرلندا.

من أبرز الشخصيات الأميركية– الإيرلندية التي لعبت دوراً في استقلال إيرلندا، إيمون دي فاليرا، المولود في نيويورك لأم إيرلندية وأب إسباني. في عام 1916 شارك في قيادة ثورة الفصح الفاشلة، وحكمت عليه محكمة بريطانية بالإعدام نتيجة لذلك، لكنه نجا من الموت بفضل جنسيته الأميركية. انتخب عضواً في البرلمان البريطاني ثم انتخبه مؤتمر الشين فين رئيساً للجمهورية الإيرلندية التي ما زالت مجرد خطة على ورق. حكم عليه بالسجن نتيجة مشاركته في حرب الاستقلال الإيرلندية، إلا أنه هرب بعد عام إلى الولايات المتحدة. سنة 1921 اشترك دي فاليرا في مفاوضات مع الحكومة البريطانية أدت إلى إقامة الجمهورية الإيرلندية، لكنه عارض التسوية لأنها أفضت إلى تقسيم إيرلندا. ترك دي فاليرا لاحقاً منصبه كرئيس للشين فين، لأن الحزب رفض الاعتراف بمجلس إيرلندا الذي كان على أعضائه أداء قسم الولاء للتاج البريطاني، ثم شكل دي فاليرا حزب فيانا فيل الذي سيطر على الحكومة في عام 1932. شغل منصب رئيس الوزراء ثلاث مرات وكان رئيساً لجمهورية إيرلندا بين عامي 1932 و1937.

وفي الحرب العالمية الأولى، كانت البحرية الأميركية تمتلك خمس محطات جوية بحرية في إيرلندا لحمايتها وجيرانها من ضربات القوات المعادية.

قدم المهاجرون الأوائل وأحفادهم مساهمات لا تحصى في السياسة والصناعة والعمل المنظم والدين. مثلاً، كرست ماري هاريس أكثر من 50 عاماً من حياتها في تنظيم الإضرابات والاعتصامات الكبيرة وكذلك لتكوين نقابات تحمي حقوق العمال في مختلف المهن في جميع أنحاء أميركا، وعلى رأسها اتحاد عمال الصناعة العالمي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الروابط السياسية

 في حين أن علاقة إيرلندا بأميركا تتميز على نطاق واسع بالصداقة والألفة، لا توجد علاقة محصنة ضد لحظات الصراع، حتى تلك التي تعود بالفائدة على الطرفين.

على سبيل المثال، يعد استخدام القوات الأميركية مطار شانون في مقاطعة كلير بإيرلندا للتزود بالوقود، إحدى الحالات التي أدت فيها المجاملات الدبلوماسية مع الخارج إلى إثارة غضب محلي كبير. في عام 2013، لما كشفت رئيسة هيئة المطار أنه لم يكن على استعداد فقط لاستيعاب الرحلات الجوية العسكرية الأميركية، ولكنه كان يسعى بنشاط وراء ما وصفته بحركة مرور عسكرية أميركية "مهمة" و"مربحة"، استاء المواطنون بشدة حيث اعتبروا أن حكومتهم تخلت تماماً عن فكرة الحياد الإيرلندي وتخطط للمشاركة المستمرة في الحروب الأميركية. وفي الواقع، غالباً ما قوبل موقف إيرلندا في شأن الحياد عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع المصالح الاستراتيجية الأميركية، بعدم ارتياح في الداخل، بالتالي فإن العلاقة الحديثة بين الولايات المتحدة وإيرلندا ليست فقط أداة عاطفية لاستمالة المصوتين كما توصف أحياناً بتبسيط مبالغ فيه، كما أنها ليست علاقة مريحة بشكل دائم، لكن الدولتين تمارسان علاقة معقدة وناضجة ومحسوبة.

الجذور الإيرلندية في السياسة الأميركية

في الواقع، غالباً ما يكون المجال السياسي مكاناً يحب السياسيون الأميركيون استخدامه لاستغلال العلاقات الإيرلندية، إذ لم يخل تعلق الرئيس بايدن الواضح في خطاباته خلال زيارته قبل أيام من دوافع سياسية، بخاصة أنه يعتزم الترشح لولاية رئاسية جديدة في السباق الانتخابي لعام 2024، إذ تؤهله طفولته التي قضاها في كنف إيرلندي متماسك لأن يعزز صورته كرئيس متحدر من أوساط متواضعة وكادحة، بالتالي استمالة أصوات نحو 36 مليون أميركي متحدرين من أصول إيرلندية قد يتعاطفون معه.

منذ أيام كينيدي الرئيس الكاثوليكي الوحيد الآخر إلى جانب بايدن، كانت مناشدة السكان الأميركيين الإيرلنديين عاملاً مهماً في التصويت في الولايات الصعبة. تختلف جذور كينيدي الإيرلندية القوية مع العلاقات الأبعد التي يتقاسمها جورج دبليو بوش مع الجزيرة، وإن أصبح إثبات الأصل الإيرلندي والتفاخر به، بطريقة أو بأخرى، تقليداً ثابتاً للرؤساء الأميركيين. فوفقاً للإحصاءات الأميركية، يرجع نصف الرؤساء الأميركيين أصولهم إلى إيرلندا، من بينهم على سبيل المثال لا الحصر ثيودور روزفلت، هاري ترومان وريتشارد نيكسون.

العلاقات الاقتصادية

بلغة اقتصادية بسيطة، فإن القوة المالية الأميركية هي القوة التي كانت الحكومات الإيرلندية على مدى أجيال تتوق إلى إرضائها. كانت أميركا هي الجهة التي لجأ إليها إيمون دي فاليرا لحشد الدعم المالي لقضية الاستقلال ونجح في جمع مبلغ من المؤيدين فاق بكثير ما كان يطمح إليه ووصل إلى 5.5 مليون دولار. في الواقع، كان إعلان الرئيس الأميركي وودرو ويلسون عن دعم حقوق الدول الصغيرة في مؤتمر باريس للسلام الذي عقد مباشرة في أعقاب الحرب العالمية الأولى، هو الذي أفضى إلى مشاركة البعثة الإيرلندية، لكن يبدو أن الدولة الإيرلندية الوليدة حينها، لم تأخذ في الحسبان خطط الولايات المتحدة الدولة العظيمة. على كل حال، عنت الهيمنة العالمية للأنظمة المالية الأميركية حينها أن خطب ود هذا الاقتصاد الهائل سيكون أمراً ضرورياً لأي حكومة إيرلندية من أجل جذب الاستثمار الأجنبي المباشر.

أدى نشر تقرير "البرنامج الأول للتوسع الاقتصادي" للاقتصادي والسياسي الإيرلندي تي كي وايتكر في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، إلى إعلان بداية حقبة من الإمكانات الاقتصادية الموسعة للدولة، مع تجنب الإجراءات الحمائية لصالح اقتصاد أكثر انفتاحاً وحرية تجارية أكبر، وعلى رأسها مع الولايات المتحدة بلا شك.

بعد الانضمام إلى المجموعة الاقتصادية الأوروبية في عام 1973، وما صاحب ذلك من تطورات شهدها الاقتصاد الإيرلندي، وصل الانفتاح على الاستثمار الأجنبي المباشر إلى مستويات عالية جديدة في منتصف التسعينيات وحتى نهاية العشرية الأولى من القرن الحالي لما كان الاقتصاد الإيرلندي في أوجه بفضل الاستثمارات الأجنبية.

استمرت أميركا في لعب دور هائل في الاقتصاد الإيرلندي، الذي تأثر بشكل كبير بالأزمة المالية التي شهدتها أميركا في عام 2008.

لكن بعد ذلك، وبفضل معدل الضريبة المنخفض على الشركات وتوفر القوى العاملة المتعلمة، تمكنت إيرلندا من جذب عديد من الشركات متعددة الجنسيات الأميركية الكبيرة، لتصبح الموطن الأوروبي لعمالقة التكنولوجيا مثل "غوغل" و"ميتا" و"تويتر" و"أمازون" خلال العقدين الأولين من الألفية.

الروابط الثقافية

بعيداً من الشؤون الاقتصادية، تشترك إيرلندا والولايات المتحدة بروابط ثقافية أوثق، إلى جانب التقاطع الهائل بين الثقافات الرياضية المميزة الخاصة بالبلدين. مثلاً، يستخدم البلدان الكلمة نفسها Soccer للحديث عن لعبة كرة القدم بدلاً من كلمة Football الشائعة في الدول الأخرى الناطقة بالإنجليزية. وكذلك يتم الاحتفال على نطاق واسع في أميركا بعيد القديس باتريك، الرجل الذي ينسب إليه الفضل في جلب المسيحية إلى إيرلندا، حيث يملأ المحتفلون بأزيائهم الخضراء ونباتات البرسيم رباعية الأوراق الشوارع في الولايات المتحدة في 17 مارس (آذار) من كل عام.

كما تشترك إيرلندا وأميركا في قدر كبير من الروابط الموسيقية والسينمائية والأدبية.

في عالم الأفلام، كان ممثلون إيرلنديون أميركيون مثل بينغ كروسبي وجودي غارلاند من ألمع النجوم على الشاشة خلال العصر الذهبي لهوليوود. تجلى الاهتمام بسرد القصص الإيرلندية والثقافة الإيرلندية على الشاشة في إنتاج أعمال مثل فيلم "الرجل الهادئ" The Quiet Man من إخراج جون فورد الصادر عام 1952، وفيلم الرسوم المتحركة الذي أنتجته ديزني في عام 1959 "داربي أوجيل والناس الصغار" Darby O"Gill and the Little People.

وحتى يومنا هذا، ما زال الاهتمام السينمائي بالقصص الإيرلندية البحتة أو تلك التي تدور عن المهاجرين الإيرلنديين تحقق نجاحاً في الولايات المتحدة، مثل فيلم "الإيرلندي" The Irishman لمارتن سكورسيزي الصادر عام 2019، وفيلم "حوريات أنشرين"  The Banshees of Inisherin للمخرج الإيرلندي مارتن ماكدوناه الذي كان منافساً قوياً في سباق الأوسكار هذا العام، وفيلم "الفتاة الصامتة" An Cailín Ciúin الناطق بالإيرلندية وقوبل بحفاوة نقدية وترشح لأوسكار أفضل فيلم ناطق بلغة أجنبية.

في عالم الموسيقى، لطالما استخدم مصطلح "تكسير السوق الأميركية" كمقياس يمكن من خلاله الحكم على نجاح فنان ما. فبمجرد أن يضمن الانتشار في السوق الأميركية، يصبح فناناً ناجحاً بالفعل. وضمن القائمة الطويلة من الجهود الموسيقية الإيرلندية التي حاولت تحقيق مثل هذا الإنجاز، لا يمكن القول إن أياً منها "كسر السوق الأميركية" مثلما فعلت فرقة "يو تو" U2 لموسيقى الروك التي باعت ملايين الألبومات في الولايات المتحدة، وقدمت حفلاً في كل مدينة رئيسة في البلاد تقريباً. ونظراً إلى لعدد الكبير من الجوائز الرئاسية في أميركا التي حصل عليها المغني الرئيس وكاتب أغاني الفرقة، بونو، اعتقد كثيرون أن الموسيقي المولود في دبلن أميركي الجنسية.

كذلك تمكن المغني كريس دي بيرغ، الذي عاد ليستقر في إيرلندا بعد تنقله بين مالطا ونيجيريا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، من التربع على قمة سباقات الأغاني الأميركية مرتين، كانت الأولى مع أغنيته "سيدة ترتدي الأحمر"Lady in Red الصادرة عام 1986 التي استخدمت عدداً لا حصر له من المرات في الأفلام والمسلسلات الأميركية.

في عالم الأدب، تركت إيرلندا مرة أخرى بصمة لا تمحى في القصص الوطنية الأميركية. كان نشر رواية "يوليسيس" Ulysses للروائي الإيرلندي جيمس جويس عام 1934، بعد حظرها لأكثر من عقد، بمثابة لحظة فاصلة في تاريخ النقد الأدبي الأميركي والرقابة الأدبية، حيث أطلق عقلية نشر جديدة أكثر تسامحاً في الولايات المتحدة. علاوة على ذلك، أصبحت كتابات الشاعر والمسرحي سيموس هيني الحائز على جائزة نوبل للآداب دعامة مفضلة للساكن الحالي للبيت الأبيض، جو بايدن، يعتمد عليها في خطاباته وكلماته.

رغم كل الهواجس السياسية، يظل الرابط بين أميركا وإيرلندا مختلفاً تماماً عن ذلك القائم بين أي دولتين أخريين. إنها رابطة مبنية على تاريخ مشترك، وإعجاب بثقافة الآخر، ورغبة قوية في بناء مستقبل مزدهر معاً لتحقيق المنفعة المتبادلة، وبعيداً من "الإمبريالية" البريطانية المكروهة في البلدين.

المزيد من تقارير