ملخص
يتسارع التحقيق الفرنسي في شأن الثروة التي يملكها حاكم مصرف لبنان في أوروبا بعدما استدعته قاضية فرنسية للمثول أمامها في 16 مايو بجلسة يرجح أن يوجه خلالها الاتهام إليه
تقترب الوفود القضائية الأوروبية التي تقوم بجولتها الثالثة في لبنان من إنهاء جلسات الاستماع إلى إفادات الشهود في ملف حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة والشبهات الواسعة التي تدور حول ثروته وارتكابه جرائم مالية، ولا سيما الشبهات في استخدام شركة "فوري أسوشييتس" المسجلة في الجزر العذراء لتحويل أموال من لبنان إلى دول أوروبية تقدر بـ330 مليون دولار يشتبه في اختلاسها من المصرف المركزي من خلال عقد منح للشركة المذكورة ونيلها عمولات غير مشروعة من بنوك محلية.
وانقسمت الجولة الثالثة من زيارة الوفود إلى مرحلتين، الأولى مع شقيق الحاكم رجا سلامة الذي تغيب عن الحضور بعذر طبي، ومساعدة الحاكم ماريان الحويك التي طرح عليها المحققون على مدى يومين ولأكثر من خمس ساعات ما يقارب من 60 سؤالاً بصفة شاهدة حول الحسابات العائدة لها وللحاكم وشقيقه رجا في مصارف أوروبية ولبنانية، والتي تحوم حولها شبهات غسل الأموال، والبحث في مصادر الثروة المالية لكل منهم، وغيرها من الأمور التي تتعلق بعملها كمستشارة تنفيذية ممتازة للحاكم منذ أبريل (نيسان) 2020.
ومن المتوقع أن تكون المرحلة الثانية من التحقيقات الأوروبية مع مدير التنظيم والتطوير في مصرف لبنان رجا أبو عسلي ووزير المال الحالي في حكومة تصريف الأعمال يوسف الخليل كونه تولى منصب مدير العمليات المالية سابقاً في مصرف لبنان، والذي أكدت مصادر مقربة منه أنه لن يحضر جلسة الاستماع بطلب من رئيس البرلمان نبيه بري ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي.
وتشير المعلومات إلى أن الوفود القضائية باتت مقتنعة بأن وزير المال يتهرب من المثول أمامها من خلال تذرعه بعدم تبلغه أصولاً، علماً أنهم يعتبرون أن الأصول القانونية في تبلغه اتبعت عبر مدعي عام التمييز من ثم عبر المساعدين القضائيين وفقاً لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد الموقع عليها لبنان، بالتالي تسقط كل أنواع الحصانات حتى لو كان المستدعى وزيراً أو نائباً.
جلسة الادعاء
وكان لبنان قد تسلم استنابة قضائية صادرة عن أود بوريزي نائبة الرئيس المكلف التحقيق في المحكمة القضائية بباريس، بهدف تبليغ رياض سلامة بالحضور أمام محكمة باريس بتاريخ 16 مايو (أيار) 2023 الساعة التاسعة والنصف صباحاً، حيث تم إبلاغه وفق الأصول القانونية، إلا أن مصادر مقربة من سلامة أشارت إلى أنه لم يحسم أمر مثوله.
وأوضحت أن سلامة واثق من براءته، وقد مثل أمام الوفود القضائية الأوروبية، ومن ضمنهم القاضية بوريزي، وأجاب حينها على 197 سؤلاً وجهت إليه، أما مسألة مثوله مجدداً فهو أمر مرجح، لكن حسمه مرتبط بحيثيات قانونية سيحسمها فريقه القانوني في الأيام المقبلة.
ولفتت إلى أن سلامة يتمتع بحصانة دستورية كون حاكمية مصرف لبنان تعد من المواقع السيادية في البلاد، بالتالي هناك استحالة لتوقيفه أثناء مثوله أمام المحاكم الفرنسية، إلا أن الادعاء عليه سيخلق حرجاً دبلوماسياً مع لبنان ويؤدي إلى أضرار معنوية بالمصرف المركزي، حيث قد يؤدي اتهام الحاكم إلى "شبه قطيعة" مالية بين كثير من المصارف المركزية الدولية والمركزي اللبناني.
10 سنوات
وفي السياق يشير قاضٍ في النيابة العامة التمييزية (غير مخول بالتصريح) إلى أن تلك الإجراءات لن تنتهي قبل 7 إلى 10 سنوات، بالتالي "هذه الادعاءات ستبقى سيفاً مسلطاً على لبنان ربما لفرض مقايضات سياسية"، لافتاً إلى أن النظام القضائي الفرنسي شبيه بلبنان لناحية الهامش الواسع المعطى للنيابات العامة، التي يحق لها الادعاء والسير بالإجراءات القضائية بشبهات وإن لم تكن قاطعة، الأمر الذي ينتج عنه براءة لنحو 30 في المئة من المدعى عليهم بعد محاكمتهم. وبين أن النيابات العامة في الولايات المتحدة الأميركية لا تستطيع الادعاء من دون أدلة شبه قاطعة، حيث تتجاوز نسبة ثبوت الادعاءات الـ90 في المئة أمام المحاكم، الأمر نفسه في اليابان حيث لا تتجاوز البراءة من الادعاء نسبة 2 في المئة أمام المحاكم.
وبرأيه فإن هذا التحقيق القضائي الذي بدأ في يوليو (تموز) 2021 في فرنسا، بالتوازي مع إجراءات قضائية أخرى في أوروبا وسويسرا، سيدخل المرحلة الثانية بعد الجلسة المخصصة للاستماع إلى سلامة في 16 مايو الحالي، إذ في حال الادعاء عليه تبدأ مرحلة أكثر جدية في الملاحقة بصفة متهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أجندة دولية
ويرى المتخصص الاقتصادي منير يونس أن قضية تغيير حاكم مصرف لبنان باتت على رأس الأجندات الدولية، معتبراً أن حاكمية مصرف لبنان تعد موقعاً استراتيجياً بالنسبة للأميركيين المعنيين بهذا القطاع من ناحية "دولرة" الاقتصاد وتتبع استخدام الدولار في لبنان والمنطقة، كون القطاع المصرفي اللبناني متفرعاً في عدد كبير من الدول العربية والإقليمية، إضافة إلى مراقبة تحركات "حزب الله" الذي تم تصنيفه إرهابياً وتحاول تعقبه مالياً ومنعه من اختراق النظام المصرفي اللبناني والولوج من خلاله إلى النظام العالمي.
في حين يعتبر أن الاهتمام الفرنسي المستجد مرتبط بالشركات الفرنسية العملاقة التي لديها مشاريع وخطط مستقبلية استثمارية في البلاد، وأبرزها شركة "توتال" التي ستبدأ التنقيب عن الغاز، حيث يتوقع أن تنتج تدفقات مالية ضخمة، تحتاج إلى قطاع مصرفي شفاف ويحظى بثقتهم.
وعلى رغم اعترافه بإمكانية استغلال سياسية من قبل إدارة إيمانويل ماكرون للملاحقات التي يتعرض لها القطاع المصرفي اللبناني، فإن يونس مقتنع باستقلالية القضاء الفرنسي، مشيراً إلى أن سلامة يمتلك أسرار المنظومة الحاكمة في لبنان، وأن سلامة وحده قادر على إسقاط أركانها الأساسية، عبر كشف جميع المعلومات التي بحوزته، الأمر الذي برأيه يصب في مصلحته ومصلحة لبنان.
رأس سلامة
وتوقفت أوساط سياسية عند ما تعتبره مبالغة فرنسية في الإجراءات القضائية، مقارنة مع الدول الأوروبية الأخرى، ومنها ألمانيا ولوكسمبورغ وسويسرا، التي تلاحق أيضاً سلامة وعدة أشخاص على صلة به بشبهات تبييض أموال، إذ برأيها تشكل تلك المبالغة شكوكاً أبعادها تتخطى الارتكابات التي يواجهها سلامة. وتربط بين الضغوط الكبيرة على سلامة والتشعبات التي باتت تطاول القطاع المصرفي بمجمله في لبنان، وبين المصالح الاقتصادية الفرنسية المتنامية أخيراً، والتي بدأت تظهر بوضوح في مرفأ بيروت ومرفأ طرابلس واستثمارات شركة "توتال"، إضافة إلى شركة طيران الشرق الأوسط، وغيرها من القطاعات الاستراتيجية.
وفي رأي تلك الأوساط فإن رأس سلامة مطلوب في فرنسا لعدة لاعتبارات منها سياسية، وأخرى قضائية، لافتة إلى أن أحد طموحات إدارة الرئيس الفرنسي إعادة الربط بين المصرف المركزي اللبناني والنظام المالي الفرنسي بعد أن انقطعت تلك الصلة في عام 1963 عقب إنشاء مصرف لبنان وفصله عن البنك المركزي اللبناني والسوري، حيث بدأ ربط الليرة اللبنانية تدريجاً بالدولار الأميركي وبروز الاهتمام الأميركي بنظام لبنان المالي.
حاكم جديد
وبات شبه محسوم استحالة تمديد ولاية سلامة، التي تنهي بداية يونيو (تموز) 2023، الأمر الذي يدخل البلاد في جدل دستوري وقانوني حول إمكانية تعيين حاكم جديد في ظل حكومة تصريف أعمال واستمرار الشغور في موقع رئاسة الجمهورية، ووفقاً لرئيس "جمعية العمل اللبنانية لمكافحة الفساد" المحامي لؤي غندور، فإن "حكومة تصريف الأعمال تقوم بأعمال بالمعنى الضيق، أي لا يمكنها أن تتخذ قرارات كبرى مثل تعيين حاكم للمصرف المركزي"، معتبراً أن قانون النقد والتسليف، يشير بوضوح إلى تولي نائب حاكم مصرف لبنان الأول وسيم منصوري صلاحيات الحاكم في حال شغور المنصب.
لكن المعطيات تشير إلى أن منصوري سيقدم استقالته فور نهاية ولاية سلامة رفضاً لتولي المنصب موقتاً لأسباب لها علاقة بالتوازنات الطائفية في البلاد، وبناءً على ذلك برأي غندور، فإنه "من الممكن أن يحدث تسييراً موقتاً للمرفق في هذه الحالة، عبر التعيين أو التكليف، إلى حين انتخاب رئيس وتشكيل حكومة جديدة.
ويتم تداول مجموعة من الأسماء لتولي حاكمية مصرف لبنان، ومن أبرز هؤلاء الوزير السابق كميل أبو سليمان الذي يحظى بتأييد واسع في لبنان، إضافة إلى علاقته مع صندوق النقد الدولي ودول مؤثرة في الشأن اللبناني، كذلك يتم التداول بأسماء عديدة منها وزير الاقتصاد الأسبق منصور بطيش، وهو مقرب من "التيار الوطني الحر"، وأيضاً المصرفي سمير عساف، وهو الرئيس التنفيذي للخدمات المصرفية العالمية والأسواق لمجموعة "أتش أس بي سي"، ويحظى بدعم فرنسا، وكذلك المستشار السابق في وزارة المال هنري شاوول.