Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جلال برجس يسرد فصولا جريئة من سيرة الماضي

"نشيج الدودوك" كتاب يقارب الرواية وينفتح على أدب الرحلة

الماضي بريشة الرسام مورو (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

"نشيج الدودوك" كتاب يقارب الرواية وينفتح على أدب الرحلة

كتاب جديد للروائي الأردني جلال برجس عنوانه "نشيج الدودوك" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) يحمل على غلافه توصيفاً هو "سيرة روائية"، وهذا مصطلح يجمع بين السيرة والسرد الروائي، وقد صدر (ويصدر) تحته عدد كبير من الأعمال الأدبية في الغرب والعالم العربي. وقد أضاف برجس إليه مادة أخرى تتمثل في أدب الرحلة، المعروف جداً.

يقوم الكتاب على مجموعة جدليات فرعية، من قبيل: المعيش/ المقروء، الداخل/ الخارج، الوقائع/ الذكريات، السرد/ الوصف، الماضي القريب/ الماضي البعيد، القرية/ المدينة، الوطن/ العالم، الجنوب/ الشمال، وغيرها. والنص هو نتاج التجادل والتفاعل بين طرفي كل من هذه الثنائيات، من جهة، وبين الثنائيات المختلفة، من جهة ثانية. على أنها تنتظمها جميعاً جدلية السيرة/ الرواية. فأين تتمظهر سيرية الكتاب؟ وكيف تتحقق روائيته؟

تتمظهر السيرية في "نشيج الدودوك" في محطات كثيرة من سيرة صاحبه، تنتمي إلى مراحل عمرية مختلفة بين الطفولة والكهولة، وبالتحديد بين السنتين السابعة والثانية والخمسين من العمر. وإذا جاز لنا اختصار هذه السيرة بعبارة واحدة أمكن القول إنها معركة الكاتب مع الضجيج الجواني الذي داهمه، ذات صيف في قريته حنينا، وله من العمر سبع سنوات، ولازمه في السنوات الأخرى من حياته، وكان عليه أن يجترح سبل مواجهته المختلفة، قراءة وكتابة وموسيقى وسفراً، وغيرها، حتى إذا ما أصغى إلى "نشيج الدودوك"، وهو في الثانية والخمسين من العمر، في مدينة يريفان الأرمينية، وتأكد أن ذلك النشيج هو نفسه الذي كان يأتي من داخله منذ الطفولة، يتصالح مع ضجيجه الجواني ويتحرر منه.

تتراوح المحطات بين عادية نقع عليها في السيرة الذاتية العربية، بشكل أو بآخر، وأخرى تشكل علامات فارقة في حياة صاحبها، وقلما نقع عليها في السيرة الذاتية العربية، لاعتبارات معينة، أما العادية فتتعلق بالولادة والأسرة والنشأة والدراسة والعمل والسفر والاهتمامات الثقافية وغيرها، وتنطبق على معظم محطات السيرة. وهي، في حالة برجس، تتناول: ولادته في الثالث من يونيو (حزيران) 1970 في قرية حنينا المجاورة لمدينة مادبا الأردنية، نشأته في أسرة بدوية/ ريفية، دراسته الإعداية في حنينا، دراسته الثانوية في مادبا، دراسته الجامعية في الكلية العسكرية، تجاربه الأولى في مجالات مختلفة، علاقته بالأشياء، عاداته اليومية، مؤلفاته الروائية، منظوره إلى القراءة والكتابة، أسفاره التدريبية والثقافية، وغيرها. وهذه المحطات منتشرة في السيرة بالمفهوم العربي التي تحاذر الاقتراب من الممنوعات.

علامات فارقة

أما المحطات الفارقة، وهي الأقل في الكتاب، فتقترب من السيرة بالمفهوم الغربي التي تقوم على التعري والسفور وتسمية الأسماء بأسمائها، وهنا تكمن سيرية السرد. وفي هذا السياق، لا يتورع الكاتب عن الاعتراف بوقائع معينة، يتجنب كتاب السيرة العرب الخوض فيها، باستثناء قلة منهم يشكل الروائي المغربي محمد شكري في "الخبز الحافي" سقفهم الأعلى، ومن هذه الوقائع: تلقيه صفعة من امرأة عارية، في السادسة من العمر، شاهدها تزيل شعر عانتها بالمعجون (ص 38). استغراقه عشر سنوات للتخلص من عادة التبول على نفسه في الفراش (ص 74). حيلولته صبياً دون قيام أبيه الغاضب بضرب أمه، "قفزت بعجالة، ووقفت بينهما كقط بين ذئب وغزالة" (ص 49). ارتداؤه ملابس من "البالة" حتى بلوغه الثالثة عشرة من العمر حين ارتدى ملابس جديدة للمرة الأولى في حياته (ص 113). اعترافه بعدم النجابة في مرحلة الدراسة في الكلية العسكرية (ص 125). افتقاره للمال لشراء الخبز، ذات ليلة عاصفة، ولجوؤه إلى تبليل خبز يابس للأكل (ص 188)، وغيرها. ولعل قيام الكاتب بالكشف عن وجهه الحقيقي، من خلال هذه الوقائع، ينطوي على جرأة ملحوظة في عالم يقدم الأقنعة على الوجوه، ويجترح فيه بعض كتاب السيرة بطولات خارقة، ويحاذرون الكشف عن وجوههم الحقيقية.  

يتخذ برجس من الوقائع العادية والعلامات الفارقة، آنفة الذكر، مادة أولية، يعيد تشكيلها في قالب روائي، يستخدم فيه تقنيات السرد الروائي، ينتقل بين المشاهد الروائية، على تنوع الأزمنة والأمكنة والأنماط، بسهولة ويسر. يطيح علاقة التماهي بين الروائي والراوي. يحول صاحب السيرة والشخوص المتعالقة معه إلى شخوص روائية. يطيح وهم المطابقة بين المعيش والمروي. ينسف الخطية الزمنية للأحداث. يؤثث الفضاء بما تجود به المخيلة من تفاصيل وجزئيات. ويستخدم لغة أدبية تصويرية تلامس الشعر في بعض مستوياتها. وبذلك، نكون إزاء رواية سيرية بكل ما للكلمة من معنى.

الإطار والمحتوى

بإسقاط هذه التحققات على النص، أسارع إلى القول إن جلال برجس يتخذ من ثلاث رحلات، يقوم بها إلى الجزائر وبريطانيا وأرمينيا، لأسباب مختلفة، إطاراً روائياً، يروي فيها مشاهداته وانطباعاته، من جهة، ويستعيد، من خلال هذا الإطار محطات ووقائع من سيرته، من جهة ثانية. ولا تتحقق الروائية في الجانب الإطاري فقط، بل تتعداه إلى المحتوى السردي الذي يتحرك فيه السارد بين المشاهد السردية، ويعقد مقارنات بين ثنائيات مختلفة، مكانية وزمانية ومعيشية ومعرفية. وإذ يصطحب في كل رحلة كتاباً يقرؤه، يضيف إلى حركة السرد حيزاً جديداً، فيتحرك بالتناوب بين المعيش في الرحلة المعنية والمقروء في الكتاب المصاحب له. وبذلك، تتحول الرحلة إلى فرصة روائية تشتمل على المشاهدات والانطباعات والوقائع والذكريات والقراءات في الوقت نفسه وتصبح رحلة في المكان والزمان والذات والذاكرة والخيال والكتاب.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في رحلته إلى الجزائر ضيفاً على المعرض الدولي للكتاب، يصطحب معه رواية "الغريب" لألبير كامو، فيتحرك السرد بالتناوب بين المعيش الرحلي والمقروء الروائي. ويستعيد السارد من خلال، هذه الحركة المكوكية بين الحيزين، وقائع عاشها وذكريات حملها، تدخل فيها البدايات الأولى المتعلقة بالمكان والمرأة والقبلة والمدرسة والكلمة والقراءة والأشياء. وتشتمل على علاقاته الأسرية ومنظوراته إلى القراءة والكتابة والرواية.

في رحلته إلى لندن لدورة تدريبية، يصطحب رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح، ويروح يتنقل بين وقائع الرحلة وسطور الرواية. ويستعيد، من خلال هذا التنقل، ذكريات ووقائع تتعلق بدراسته في القرية والمدينة، وانشغاله عن واجباته المدرسية بالقراءة، ووظيفة القراءة والكتابة، وخدمته العسكرية في الصحراء الأردنية، وعلاقاته الثقافية الأولى، والروائح المفضلة لديه، ومحورية العم عزيز في حياته، وغيرها.

في رحلته إلى أرمينيا للمشاركة في مهرجان أدبي، يصطحب معه كتاب "داغسان بلدي" لرسول حمزاتوف، ويمارس ما فعله في الرحلتين الأخريين من تنقل مدروس بين الرحلة والكتاب، ويستعيد وقائع وذكريات أخرى، يتصل بعضها بـ"وضع الموت يده في قدرهم"، على حد تعبير جدته، من خلال موت الأم والأب والأعمام تباعاً. ويتصل بعضها الآخر بالأسباب المباشرة لكتابة رواياته والجوائز التي نالها. وهكذا، تتمظهر الروائية في الإطار الذي تمثله الرحلات الثلاث، وفي المحتوى السيري المنسوج على نول الرواية. وبذلك، يصيب جلال برجس، في "نشيج الدودوك"، عصفورين اثنين بحجر واحد، يروي محطات من سيرته الذاتية، من جهة، ويضعها في قالب روائي جميل، من جهة ثانية، فيربح الرواية ولا يخسر السيرة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة