Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المغربي كبور فرتاد ينشر ديوانه الأول في الرابعة والسبعين

 يكتب منذ السبعينيات مرافقا حركة الحداثة ومعلنا موت الأحلام القديمة

"المسافر الذي يتأمل البحر" للرسام الألماني كاسبار ديفيد فردريش (متحف هامبورغ)

ملخص

منذ السبعينيات والشاعر المغربي كبور فرتاد  يكتب قصائد ويخفيها. وحين كان أصدقاؤه يلحون عليه من أجل النشر، متسائلين عن مصائر تلك القصائد، كان يقول، "لقد قرأتها على البحر، ورميتها هناك"

منذ السبعينيات والشاعر المغربي كبور فرتاد (مواليد 1949) يكتب قصائد حديثة ويخفيها. وحين كان أصدقاؤه المقربون منه يلحون عليه من أجل النشر، متسائلين عن مصائر تلك القصائد، كان يقول، "لقد قرأتها على البحر، ورميتها هناك. أليس من حق الصخور والأمواج والرمال أن تقرأ؟".

تقاطع فرتاد منذ أواخر الستينيات مع الحداثة الشعرية العربية خلال دراسته الجامعية في مدينة فاس، برفقة عدد من الطلاب الذين صاروا في ما بعد رموزاً لجيل السبعينيات في المغرب. وطفق في تلك الفترة يكتب نصوصاً حديثة بعد أن نظم عدداً من القصائد العمودية على غرار معظم مجايليه. انخرط الشاعر خلال تلك الفترة في الحركة الطالبية وكان يرفع الشعارات ويحمل لافتات الاحتجاج في ساحة الجامعة وفي شوارع المدينة، قبل أن يدخل إلى معتزله الطويل، بعد انهيار أحلام ذلك الجيل، مردداً في دخيلته ما قاله عبداللطيف اللعبي عن تلك المرحلة "أين نحن من أحلام الشباب يا صديقي؟/ شئنا أن نفاجئ العالم/ ففاجأنا".

وفي الوقت الذي كان شعراء جيله يبذلون جهداً كبيراً كي يكون لهم موطئ قدم على أرض الشعرية العربية التي كان الحضور المشرقي فيها هو الطاغي، بذل كبور فرتاد في المقابل الجهد نفسه كي يخفي قصائده عن الآخرين. ثمة نوع من التوجس صاحب عدداً من الشعراء العرب وغير العرب الذين كانوا يكتبون الشعر لأنفسهم، ويترددون في نشره تردداً قد يدوم لسنوات، وقد ينسحب على العمر كله. ونستحضر هنا نموذج الشاعرة الأميركية إميلي ديكنسن التي لم تنشر طوال حياتها سوى سبع قصائد، في نطاق تداولي ضيق، بينما كتبت في حياتها 1800 قصيدة، وأوصت أختها لافينيا بأن تحرق تلك القصائد بعد موتها. غير أن رفض الأخت تنفيذ ذلك القرار هو ما جعل إيميلي ديكنسن تتحول إلى بوابة كبرى للشعر الأميركي برفقة مجايلها والت وايتمان. وفي العالم العربي كان الشاعر العراقي محمود البريكان، صديق بدر شاكر السياب، رمزاً للشعراء الذين اختاروا العزلة والهرب من المحافل الأدبية وميكروفونات الإعلام، والإصرار على عدم نشر كتبهم الشعرية. غير أن رحيله المؤسف مطعوناً بسكين سنة 2002 حوله إلى أحد أكثر رواد الحداثة الشعرية حضوراً في العالم العربي.

إن نموذج الشاعر المغربي كبور فرتاد الذي اختار ألا ينشر كتابه الشعري الأول إلا وهو على أعتاب الرابعة والسبعين من العمر، بعد خمسين عاماً من الكتابة السرية، يعيدنا إلى هذه النماذج التي ألفت نصوصاً عميقة وطافحة بالحكمة، في سياق من الزهد والتخلي، ذلك أن إلغاء المتلقي، أو في الأقل توسيع المسافة معه يتيح للكاتب مساحة إضافية من الحرية، مع إمكانية الاشتغال المستمر على النصوص، ما دام القارئ لم يطلع عليها بعد. في المقابل قد يقع الشاعر الذي اختار ألا ينشر نصوصه باكراً في مطب التجاوز، فالقارئ سيطلع متأخراً على نصوص كتبت في زمن سابق، بالتالي لم تخضع للتحولات التي عرفتها القصيدة الحديثة إن على مستوى حمولاتها الدلالية أو على مستوى الأبنية والأشكال.

اليأس ممزوجاً بالحنين

لكن الشاعر المغربي كبور فرتاد آثر أن يختصر المسافة على القارئ، وينشر فقط نصوصه الأحدث، بعد أن راكم قصائد عدة ما زال متشبثاً بعدم نشرها. كأنما يريد أن يقول لنا صحيح أنه كتب الشعر قبل خمسين عاماً لكنه ينتمي إلى العصر. ويمكن لقارئ عمله الشعري "الفيلسوف الذي أبحر في اليابسة"، الصادر حديثاً عن منتدى رع بالمغرب، أن يلمس معالم التحديث والمعاصرة في هذه التجربة، خصوصاً على مستوى الصور الشعرية المبتكرة، وعلى مستوى الإيقاع المفتوح.

يستهل كبور فرتاد كتابه الشعري "الفيلسوف الذي أبحر في اليابسة" بإهداء خاص "إلى التي أومأت إليَّ من المقصورة السابعة، فإذا بي في محطة من غبار". ولا يعرف القارئ إن كان الإهداء مرفوعاً إلى امرأة ما، أم إلى حياته التي تجاوزت سبعة عقود. وفي نصه الأول يرفع الشاعر ما يشبه البيان "حتى لو كتبت قصائدي بماء الذهب/ سيتخلون عني". كأنما يبرر كسله الطويل في النشر وإحساسه العميق بلا جدوى الكتابة. هاته الروح اليائسة تحضر بشكل لافت في نصوص الشاعر، ولا تخفف من حضورها سوى أسطر قليلة عن الحب والحنين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في نص عنوانه "مقبرة سفلى" يقول "لم يبق لنا من الأيام القادمة شيء". في المقطع الرابع من نص "رسائل" يعبر الشاعر بشكل مكثف لصديقه عن تغير الحال وانهيار أحلام الشباب "تعفن الماء يا صديقي/ لننشر هذا العطش على حبل أجسادنا/ المدفونة في سراديب المدينة". ينعى الشاعر موت الحلم القديم، ويصور ما آل إليه هو ورفاقه "نخيط دروبنا الممزقة بإبر الألم"، ثم يواصل جلد الذات، كأنما يريد أن يشعرنا بضآلة الوجود الإنساني "أنا حذاء ممسوخ في قدم الميتافيزيقا/ أكنس بعرة الاحتقار من زريبة جورج أورويل". في نص عنوانه "أنا لا أحب الحرب" ينتقد الشاعر ما آل إليه إنسان اليوم من تبلد للمشاعر غذته أشكال التطبيع مع صور العنف التي تنقلها وسائط الإعلام والتواصل كل يوم من مراكز العالم وأطرافه "من كثرة الجلوس أصبحت صخرة". ليس هناك ما يبشر بسطوع أمل في المستقبل، فالشاعر مصر على خطابه الفجائعي، المستقى مما يعيشه العالم اليوم من أهوال واضطرابات بعد آلاف السنين من الوجود البشري "العالم شيخ عجوز/ طأطأ رأسه للخراب/ وعلق تميمة نهايته في عنق جرافة".

الحب والسوريالية ضد بؤس العالم

في حمأة اليأس وغمرة القتامة يلمع من حين لآخر ضوء الحب، بما هو ملاذ، وبما هو بصيص ضوء صغير قادر على تبديد العتمة الهائلة، تناغماً مع قولة هنري وارد بيتشر "الحب هو نهر الحياة الذي يغذي هذا العالم البائس"، وتأكيداً لما قالته حنة آرنت "لا شيء يقودنا إلى قلب العالم النابض أكثر من الحب"، لذلك يتوسل كبور فرتاد في تيمة الحب صوراً شعرية شفافة ومرهفة "أنا شاعر يرسو بشفتيه على رصيف نهد/ ويكتب قصيدة على شال نادلة". اشتغل الشاعر على موضوعة الحب وفق ثلاثة خطوط لا تتقاطع بالضرورة: استحضاره في سياق من النوستالجيا، والحديث عنه كتجربة راهنة، ثم مخاطبته كشعور غير مرغوب فيه.

في المقابل يلوذ الشاعر بالسوريالية، يصور لنا نفسه وهو يسير في الطريق ثم تسقط منه نظرة على قارعة الطريق "تحولت إلى حذاء أعمى"، أحياناً "يزرع وردة تحت عجلة شاحنة"، وأحياناً "يضع الخرف في قارورة عطر"، و"يجمع أصوات الذئاب في شباك"، ثم يعلن في النهاية "سأتولى دفني بيدي".

يكتب الشاعر نصوصه على إيقاع داخلي خاص، فهذه المسحة الشجنية التي تغلف كتاباته لا يمكن أن تترجم إلينا إلا بصوت خفيض وإيقاع متهاود يقطع مع كل نبرة متعالية. فحتى الصراخ بالنسبة إلى شاعر لن يصل مسامع الآخرين في زمن يعلو فيه بعض الأصوات على بعض، إنه صراخ ينتهي إلى العدم "حين أصرخ في وجه البحر/ لي صفير ريح/ وتصفيق مقبرة".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة