ملخص
فلاحو تونس يلجأون إلى حفر المواجل في محاولة للتأقلم مع ندرة الموارد المائية
في محافظة الكاف الواقعة شمال غربي تونس، قام حمادي وهو فلاح، بحفر ماجل (بئر) أخيراً من أجل تجميع المياه وتخصيصها لمواشيه وأبقاره المهددة بالعطش في ظل أزمة الجفاف التي تواجهها بلاده، وهي الأشد منذ حوالى أربع سنوات.
وقال حمادي (58 سنة) إن "الوضع لا يبشر بالخير، مرت أكثر من سبعة أشهر على الأقل من دون تسجيل أية تساقطات هنا على رغم أن الكاف مدينة فلاحية أساساً، هذا الوضع يدفعنا إلى البحث عن بدائل لتأمين مياه حيواناتنا على الأقل".
وفرضت السلطات التونسية أخيراً عدداً من القيود على استغلال الماء الصالح للشرب في مسعى منها للحد من تداعيات شح المياه، لكن ذلك لم يثن المزارعين عن البحث عن حلول بديلة لتأمين حاجاتهم وحاجات حيواناتهم، خصوصاً مع التهاب أسعار الأعلاف، كما يوضح حمادي.
وكشفت السلطات في وقت سابق في بيانات لها أن المياه المخزنة في سد سيدي سالم الواقع في شمال البلاد، وهو المزود الرئيس لمياه الشرب لمناطق عدة، انخفضت إلى 16 في المئة فقط من طاقته القصوى البالغة 580 مليون متر مكعب.
عودة قوية للمواجل
وتأتي خطوات الفلاحين في تونس باللجوء إلى المواجل (الآبار) لمواجهة شح المياه، وسط توقعات بموسم حبوب كارثي على رغم المساحات الشاسعة الصالحة للزراعة في البلاد، وتقدر هذه المساحة بحوالى 300 ألف هكتار، لم تحصن الفلاحين من الاكتواء بنار أسعار الأعلاف التي ترتفع بسبب ندرتها جراء الجفاف.
وتحتكر السلطات توريد الحبوب ومادة السداري المدعومة التي يستغلها المربون كعلف لمواشيهم، ومن غير الواضح ما إذا كانت ستقر إجراءات في شأن هذه المواد للتحكم بأسعارها التي قد يزيد ارتفاعها في متاعب المربين، لا سيما في ظل الأزمة الاقتصادية التي تئن تحت وطأتها تونس أصلاً.
ويقول حمادي إن "الوضع صعب للغاية، إذا كان سيستمر هكذا قد نفقد مواشينا، لا سيما أننا لم نعد قادرين على مقاومة أسعار الأعلاف التي ترتفع بشكل يومي سواء مادة السداري أو غيرها".
من جانبه، يستعد جار حمادي، منصف الجباري، إلى حفر ماجل لتخزين المياه لاستخدامه في أغراض فلاحية وأيضاً في شؤون المنزل مثل التنظيف.
ويقول الجباري (62 سنة) "بالإمكان ملء الماجل سواء بشراء أسطوانات من المياه أو بمياه الأمطار، لأن الوضع الراهن يبعث القلق حتى على المياه الصالحة للشرب لنا، فما بالك بحيواناتنا، سنكابد من أجل إنقاذها خصوصاً مع دخول الصيف الذي قد يكون أشد حراً من سابقيه".
ولا تلوح في الأفق بوادر انفراجة لا سيما مع تقلص التساقطات وهو ما ينذر بأيام صعبة على التونسيين، وهو ما جعل مراقبين يثمنون اللجوء إلى المواجل كبديل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقال كاتب الدولة للموارد المائية السابق في تونس، الخبير المائي، عبدالله الرابحي، إن "هناك عودة قوية للمواجل وهي من الأشياء الصالحة لكل زمان ومكان، وحتى في دول مثل فرنسا يتم الآن اللجوء إلى المواجل التي تعد حلاً من الحلول".
وتابع الرابحي أن "المواجل موجودة في مدن عدة في تونس مثل القيروان وجربة وصفاقس، وهي تقنية قادرة على حل جزء من المشكلة على الأقل على مستوى المياه الصالحة للشرب، أما بالنسبة إلى الفلاحة فالمواجل لن تحل المعضلة كما يلزم، لكنها تبقى حلاً في حال تعميمها شأنها شأن تقنيات أخرى مثل جسور المياه التي قد تكون حلاً في هذا الوضع".
وشدد على أن "الحال صعبة جداً على رغم أن الجفاف ليس محصوراً بتونس فقط، لكن الوضع في تونس أصعب وعليه يجب التحرك لتأسيس فلاحة قادرة على تحدي الجفاف بتغيير علاقتنا بالماء، هناك أزمة وستطول لذلك يجب التفكير في التأقلم معها".
ورأى الرابحي أنه "يجب على الدولة أن تشجع حفر المواجل وحتى أن تجبر الناس على حفرها، لأنه حتى لو سجلت البلاد تساقطات قليلة فستخفف حتماً الضغط".
من جانبه، اعتبر رئيس المرصد التونسي للمياه، علاء المرزوقي، أن "اللجوء إلى المواجل شيء مفرح حقيقة، هناك عودة لهذه التقنية ولتقنيات أخرى بهدف تخزين المياه، وهو أمر مهم وعلى الدولة أن تنزل بكل ثقلها لدعم هذه التجارب". ويتساءل "لم لا يتم إطلاق برنامج وطني للتشجيع على هذه الآليات لتجميع المياه ومياه الأمطار التي من شأنها مساعدتنا في الاستعمال الشخصي للمياه مثل التنظيف وغيره؟".
وقال المرزوقي "على الدولة تحسين خط التمويل الذي أطلقته في السابق لتمويل مثل هذه المبادرات وتمكين الناس من قروض من دون فوائد لأن الاستثمار في المياه في تونس بصدد التراجع، خصوصاً أن الوضع صعب".
ضرر كبير
وتأتي هذه التطورات بعد إقرار السلطات التونسية سلسلة من الإجراءات في الفترة الاخيرة بهدف الحد من آثار الجفاف، وقالت شركة توزيع المياه الحكومية في مارس (آذار) الماضي، إنها ستقطع المياه الصالحة للشرب لسبع ساعات يومياً في كل أرجاء البلاد.
وجاء إعلان الشركة وقتذاك بالتزامن مع إعلان مماثل لوزارة الفلاحة، قالت فيه إنها ستبدأ اعتماد نظام الحصص للتزود بالمياه الصالحة للشرب ومنع استخدامها في الزراعة، وهو ما قد تكون له تداعيات على الفلاحين.
وقال المرزوقي إن "هناك ضرراً كبيراً حصل للفلاحين خصوصاً في الزراعات السقوية، وهناك شكاوى منهم الآن بخاصة بعد منع ري زراعات معينة وهو أمر كان ضروريا في الواقع، لذلك يجب إنجاز خريطة إنتاج فلاحي، وهي باتت ضرورة في بلد يعيش حالة طوارئ مائية وجفافاً متواصلاً منذ أربع سنوات".
ولفت إلى أن "خريطة الإنتاج الفلاحي اللازمة من شأنها أن تحدد أولوياتنا في استعمال المياه وتنظيم القطاع الفلاحي والزراعات التي تعد من أكبر المستهلكين للمياه، وتحديد كل مدينة وحاجاتها المائية وإمكاناتها".
وفي مؤشر على حجم المخاطر التي تواجهها البلاد لا سيما في ظل المشكلات الاقتصادية، أرسلت الولايات المتحدة شحنة من القمح مساعدة إلى تونس، لكن هذه الشحنة لن تكون كافية بحسب مراقبين، لتلبية حاجات التونسيين لا سيما في ظل التكهنات الواسعة بأن أزمة الجفاف قد تطول.
وقال المرزوقي إن "الوضعية ستستمر بهذا النسق ولا نعرف مآلاته خصوصاً أن المساعدات الخارجية لا تكفي أصلاً، فالمساعدة الأميركية من القمح التي رصدت إلى البلاد لا تكفي لاستهلاك ثلاثة أيام".
وشدد المتحدث على أن "هناك أمراً آخر يمكن للسلطات أن تلجأ إليه أيضاً، وهو تغيير نمط استهلاك التونسيين بالتقليص من التبذير سواء في الخبز أو الماء أو غيره".
سياسات وقوانين للمراجعة
وعلى رغم أنها حصرت خياراتها في ترشيد استهلاك المياه، إلا أن خبراء في تونس يقولون إن السلطات أمامها عديد من الخيارات الأخرى التي يجب المراهنة عليها لحل معضلة المياه.
وقال الرابحي "يجب توفير موارد سواء مالية أو غيرها ويجب تغيير القوانين وسياساتنا وحتى عقليتنا، خصوصاً أن هناك دراسة حول الماء لأفق 2050 في تونس يجب العودة إليها".
وحذر من أنه "ستكون هناك أعوام جفاف، وستكون هناك سنة أو سنتان فيهما أمطار غزيرة تصل حد الفيضانات، على الدولة استغلال تلك الأعوام بتخزين المياه سواء في السدود أو المواجل أو غيرهما، يجب التأقلم مع ندرة الموارد المائية".