Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

العلاقات المميزة الفعلية لأميركا ليست مع بريطانيا

لطالما تم الحديث عما يربط البلدين من علاقات إلا أنها لم تتجاوز المستوى الحكومي

الرئيس الأميركي جو بايدن بجامعة ألستر في بلفاست (غيتي)

ملخص

زار جو بايدن أيرلندا الشمالية لإحياء الذكرى الـ25 لاتفاق الجمعة العظيمة، فالأميركيون لعبوا دوراً محورياً في المفاوضات التي أنهت ثلاثة عقود من العنف

ما من مكان آخر في العالم كان على جو بايدن الوجود فيه خلال الأيام الماضية سوى بلفاست.

فرئيس الولايات المتحدة الأميركية الفخور بأصوله الأيرلندية، زار أيرلندا الشمالية لإحياء الذكرى الـ25 لاتفاق الجمعة العظيمة. وهذا تصرف منطقي، فقد لعب الأميركيون دوراً محورياً في المفاوضات التي أدت إلى التوصل إلى الصفقة التي أنهت ثلاثة عقود من العنف الديني بين القوى الوحدوية البروتستانتية [المؤيدة لبريطانيا]، والقوى الكاثوليكية من القوميين الأيرلنديين [الذين يرغبون في توحيد الجزيرة]. كان ذلك الاتفاق دليلاً واضحاً على نجاح الدبلوماسية الأميركية ومنهج عالمي في كيفية إنهاء النزاعات الأهلية.

وكما يظهر شريط الأحداث لتاريخ التدخل الأميركي في عملية السلام الأيرلندية، فإن واشنطن تمكنت من لعب دور مهم للغاية في المفاوضات التي أدت إلى اتفاق الجمعة العظيمة، وذلك بسبب تاريخه الفريد [بالنسبة إلى أيرلندا]. فعدد كبير من الذين دعوا الولايات المتحدة الأميركية إلى لعب دور في عملية التسوية كانوا أميركيين من أصول أيرلندية، من رئيس مجلس النواب الأميركي تيب أونيل Tip O’Neill، في ثمانينيات القرن الماضي، وصولاً إلى الرئيس بيل كلينتون في التسعينيات، الذي اشتهر لمنحه تأشيرة دخول لمدة 48 ساعة إلى الولايات المتحدة الأميركية لزعيم شين فين Sinn Fein [الجناح السياسي لمنظمة الجيش الجمهوري الأيرلندي المحظورة IRA] جيري أدامز Gerry Adams - وكانت تلك نقطة تحول أدت إلى الدفع بمسيرة السلام والتسوية في أيرلندا.

ما من شيء مفاجئ في ذلك. فلطالما تحدثنا عن "العلاقات المميزة" بين الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة، إلا أن تلك العلاقة موجودة فقط على المستويات الحكومية بين الدولتين. لكن في قلوب وعقول الأميركيين، فالعلاقات المميزة الحقيقية هي مع أيرلندا.

 وكي نعي هذا الأمر، على المرء أن يفهم التركيبة السكانية الأميركية والتاريخ الأميركي. فالولايات المتحدة الأميركية انسلخت عن بريطانيا في القرن الـ18، لتعود وتصبح إحدى أهم الدول المتحالفة معها في القرن الـ20. والولايات المتحدة دولة يقول 31.5 مليون مواطن فيها إن لديهم جذوراً أيرلندية. هذه شريحة شعبية تشكل سبعة أضعاف عدد سكان أيرلندا نفسها، ولكنها نسبة تصل إلى أميركي واحد من أصول أيرلندية بين كل 10 أميركيين، يعيشون منتشرين في مقاطعات الولايات المتحدة كافة.

لكن وفي ما هو أبعد من ذلك، هناك علاقة يشعر بها كل أميركي مع جمهورية أيرلندا من خلال ميزة تشابه تاريخ البلدين. فأيرلندا والولايات المتحدة كانتا مستعمرتين تابعتين إلى المملكة المتحدة. وكما كنت كتبت في السابق، لدى الأميركيين (حروب) ليكسيغون Lexington وكونكورد Concord، [التي خاضها الأميركيون من أجل الاستقلال عام 1775]، أما الأيرلنديين فلديهم انتفاضة الفصح، [التي ثار فيها الأيرلنديون ضد الإنجليز عام 1916]. للأميركيين حربهم الثورية، ولأيرلندا حربها من أجل الاستقلال. كان للأميركيين الرئيس جورج واشنطن George Washington، وللأيرلنديين كان هناك زعيمهم الاستقلالي مايكل كولينز Michael Collins.

في القرن الـ19، ازدادت عمليات الهجرة إلى أميركا مما يعرف اليوم بجمهورية أيرلندا وذلك إلى حد كبير بسبب القوانين التعسفية التي فرضها البريطانيون على البلاد، إضافة بالطبع إلى مجاعة أيرلندا الكبرى [بين عامي 1845 و1852] التي تعرف بـ"مجاعة البطاطا" Potato Famine. لكن ومن المؤسف أن الأيرلنديين لم يلقوا ترحيباً حاراً لدى وصولهم إلى الولايات المتحدة. على سبيل المثال، في حادثة عام 1855، التي سميت لاحقاً بيوم "الإثنين الدامي" Bloody Monday، تم ذبح ما لا يقل عن 22 أيرلندياً ــ على رغم أن بعض المصادر من الأيرلنديين الكاثوليك يضعون الرقم عند 100 قتيل ــ في مجزرة وقعت في لويسفيل Louisville في ولاية كنتاكي.

هذا التمييز عنى أن الأيرلنديين وأحفادهم لم يتم دمجهم في الثقافة الأميركية السائدة (وهو ما يعرف بشريحة البيض الأنغلوساكسونيين البروتستانت الذين يشار إليهم بثقافة "واسب" White Anglo-Saxon Protestant WASP)، بالسرعة ذاتها التي تم اندماج المهاجرين الوافدين من إنجلترا مثلاً، وحتى من اسكتلندا وويلز أيضاً. وفيما نجح "الأيرلنديون – الاسكتلنديون" وهم أحفاد ما يعرف بأهل مقاطعة ألستر الأسكتلنديين Ulster Scots، الذين هاجروا إلى أميركا الشمالية في القرن الـ17 والقرن الـ18 ــ في أن يصبحوا أميركيين تماماً مع اندلاع الحرب الأهلية الأميركية، تم تهميش الأيرلنديين الكاثوليك الذين كونوا شريحة من الوافدين الجدد من جنوب الجزيرة الأيرلندية، بطرق تركتهم منطويين على أنفسهم، الأمر الذي أدى إلى تمسكهم بثقافتهم والحفاظ عليها بقوة.

لكن ومع مرور الوقت، بدأ المجتمع بتقبل الأيرلنديين بشكل أكبر كجزء من المجتمع الراقي، وخصوصاً عندما بدأت الطبقة الاجتماعية الأكثر تحضراً التي عرفت حينها بـ"طبقة الدانتيل الأيرلندي" lace curtain Irish، بتحقيق مستوى من الثراء الاقتصادي والاحترام، مقارنة بطبقة أخرى كان يطلق عليها اسم "قاطنو الأكواخ الأيرلنديين" shanty Irish الذين تم تصويرهم على أنهم كسالى ودائمو الثمالة وعنيفون. وفيما بدأت تلك الطبقة الأرقى بالتأثير بشكل أكبر في الحياة الأميركية ــ بما في ذلك السياسة الأميركية، من خلال منظمات حزبية في مدن مثل نيويورك وبوسطن وشيكاغو ــ بدأت ثقافتهم تترسخ كجزء من الثقافة الأميركية إلى درجة دفعت كثيراً من الأميركيين غير الأيرلنديين إلى الانخراط في الثقافة الأيرلندية والمشاركة بالعادات والتقاليد معهم.   

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

معظم الأميركيين سيعرفون على الأقل الكلمات الافتتاحية لأغنية "داني بوي" Danny Boy، من دون أن يدركوا أن كلماتها كان كتبها رجل إنجليزي. في السنوات بين 1970 و1980، كان موضوع المسلسل الدرامي "أمل راين" Ryan’s Hope، يركز على تجارب ومعاناة الطبقة العاملة للأيرلنديين الأميركيين في مدينة نيويورك، فيما ركزت برامج أحدث، مثل المسلسل الكوميدي "روزان"، والمسلسل الذي جاء بعده، "ذا كونورز" The Conners، على حياة عائلة أيرلندية أميركية من الطبقة العاملة. وليس عن طريق الصدف أن يكون أحد نجوم البرنامج الأخير قام بلعب دور النجومية أيضاً في النسخة الأميركية من فيلم "شايملس" Shameless، الذي يسرد قصة عائلة أيرلندية أميركية فقيرة تعيش على الجانب الجنوبي لمدينة شيكاغو ــ وهي مدينة تقوم بصبغ نهرها باللون الأخضر في مناسبة يوم عيد القديس باتريك (شفيع الأيرلنديين). (لا بد من الإشارة إلى أن كل التقاليد التي ارتبطت بعيد القديس باتريك كانت بدأت في أميركا!).

ويعتبر هؤلاء الأيرلنديون الأميركيون أساس الطبقة العاملة البيضاء الأميركية، وهم يشكلون قوة انتخابية بسبب تصويتهم ككتلة لا يمكن لأي من الحزبين الأميركيين الرئيسين أن يتجاهلها. وهناك سبب يدفع السياسيين والرؤساء من الحزبين الرئيسين إلى الشعور أيضاً بأن لديهم مصلحة ليس فقط من خلال السعي إلى كسب ود الناخبين الأيرلنديين في وطنهم، بل أيضاً العمل من أجل الترويج لإحلال السلام في أيرلندا الشمالية.

إن مشاعر الألفة التي يكنها الأميركيون للجمهورية الأيرلندية تترفع عن الانقسامات الحزبية الأميركية. إنها قرابة تم صهرها من خلال الدماء المشتركة، ولكنها تكونت أيضاً من خلال النضال المشترك من أجل الاستقلال وحق تقرير المصير الذي خاضه الأميركيون والأيرلنديون ضد البريطانيين. حتى إن بعضاً منهم يرى البريطانيين كقوة احتلال [لأيرلندا الشمالية]، وإحدى صديقات والدتي تضع شعاراً على سيارتها يقول:" 26+6=1"، وهذه إشارة حادة ومباشرة إلى دعمها اتحاد أقاليم أيرلندا الشمالية الستة مع أقاليم الجمهورية الـ26 [ضمن دولة واحدة].

كل ذلك يجب تذكره عندما نتحدث عن زيارة الرئيس جو بايدن إلى بلفاست. كان بايدن نشر تغريدة في عام 2020 تقول "إنه لا يمكننا السماح أن يصبح اتفاق الجمعة العظيمة للسلام في أيرلندا الشمالية ضحية بسبب ’بريكست’". وأضاف أن أي "اتفاق تجاري بين الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة، لا بد أن يكون مشروطاً باحترام ذلك الاتفاق ومنع عودة أي حدود فعلية فاصلة. نقطة على السطر".

إن زيارة بايدن حملت في طياتها ذلك التهديد إلى الحكومة البريطانية في ويستمنستر، فيما لا يزال حزب المحافظين البريطاني مصراً على أمله بأن ينجح في التوصل إلى اتفاق للتجارة الحرة مع أميركا. وجهة النظر الأميركية تعتبر استمرار العمل بحرية انتقال البضائع والبشر بين حدود البلدين في الجزيرة الأيرلندية أمراً أساسياً، وذلك ليس فقط بسبب نظرة الولايات المتحدة المحقة إلى اتفاق الجمعة العظيمة على أنه نصر للدبلوماسية الأميركية فحسب، بل أيضاً لأن الولايات المتحدة الأميركية لطالما كانت مشككة، في أفضل الأحوال، بالتدخل البريطاني في شؤون الجزيرة الأيرلندية.

من جانبها على الولايات المتحدة الأميركية مواصلة العمل من أجل تحقيق التوازن المطلوب. إن بروتوكول أيرلندا الشمالية الذي تم التوصل إليه بين الحكومة البريطانية والاتحاد الأوروبي يضمن أنه لن يكون هناك حدود بين جمهورية أيرلندا وإقليم أيرلندا الشمالية. لكن حزب الوحدويين الديمقراطيين كان متردداً في المصادقة على إطار ويندسور Windsor Framework، الذي يعمل على خلق خطي سير واحد للبضائع من المملكة المتحدة إلى أيرلندا الشمالية (وآخر للبضائع المتجهة إلى جمهورية أيرلندا أي الاتحاد الأوروبي)، خشية من أن يؤدي الاتفاق الإطار إلى قطع الاتصال بين الإقليم وبقية أجزاء المملكة المتحدة.

إن حزب الوحدويين الديمقراطيين الأيرلندي كان انسحب من اتفاق تقاسم السلطة في عام 2021، مما أدى إلى الإطاحة بالحكومة المحلية في أيرلندا الشمالية. من ناحيته دعا الرئيس بايدن إلى عودة الأطراف إلى اتفاق تقاسم السلطة في ستورمونت، لكن كلماته قد لا تكون مسموعة من قبل حزب الوحدويين الديمقراطيين، لأن كثيراً من أعضاء الحزب ينظرون إلى بايدن بريبة، وعلى أنه ينحاز إلى دبلن وبروكسل. وهذا من شأنه أن يظهر محدودية التأثير الأميركي في أيرلندا الشمالية.

في المقابل إن الزيارة ربما كانت مناسبة للتذكير بأن الأميركيين والاسكتلنديين الأيرلنديين (Ulster-Scots) [مجموعة عرقية موجودة في مقاطعة ألستر في شمال أيرلندا] يتشاركون بعلاقة خاصة أيضاً. فهناك نصب في منطقة لارن Larne، يقوم كذكرى للرحلة البحرية لسفينة  Friends’ Goodwill، التي كان على متنها 52 راكباً، معظمهم كانوا من اسكتلنديي ألستر، في ترحالها إلى بوسطن، وهو ما كان افتتاحية لموجة هجرة لأكثر من 300 ألف اسكتلندي من ألستر إلى العالم الجديد في القرن الـ18. إن المتحدرين من هؤلاء المهاجرين الأوائل اليوم يعيشون في كل الولايات، ولكن يمكن العثور عليهم على وجه الخصوص في منطقة "الأبلاشيان ماونتينز" Appalachian Mountains، وفي محيطها.  

إن هذه الروابط يتم استثمارها وتقويتها من خلال منظمات مثل ندوة التراث للأميركيين المتحدرين من ألستر Ulster-American Heritage Symposium، ومركز ميلون لدراسات الهجرة the Mellon Centre for Migration Studies. وعلينا، إذا طلبت الأحزاب الأيرلندية منا ذلك، أن ندرس إمكانية استخدام تلك الروابط للمساعدة في التوصل إلى اتفاق تتعلق بتسويات ما بعد بريكست.  

إن اتفاق الجمعة العظيمة على رغم كل شيء، يبقى واحداً من أعظم الإنجازات الدبلوماسية للولايات المتحدة الأميركية. لقد تم التفاوض على ذلك الاتفاق بجزء كبير منه بالاستناد إلى العلاقات الأميركية مع القوميين الأيرلنديين [الكاثوليك]. واليوم إن صلة القرابة مع الوحدويين [البروتستانت المؤيدين لبريطانيا]، قد تسمح لنا أن نلعب دوراً مشابهاً في الوساطة لحل أزمات ما بعد بريكست.

© The Independent

المزيد من آراء